الاثنين ٦ آذار (مارس) ٢٠٢٣
بقلم سماح خليفة

ثيّمة العروبة ومقوماتها في قصيدة «وطني الكبير» لمحمد شريم

إنّ ثيمة العروبة أو الهُويّة القوميّة العربية، لم يخترعها أشخاص بعينهم، وهي ليست فكرة عابرة اخترعها مفكرون، وتغنّى بها شعراء وكتب عنها أدباء عبر العصور، إنّما هي هُويّة شعوب المنطقة العربية - أو الشعب العربي الواحد - بغضِّ النّظر عمّن يقبلها أو يرفضها، مستبدلًا بها هُويّات أممية أوسع أو قطرية أضيق. إنّ الهويّة القوميّة مستمرة كجسر يصل الماضي بالحاضر بالمستقبل، ولو اختلفنا حول تجسير الهوّة التي صنعتها التدخلات والمؤثرات الخارجية، إلا أنها تبقى الأرضيّة الحاضنة للإيدولوجية القومية التي يُبنى عليها.

وقد بدأ تنبّه العرب إلى فكرة القومية العربية وإحيائها منذ أواخر القرن التاسع عشر، في خضم الخطر الذي أحدق بهم في أواخر عهد الخلافة العثمانية، وتهديد التركية للعربية، فانطلقت ألسنتهم وانبرت أقلامهم في تعزيز القومية العربية، وقد صدرت صحف عدة في العواصم العربية – عواصم الولايات آنذاك - كان لها تأثير عظيم في إيقاظ الرأي العام، وبث روح القومية العربية، إلا أنّ رَحاهم ظلّت تدور بين غبن تركيّ وتيقظ عربيّ، فسعوا إلى التخلص من الحكم التركي؛ لتحل محله قيادة عربية، وإيقاظ الشعور القومي والدعوة إلى حكم عربي داخلي، ومنذ تلك اللحظة ومع تتابع السياسات المختلفة، وتبدل القوى الحاكمة العربية، وكذلك القوى المستعمرة التي تخللت ذلك، ظلت طموحات الشعوب وآمالهم بوحدة عربية قائمة حتى يومنا هذا، ومضى الأدباء والشعراء يعبرون عن ذلك في كتاباتهم وقصائدهم.

يعدّ الشاعر الفلسطيني محمد شريم، من الشعراء المعاصرين الذين ظهرت في أشعارهم ثيمة القومية العربية بوضوح، وكانت قصيدته "وطني الكبير" لافتة ومشجعة لإخضاعها لمبضع الدراسة وتناول هذه الثيمة فيها، وما تعلق بها من مقومات على المستويين اللفظي والدلالي.

يقول الناقد المفكر "رولان بارت": "كل عنصر في النص له دلالة...وله وظيفة"؛ فكل مقطع في النص سواء على المستوى الظاهر والمتجلي للملفوظ الشعري، أو على المستوى الباطن والمختفي من الخطاب الشعري تدفعنا إلى تحليل بنيته الشكلية والدلالية. وقد يتموقع دلاليًّا ومعرفيًّا من حيث الفاعلية التأويلية بين عدد من المعارف الإنسانية والاجتماعية، التي قد تلهم الناقد إلى تحديد شرعية الانتماء الدلالي والموضوعاتي والرمزي للنص، في إطار رؤية تكاملية وتحاورية وفق المبدأ الباختيني.

يتكون النص من (55) بيتًا، خاضعة إلى منطق تيبوغرافي خاص، تماهى مع شاعرية محمد شريم وذائقته، وفق إيقاعية خاصة ومميزة من حيث الأبيات الشعرية، والروي (ن)، والوزن (الكامل).

يذهب جيرار جنيث في كتابه معمار النص إلى عدّ العنوان نصًا صغيرًا يختزل النص الكبير، هذه الاستقلالية تجعل العنوان وخاصة العنوان الشعري بنية لغوية يتركب من مفردات ينبغي دراستها تركيبيا ودلاليا للوصول إلى مرامي الشاعر.

لقد ظهرت ثيمة القومية العربية واضحة جلية في قصيدة شريم، فالعنوان (وطني الكبير) يذهب فيه الشاعر إلى إحدى أهم مقومات القومية العربية، وهي الوطن، ونلحظ انتقاء الشاعر لكلمة (وطني) وليس (الوطن) أو (بلاد)، كما هو الدارج (بلاد العرب)على سبيل المثال، إنّ شاعرية شريم الكبيرة تجاه العروبة دفعته لانتقاء صوت الطاء المفخم الجهوري في (وطني) وليس الباء المرققة (بلاد)، والتي تعكس رغبة الشاعر في شكل العروبة التي يتمناها، أن تكون مصدر فخر وعز يجهر بها أمام العالم، وأما ياء المد الذي يعطي مدى واسعًا ممتدًا في الصوت، إنّما تعبر عن رغبة الشاعر في استمرارية الوطن الوجودية لدى العرب.

يخلص ليو هوك إلى أن العنوان ليس فقط عنصرا من عناصر النص، بل هو أداته السلطوية التي تنظم قراءته وتوجهها، فالعنوان عنده له ثلاثة وظائف: الإخبار، والإنجاز والإقناع، وهذا ما نجد تحققه في عنوان النص، فهو جملة خبرية، حيث يشهر الشاعر للقارئ هذه المعلومة المتحققة بوطن قومي كبير تحت شعار العروبة، وينجز هذا المعنى داخل القصيدة كما سنلحظ بعد قليل، فنجد القارئ عندما يتوافق المضمون مع العنوان، يقتنع بفكرة الكاتب، حيث يصبح أكثر مصاقية للإيدولوجية التي يطرحها في قصيدته.

ينتقل الشاعر إلى مقوم آخر للقومية العربية في مطلع القصيدة، وهو الأرض:

لا تَسْأَلـُونــــــــي أَيُّهـــــــــــــا عُنوانِـــــــــــــــي
أَرْضُ العُروبَــــــــةِ كُلُّهـــــــــــا أوْطانــــــــــي

يؤكد شريم على هذه القوميّة برفض السؤال عن العنوان الذي بدوره يحدد هوية الفرد، لكنه برأيه يشرذمها ويجزئها، لينتمي إلى ما هو أشمل وأحق في تثبيت الهوية، ألا وهي كل أرض تحت مظلّة القومية العربية، فيؤكد ذلك معنويًّا بلفظة (كلّها).

يذهب فيما بعد إلى مقوّم لا يقل أهمية عن سابقيه وهو الوحدة العربية، ويوضح أنّ السبيل إلى هذه الوحدة إنّما يكمن في اللغة العربية التي تجمعنا، وهي التي وسعت "كتاب الله لفظًا وغايةً"، فيقول:

قـَدْ وحَّدَتْنــــــــا فـي ظِـــــلالِ فُرُوعِهـــــــــا
لُغــَــــــــةٌ تَضُــــــــــــمُّ بَلاغـَــــــــــــــة َالقُــــــــــــرآنِ

يؤكد شريم في جزئية الخاتمة على الوحدة العربية، حيث ينوّه إلى ضرورة التمسك بها في قوله:
وَتَشَبَّثَـتْ مِـنَّـــــا العُقُـــولُ بوَحْــــــدَةٍ

عَـرَبـِيَّـــــــــــــــــةِ المِقْيـــــــــــاس ِ والأَوْزانِ

لكنه اختار كلمة (تشبّثت) ليعبر عن هذه الضرورة، هنا تكمن الدّقة في وصف المشهديّة، حيث إنّ صوتَي الشين والثاء احتكاكيان، يوحيان بتشابك ما، وهذا الاحتكاك والتشابك الذي يكون في تحقق الوحدة وتشابك الأيدي والأفكار والهدف.

ولا يفوت الشاعر محمد شريم فضلا عن وحدة الوطن والأرض واللغة، مقوم في غاية الأهمية وهو وحدة التاريخ، فتاريخ العرب وما عانوه في ظل الدّخلاء على الوطن من آلام ومعاناة واحد، فيقول:
فَتَفَرَّعَـــتْ مِنْهــــا غُصُــــــونُ حَضـــــــــارَةٍ

بِفَضَـــــــاءِ تاريــــْــــــــخ ٍ مِــــنَ الأزْمــــــــــــــانِ

كما لا يفوت شاعرنا التطرق إلى الأسباب التي نالت من القومية العربية ووحدة العرب، ألا وهي
الخذلان، خذلان الحكام لشعوبهم العربية، حيث يقول:

فَلَعَـــلَّ غُصْنــــاً قَـــدْ ذَوى بِنُفُوْسِنــــــــا
أَوْ كَـــادَ ، فــِــيْ زَمَــــنٍ مِــنَ الخـِـــذْلانِ

وإنّ أمر الشعوب أصبح في يد جهلائها، ممن استهانوا بدينهم وباعوا خيرات بلادهم، لمصالح ومآرب شخصية، باءت بفشل ضيّع الوطن والعرب والعروبة...:

فَــإِذا اعْتَلَــى الجُهَــلاءُ صَهْــوَةَ أَمْرِهـــا
آلـَـــتْ شَكِيْمَتـُـــــهُ إِلـــــــى الطُّغْيـــــــانِ

مما جعلهم مطمعًا لكل من تسوّل له نفسه سرقة هذه البلاد، واستغلال خيراتها، طمعًا في السيطرة عليها، ويلجأ الشاعر إلى رمزية "الآلة" لتوضيح خطط العدو الممنهجة، الموجّهة لتحقيق أطماعها:
وبَغــَــــى عَلَيْهـــــا الطَّامِعُـــــوْن بِغِيِّهِـــــــمْ

وَعَـــدَتْ عَلَيْهـــــــا آلـَـــــــة ُالعُـــــــــدْوانِ

وهذا ما آل بهم إلى التفرقة والتشتت والتمزق، وتجزئة البلاد وتفتيتها، تماشيًا مع سياسة العدو "فرّق تَسُد"، ويؤكد هذا المصاب الجلل معنويًّا باللجوء إلى لفظة "جميعها":

فـَتـَفـَتـَّتـَــــتْ وتـَشـَتـَّتـَـــــتْ أَجْزاؤُهــــــــا
وَجَمِيْعُهـــــــا قــَــدْ بـَـــاءَ بالخـُسْـــــــرانِ

حتى أصبحت مصالح العرب ضربًا من النّسيان، وضاع الهدف، وغيّبت البوصلة، واختار الشاعر جزم الفعل المضارع وقطعه بالتسكين، تأكيدًا منه على تأزم مشهديّة الموقف وتأكيد سلبيّتها بالنفي:
وَطَـــوى مَصالِحَهــــا الَّتِـــــي لَــمْ تَتَّحِــدْ

لِـتـَصـُوْنـَهــــــا ظِـــــلٌ مِــــــــــنَ الـنـِّسـْيــــــانِ

ومع كل ذلك نجد الشاعر شريم حاله كحال أي وطني حريص على وطنه وعروبته لا يفقد الأمل في تحقيق الوحدة العربية والانتصار للقومية العربية، ولا يغيب عن أعيننا الصورة الجمالية التي لازمت الوحدة وهي "عقد الجمان" الذي يبث الفرح والسعادة والأمل:

أَمِــــنَ الغـَرابـَــــةِ أَنْ نُؤَلـِّـــفَ وَحْــــــــدةً
تَبْـــدو عَـلــى الدُّنْيــــا كـَعِـقـْــــدِ جُمَــــــانِ

ولا ينسى شاعرنا أهمية القيادة الحكيمة، ودورها في مواجهة العواصف التي تعصف بالبلاد:

كَــيْ لا نَكُــوْنَ كَمَــنْ أَتَتْهُــمْ عاصِـفٌ
فـِـــيْ مَركـَــب ٍ يَخْـلُــــــــوْ مِــنَ الرُّبـَّــــــــــانِ

والدّور الأهم يكمن في العناية بجيل الشباب، الذي يشكل العنصر الأهم في تحقيق الوحدة العربية، والنهوض بالوطن، فنجده يركز على لفت الأنظار إلى حقوقهم التي ضاعت، والشعور بالنقص الذي سيطر عليهم، فلم يعودوا قادرين على تحمل مسؤولياتهم، حيث يقول:

فـَلَعَـلـَّنـا نـُوفـِي الـشـَّبــابَ حُقُوْقَهُـم
فـَلـَطـَالـَمـَــا عَـانـَــــوا مِـنَ النُّقْصَــــــانِ!

ومن باب تركيز الشاعر على فئة الشباب، تتميز أسلوبيته في القصيدة، بلجوئه إلى الجمل الاستفهامية، لما تفيد من عصف ذهني، يحث الشباب على التفكير، واستخلاص العبر:
أَمِــــنَ الغـَرابـَــــةِ أَنْ نُؤَلـِّـــفَ وَحْــــــــدةً؟

مَا ذَنْـبُ مَـنْ قَـدْ حُوْصِروا فِي عِلْمِهِم
بِالجَهـْــلِ أَوْ مِـنْ شِــدَّة ِ الحِـرْمَـــانِ؟
أَيْـنَ العِنايـَــــة ُ؟
أَيـْـنَ تـَنـْشِـئَــــة ٌ بِهـــــــــا صَـقـْـلُ النُّفُـوْس ِ وَصِحَّــةُ الأَبـْــــدانِ؟

ومما سبق تتجلى لنا شاعرية محمد شريم في التعبير عن القومية العربية بمقوماتها التي هي مطلب كل عربي، وبمفرداتها التي هي حاجة شرائح الوطن كافة بما فيهم الشباب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى