ثُقبة الأوزون
تعالي نقتسم الأرزاق بيننا، فمنّي الخبز ومنكِ الملح، والماء الشّروب يبلبل منّا الريق.
كالمتسكّعين في أزقّة الزّحام العمياء
والمشرّدين من فراغ اللاعمل واللامأوى واللاهدف
والمنتظرين على مقاعد الحدائق العامة
يتأمّلون ويأمَلون
وينتظرون.
والليل إذا أتانا تدريجياً لا يُخيفنا
ولا يرهبنا، فنحن المتسكعون لا نعاني إلا من رهاب الضياء
ونحن الذين ليس لدينا ما نخسره، نملأ ليلنا أحاديثاً مكرّرة وترّهاتٍ سمجة وطرائفَ مُعادَة، ونعاود الاستضحاك لسماعها وكأننا نسمعُها لأول مرّة.
والبرد، دواؤه الاستلحاف ببعضنا، إلا إذا داهمَتْنا شرطة الآداب، لأنّ الاستلحاف الشوارعي ممنوع.
والحرُّ، دواؤه الاستعراق اللمّاع من الجبين يسيل مالحاً نلعقه.
لا لن نتسوّل خبزنا كفافنا فالقرش يأتيني ويأتيكِ من راتبينا الصغيرين في آخر الشهر، لقاءَ عملنا الوظيفي البسيط نمارسه بلا إجهاد، إذ أنّ شأننا كشأن معظم موظّفينا استوظفوهم ليسدّوا رمَق العيش، ويعرفون ونعرف أنّ رواتبنا الخجولة لا تكفينا لنمدّ سيقاننا خارج اللحاف، لكننا ملتزمون كغيرنا بوظائفنا التي لا بديل لها.
اليوم، وبمشوارنا المسائيّ، سأدعوكِ لنتفرّج على واجهات المطاعم الراقية، والمحال الغالية تعرض ألبسةً جميلة، فنتخيّل طاولتنا المليئة المخدومة، ونتخيّل أزهى الحلل تغطّي جسدكِ، وكم ستكونين جميلة؟
نختلف بمناقشاتنا حول الكورونا وضرورة اللقاح أو عدمه، وتشجّعين اللقاح الرّوسي وأشجّع اللقاح الانكليزي، ولكننا تلقّحْنا بالمتوفّر في ذلك المستوصف الحكومي المجّاني رغماً عنا.
لماذا انقرض الحديث عن الكورونا؟
أو نعتزل في شاطئ البحر إذ لا جدران تتنصّت علينا، ونناقش القضايا الشائكة المُختلَف عليها كمحللين سياسَيين محنّكَين
ثم نكتشف كلّ مساء أننا لن نقدّم ولن نؤخّر، ولن نزيح بيدقاً من رقعة الشطرنج
لا نحن، ولا حتى المُمْسكين بزمامنا
كلهم، على عظمتهم، أقل من بيادق
أننتظر زلزالاً هنا، أم فيضاناً هناك؟
ويموت الآمنون في منازلهم، كانوا يظنون أن الحروب الأهلية بعيدة عنهم!
فنضحك كالمجانين، ثم أفتح الكيس الذي يحوي أرغفتي الملفوفة بمخلوط الزيت والزعتر ونأكل، وتأكلين.
وكم نجدها شهيّة! لماذا؟ لأن الجوع ثالثنا ولا يريد مفارقتنا.
لا ، لا تذكّريني بخلافاتنا حول ثقب الأوزون والاحتباس الحراري، يومَها، وصلنا للشيطان الرجيم باختلاف آرائنا.
لا أظنّ أنكِ رأيت ثقب الأوزون، هه هه، ولا أنا رأيته!
هنالك ثقب في جوربي ويزداد اتساعاً لكنه ما يزال مشكلة خفيّة، واهتراءٌ في قميصي الداخلي من تحت إبطه
وحذائي أيضاً، به ثقب في نعله يُضيرني أكثر من ثقب الأوزون والثقوب السوداء.
خذي مزقة من شطيرتي الجوفاء وتخيّليها مفروشة باللحم المشويّ، واشربي من زجاجة الماء التي أحملها فهي نظيفة وفوهتها محرّمة على غيرك يرتشف منها، واليوم سأدللكِ ببعض الترمس، أو كيس من بذور عبّاد الشمس وتتفلين القشور بعصبيّة، وتتذكّرين ضرسكِ المنخور!
به ثقبة أكبر من ثقبة الأوزون
لستُ طبيباً للأسنان فلماذا تصرّين أن تفتحي فاك وتريني ضرسك المتّشح بالسّواد؟ وماذا سيقول المارّة عنا إن شاهدوني أضع ضوء هاتفي الجوال في فمكِ؟
هه هه سأقول لهم ليس لدينا ما نخفيه عن بعضنا، ولم يبق علينا إلا سبر أغوار أضراسنا.
هه هه ، ماتت جدّتي وفي فمها سبعة تيجانٍ من الذهب تغطي أسنانها، أنا أعرف قبرها، ما رأيك أن نزورها لنقطف أسنانها الثمينة
برأيي، إن قمّة الحب نصلها عندما لا تخجل حبيبتك من فتح فمها على مصراعيه أمامك، بلا معطّر للأنفاس ولا شفاه ملوّنة بالأحمر.
والساعة قاربت العاشرة مساء، هيا بنا نعود سيراً على الطريق الشاطئي، والسيارات المتسكّعة الجوّالة لن تتركنا، إنهم يتحرّشون بنا، يظنّونكِ من بنات الليل، لا تخافي، سأدافع عنكِ ولو أحاطوا بي بسياراتهم بأضوائها الكاشفة، ودرّاجاتهم النارية تدور حولنا كالذئاب المتصيّدة.
ثم تتمسّكين بتلابيبي تحتمين منهم، وأضعكِ عن يساري لتكون يُمنايَ القويّة حرّة في الذّود عنك، ثم تفاجئني ضربة على قفا رأسي تفقدني الوعي، وأفيق بعد ساعة على بكائك ونشيجك المكتوم، وعندما أرى ثيابك الممزّقة تحاولين لملمتها، أستنتج ما جرى وأتمنّى أن يكون مجرّد كابوس.
وأنا أعلم أنها حقيقة، لا تبتئسي سنعتبرهم يستكشفون ثقب الأوزون، وثيابك الممزقة تلك ستخفّف عنكِ الاحتباس الحراريّ.
ونعود لتسكّعنا وقد اقتربنا من البيت، بيتكِ أو بيت ذويك، لا تقلقي، قريباً سأحتويكِ في بيتنا المشترك، راضياً بكِ على علّاتك.
لا تقلقي، ولا تكترثي، فأنتِ وأنا لم نخسر شيئاً بما جرى، لأننا فعلاً ليس لدينا ما نخسره.
ثقب الأوزون موجود، وهو حقيقة جدليّة، ويحاولون الآن ترقيعه.
وباقٍ لدي سيجارتان في علبتي، وقد أشعلتُ إحداها لتوّي، والقلق يداهمني لأنّ ليلي طويل كما يبدو، ولن تكفيه سيجارة واحدة.
آهٍ من ليل مدينتنا، وكم يُخفي من المتسكّعين، ومنهم من لا بيت له فينام في حديقة عامة، أو تحت جسر للسيارات، يعتبره سقفاً يقيه من المطر.
أترين هذا الجدار وكم به من ثقوب؟
إنها ثقوب طلقاتٍ نارية، وهنا لسنا في أرض المعركة، فلماذا يطلقون النار على جدار؟
هه هه قد تكون عملية إعدام تمت هنا، حيث يلصقون الآيل للإستعدام على الجدار، ويفتحون به ثقوباً حمراء!
كم أتمنّى أن تكون الكواكب الأخرى مسكونة، فيتسللون إلينا من ثقب الأوزون أو من أيّ ثقب آخر من ثقوب المجرّة، ويهبط بجانبنا صحنٌ طائر، ويترجّل منه رجالٌ يخطفوننا ويستخدموننا كعبيد في مستعمراتهم الكونية، ونراقب سكان الأرض الأشقياء من بعيد.
ونراهم يجثون ويصلّون ويراقبون السماء
هم لا يتغزّلون بجمال القمر
ولا يعدّون نجوم الظهر
ولا ينتظرون كسوف الشمس
ولكنهم يبحثون عن ثقبٍ في السماء تكون به ومن خلاله فتحة الخلاص.
وصِلَة الوصل مع العالم المرجوّ المنتظَر
والذي طال انتظاره.