

جراح البندقية
ترجّل عن حصانه الأسود.. على كتفه البندقية، وهو مقلّد بحزام الذخيرة كالوسام الملكيّ. شرب من ماء النهر، سقى جواده ثم امتطاه مجددًا وغار في الوادي كأنه الماء ينحدر ليسقي كل ترابٍ عطِشٍ. هناك التقى مجموعةً من الفرسان استقبلوه بحفاوة وابتسامات تخللها رفعٌ للبنادق. تحية الفدائيين.
توزّعت المجموعة المؤلفة من خمسة فرسان بحسب تعليماته. بدأت الدورية الفرنسية المدججة بالسلاح تصل إلى أطراف الوادي.. عربةٌ يقودها جوادان يبدو أن بداخلها ضابطًا كبيرًا، ويحوطها العديد من العناصر، الفرسان منهم والمشاة.
سارت الدورية بمحاذاة النهر.. وعندما وصلت إلى نقطة الكمين أعطى ذلك الفارس إشارته، فبدأ الرصاص يتطاير بعضه يخترق صدور الجنود وبعضه يفرقع على الصخور. سقط حصانان وعشرة فرنسيين، ثم بدأ الجنود بالردّ عندما استوعبوا الصدمة، فاستُشهد رجلٌ من مجموعة الفارس وجُرح آخر.. الضابط لا يزال مختبئًا في هودجه لم يجرؤ على الخروج. أطلق الفارسُ النار على العربة، فتبعه رفاقه حتى تهشّمت، وسُمع صوت صراخ ثم نزل منها الضابط يمشي مترنّحًا بضع خطوات ويده على رقبته يغطّيها السائل الأحمر. صمدت قدماه ثانيتان فقط قبل أن يسقط على الأرض.
بدأت المجموعة بالانكفاء ما عدا الفارس الذي بقي يؤمّن لهم الانسحاب، وعندما نفدت ذخيرته امتطى جواده فلحقه جنديان فرنسيان عزما على القبض عليه. أطلق أحدُهما النار، فأصاب كتفه، لكنه ظلّ يحثّ حصانه على الجري، فأطلق الثاني رصاصةً أصابت الجواد فسقط على الأرض ووقع الفارس عن ظهره. نزل الجنديان، ولم يملكا الوقت لكي يذخّرا بندقيتيهما، فشهَر أحدُهما سيفه وكرّ على الفارس، فما كان من الفارس إلا أن رفع بندقيته فتلقّت ضربةَ السيف فوق الزناد بقليل، ثم ركل الجندي الأول وضرب الثاني بكعب البندقية على رأسه، فسقط مغميًّا عليه.
نظر الفارس إلى حصانه المضرّج بالدم. قرفص بقربه يسمع حمحماته الأخيرة. أغمض عينيه ثانيةً وهو يختبر شعور فارسٍ يفقد جواده الوفي لسيف صاحبه والسّخي في ميادين المواجهات. مسح على عنق الجواد كأنها صلاةُ وحشة. ثم نهض وعلّق بندقيته على كتفه وهو يذخّر رباطة جأشه من جعبةٍ لا تنفد، قفز على حصان أحد الفرنسيين، أمسك اللجام بكفّه، ويده الأخرى تقطر دمًا... واختفى بعد لحظات في غابة "وادي الحجير".
استيقظتُ منتفضًا من ذلك الحلم العجيب كأني كنت مشاركًا في المعركة. أشعر كأني لا أزال في الوادي أركض معهم. أسرعتُ إلى غرفة الجلوس وأشعلت قنديلاً. وقفتُ على الكنبة وأمسكت البندقية عن الحائط ورحت أتحسّسها. قلبتُها في يدي فشعرت كأني أشاهد معجزةً نزلت من عالم الغيب فملأت عينيّ بالذهول. اقشعرَّ بدني وتجمّد الدم لحظةً في عروقي. كان الثلمُ الذي أحدثَه وقعُ السيف على البندقية واضحًا تمامًا، وفي المكان نفسه الذي رأيتُه في عالم الرؤية. لم أنتبه له سابقًا أبدًا في المرات القليلة التي سمح لي أبي أن أحمل البندقية. ربّما من خشوعي أمام عظمة ذلك الفارس الذي حلمتُ به وقداسة سلاحه، فلم أدقّق في جزئيات السلاح.
سوف أنال أخيرًا ما كنتُ أرجوه.. بندقية أبي التي ورثها عن جدّي الشهيد. لطالما أخبرني أبي عن جدّي كيف كان يحارب الاستعمار الفرنسي. كنتُ أنظر إليها كل يوم منذ صباي، وهي معلقة على حائط بيتنا بشموخ وكبرياء. ولا يعلوها شيءٌ سوى سيفٌ نحاسيٌّ له شفرتان.
اليوم موعد زفافي، وقد وعدني أبي أن يقدم لي تلك القطعة النفيسة من التاريخ هدية.
– لماذا تستعجل هديتكَ يا حسن؟! صبرتَ عشرين سنة يمكنك أن تصبر نهارًا واحداً بعد. نبّهني من ذهولي وتفكّري صوتُ أبي، وقد استيقظ لصلاة الفجر.
أجبتُ ابتسامةَ والدي وتساؤله بابتسامةٍ تخفي دمعةً من أعماق الفخار، أخذت نفَسًا عميقًا وأغمضت عينيّ ورفعتُ رأسي نحو السماء. مسحتُ على الخدش الذي على البندقية، وكأنني أمسح جراحَ جدّي فوق كتفه.
علّقتُ البندقية مكانها.. حاول الكثيرون نزعها من جدي!! لقد تجذّرت في يدنا كما تجذر الشعب في تراب الأرض. بدأ خيطُ الفجر يتسلل من النافذة، وأثير المآذن يمسح على تلال جبل عامل.
بدت البندقية كأنها تتنفّس مع الصبح، شعرتُ أنّي أشمّ فيها عبق العزم والتحدّي وطيب أشجار التين والزيتون.. وإرث الحرف والسيف.. وحكاية الدحنون.
هذا ما أنبأتني به ... جراحُ البندقية...