الاثنين ٧ آب (أغسطس) ٢٠١٧
بقلم عمرو صابح

جمال عبد الناصر و سيناء ... 1967-1970

"الموضوع مش هو مسألة جلاء إسرائيل عن سيناء وحدها، يمكن لو كانت دى هى المسألة.

أقدر احصل عليها بكرة بتنازلات.

أنا بقول للمثقفين بيفكروا ما ينفعلوش، أنا بقول لو العملية سيناء بس عايز.. برضه تفهموا كلامى.. لو العملية سيناء بس سهلة.

العملية مصيرنا؛ مصير العرب.. علشان لو كنا عايزين نسترد سيناء ممكن بتنازلات بنقبل شروط أمريكا وشروط إسرائيل، نتخلى عن الالتزام العربى ونترك لإسرائيل اليد الطولى فى القدس والضفة الغربية وأى بلد عربى، ويحققوا حلمهم اللى أتكلموا فيه من النيل إلى الفرات، ونتخلى عن التزامنا العربى.. بندى هذه التنازلات ونقول لهم يعدوا فى قنال السويس، ويرفعوا علم إسرائيل فى قنال السويس، وبيمشوا ويتركوا سيناء.

الموضوع مش هو الجلاء عن سيناء وحدها، الموضوع أكبر من كده بكتير.. الموضوع هو أن نكون أو لا نكون.

موضوع إزالة آثار العدوان أكبر من الجلاء عن سيناء.

هل سنبقى الدولة المستقلة اللى حافظت على استقلالها وعلى سيادتها ولم تدخل ضمن مناطق النفوذ واللا حنتخلى عن هذا؟

إحنا مجروحين.. جزء من أرضنا محتل، ولكن رغم هذا؛ رغم الجرح هل نتنازل عن كل التزاماتنا العربية، وكل المثل وكل الحقوق، ونقبل إن إحنا نقعد مع إسرائيل لنتفاوض فى الوصول إلى حل؟

إسرائيل بتقول كده، أمريكا بتقول كده

إيه المقصود بإزالة آثار العدوان؟

أما نتكلم على إزالة آثار العدوان لازم نفهم أطراف وأبعاد إزالة آثار العدوان.. والمسألة مسألة كبيرة؛ كبيرة جداً، ومسألة أيضاً خطيرة؛ لأن أمريكا أيدت إسرائيل، ساعدتها فى الأمم المتحدة، وأدتها الأسلحة، وأدتها المعونات المالية، وبمقدار كبر وخطورة الموضوع.. بمقدار ما يحتاجه من تكاليف وتضحيات. المسألة مش مسألة حل أزمة الشرق الأوسط.. المسألة هى نوعية الحل، شرف الحل، شرفنا.. مستقبلنا.. ومصيرنا".

هذه هى كلمات الرئيس جمال عبد الناصر فى خطابه يوم 25/4/1968 بعد 10 شهور من هزيمة يونيو 1967.

وهى تعنى ببساطة أن الصراع بين الأمة العربية والكيان الصهيونى لم يكن أبدا صراعا مصريا إسرائيليا على سيناء فقط ، الصراع بين الأمة العربية والكيان الصهيونى هو صراع وجود وليس صراع حدود.

إسرائيل زرعتها الإمبريالية العالمية عنوة فى المنطقة لتقسم العالم العربي لقسمين وتعمل كقلعة متقدمة للغرب فى قلب العالم العربي تجهض أى محاولة للنهضة فى المنطقة الإستراتيجية الأهم فى العالم حيث يوجد عصب الحضارة الغربية (البترول)، والأخطر لكى ترث دور مصر فى المنطقة وتحل محلها.

وقد أدرك الرئيس عبد الناصر ذلك جيدا لذا ظل حتى مماته يرفض الحلول الجزئية للصراع العربي الإسرائيلي.

يقول مؤسس دولة إسرائيل دافيد بن جوريون لوزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس فى 14 مايو 1953:

(أنكم مهتمون بمصر وأود أن ألفت نظركم إلى أن إسرائيل تملك نفس المزايا التى تملكها مصر، فكلاهما يطل على البحر الأبيض والبحر الأحمر وما بين ميناء إيلات و ميناء حيفا يمر نفس الشريان الحيوى الذى يمر بين بورسعيد و السويس وهو مهيأ لحفر قناة جديدة تصل مابين البحرين، وأنا لا أعرف لماذا يريد المصريون أن نخرج من النقب، إن لديهم صحارى بأكثر مما يكفيهم و لديهم أرض تزيد عن حاجتهم وحجم بلادهم يساوى 36 مرة حجم إسرائيل)
هكذا يعترف بن جوريون بصفاقة إن إسرائيل تستطيع بموقعها وراثة دور مصر فى الإقليم، وإسرائيل ليست مستعدة للتخلى عن صحراء النقب لأنها تفصل مصر عن المشرق العربى.

وبرغم ذلك يعتقد البعض خاصة من المصريين، ان الرئيس الراحل أنور السادات، كان رجلا عبقريا بالغ الذكاء سابقا لعصره ضحك على الإسرائيليين و أسترد منهم سيناء مقابل معاهدة سلام، وتجد أنصار الخط السياسي للرئيس الراحل يتبجحون بالقول أن السادات أسترد سيناء بينما عجز السوريون والفلسطينيون عن ذلك لأنهم عارضوه ولم يتبعوا خطه السياسي.

وليس ذلك صحيحا لأن إتباع السادات للحل الجزئى ورهانه على الدور الأمريكى فى حل الصراع العربى الإسرائيلى هو السبب الرئيسى فى تأزم التسوية الشاملة وضياع أراضى السوريين والفلسطينيين.

كان الرئيس عبد الناصر زعيما استثنائيا فى تاريخ الأمة العربية ، وكان يضع نصب عينيه دائما المصالح الوطنية للشعوب العربية ولذلك فلم يكن يسعى لإخفاء قراراته المصيرية ورؤاه السياسية لذا فإن كل مباحثات واجتماعات وقرارات ولقاءات وخطب الرئيس عبد الناصر بالنسبة لمختلف القضايا الداخلية والخارجية مسجلة وموثقة وأصولها موجودة فى أرشيف رئاسة الجمهورية وأرشيف وزارة الخارجية وأرشيف القيادة العامة للقوات المسلحة، وقد تم ذلك بناء على أوامر الرئيس عبد الناصر للسيد/ سامى شرف سكرتيره للمعلومات ووزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق، وقد ظل هذا التقليد متبعا حتى قيام الرئيس السادات بانقلابه على الثورة فى 13 مايو 1971،حيث ألغى قرار الرئيس عبد الناصر السابق، لذ فلا توجد وثائق أو تسجيلات لأخطر القرارات والاتفاقيات والاجتماعات التى قام بها الرئيس السادات خلال فترة حكمه ولا يمكننا الاعتماد إلا على مذكرات بعض من عملوا معه، أو على مذكرات الرؤساء والمسئولين العرب والأجانب الذين التقوا به وأتفقوا معه، لكن جميع اتصالات الرئيس السادات مع الجهات المعنية سواء المحلية أو العربية أو الأجنبية لا توجد لها وثائق منشورة توضح رؤيته ومناقشاته مع زواره من المسئولين وبشكل خاص مع الأمريكيين.

وأفضل دليل على ذلك هو اجتماعه المنفرد مع وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر يوم 7 نوفمبر 1973 بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار فى حرب أكتوبر 1973 فما دار خلال هذا الاجتماع الخطير لم يسجله احد غير كيسنجر فى مذكراته، حيث يقول أنه فوجئ بالرئيس السادات وأطروحاته، فالرئيس السادات لم يطلب منه أن تعمل الولايات المتحدة على انسحاب إسرائيل من جميع الأراضى المحتلة في حرب 1967 في إطار تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي وتفاوض على حقوق الشعب الفلسطيني.

بل كل ما طلبه هو انسحاب إسرائيلي من ثلثى سيناء حتى خط العريش – رأس محمد، وبهذا خالف الرئيس السادات الموقف العربي الثابت منذ حرب 1967، وحتى هذا المطلب رغم سرور كيسنجر به، رفضه كيسنجر قبل الرجوع للإسرائيليين، والرئيس السادات يصارح كيسنجر أن حصار الجيش الثالث ليس جوهر المسألة وخطوط وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر 1973 لا تصلح للنقاش بين صانعى سياسة مثله هو وكيسنجر، وأنه راغب بشدة في عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر و الولايات المتحدة،وهى العلاقات التي تم قطعها بين مصر والولايات المتحدة عقب حرب 1967، وإثر الدور الأميركى الواضح في الحرب تخطيطا وتنفيذا ضد مصر، وعقب هذا القرار المصري قطعت معظم الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية بالولايات المتحدة وتم خروج 62 ألف أميركى من الوطن العربي في مشهد مهين لهيبة وكرامة الولايات المتحدة الأميركية، وهاج الرئيس الأميركى جونسون معتبرا ما حدث صفعة لمكانة الولايات المتحدة وتحريض شرير من الرئيس عبد الناصر، وطوال الفترة من 1967 وحتى 1973 حاولت الولايات المتحدة بشتى السبل العمل على عودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأميركية دون جدوى لإصرار مصر على أن تلزم الولايات المتحدة إسرائيل بالانسحاب من الأراضى العربية قبل تلك الخطوة،والآن يقوم الرئيس السادات وبعد حرب ضارية اهتزت فيها ثقة إسرائيل وتم كسر جيشها بتقديم هذا العرض المجانى، أغتبط كيسنجر لذلك وفى ذهنه ما هو أبعد وأهم، فعودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأميركية تفتح الباب لعودة علاقات أميركا بكل دول العالم العربي، ويبلغ الرئيس السادات كيسنجر أنه قرر أن يرفع مستوى التمثيل الدبلوماسى فورا من قائم بالأعمال إلى سفير بالنسبة لمصر والولايات المتحدة، وكل ذلك بدون مقابل.

ولم يكتف الرئيس السادات بذلك بل يبلغ كيسنجر أنه ليس خلفا للرئيس عبد الناصر بل خلفا لأجداده من الفراعنة الكبار، ويبلغه أنه ينوى تصفية ميراث سياسات الرئيس عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية وتوجهاته القومية العربية، وسيعمل على طرد السوفيت من الشرق الأوسط.

ويقول السادات لكيسنجر لقد كانت حماقة وطيش من عبد الناصر محاولاته الدائمة لابتزاز الأميركيين وتحقيق أهداف مصر من خلال محاربة السياسة الأميركية في العالم العربي وعلى امتداد العالم، وإن مصر خاضت ما يكفيها من حروب من أجل العرب وتتطلع إلى السلام.

يسجل كيسنجر في مذكراته تلك الكلمات عن الرئيس السادات (أنه يمثل لى أفضل فرصة لكى نقلب المشاعر و الاتجاهات العربية والمواقف العربية تجاه إسرائيل، وهى أفضل فرصة تتاح لدولة إسرائيل منذ قيامها)، يقول كيسنجر أنه هو الذي أوحى للرئيس السادات أن المشكلة بين مصر وإسرائيل هى مشكلة نفسية نتجت عن عدم ثقة إسرائيل بنوايا مصر وخوفها على أمنها، وأن يجب على مصر أن تعطى إسرائيل الإحساس بالأمان وتهتم بشئونها فقط بدلا من الاهتمام بمشاكل العرب الآخرين، وكالعادة يوافقه الرئيس السادات ويصارحه أن المشكلة الأساسية نجمت من رفض الرئيس عبد الناصر الاعتراف بالهزيمة عام 1967 وإصراره على الحل العسكرى للصراع وتمسكه بحل شامل على كل الجبهات العربية مما كلف مصر الكثير.

هذا الاجتماع بالغ الخطورة والذى دشن الدخول الأمريكى لمصر بعد أن أغلق عبد الناصر أبواب مصر أمام الامريكيين طيلة حكمه، لا توجد وثيقة واحدة فى الدولة المصرية عن تفاصيله،وإن كان كل ما تعهد به السادات لكيسنجر قد تم فعلا، مما يثبت صدق ما نقله كيسنجر عن وقائعه.

بل أن الأستاذ محمد حسنين هيكل يذكر أن الرئيس السادات بعد مظاهرات الطعام فى يناير 1977 وإثر شعوره بجحود الشعب المصري لأعماله، وتحسبا لانتفاضة شعبية جديدة ضده ربما تطيح به، قرر أن يقوم بحرق كل أوراقه ووثائقه الهامة فى يوم خصصه لهذا الغرض سنويا مما أضاع العديد من الوثائق والقرارات المتعلقة بتاريخ مصر فى عهد السادات.

ولكن بفضل قرار الرئيس عبد الناصر بتوثيق تاريخه أصبحت مهمة الباحث التاريخى أكثر سهولة فى التنقيب عن خفايا تاريخنا العربي المعاصر، وكشف ما تم كتمانه من حقائق عن الصراع العربي الإسرائيلى بعد الانقلاب الذى تم فى السياسة المصرية عقب حرب أكتوبر 1973.

فى هذه الدراسة سأقوم بعرض مجموعة من الوثائق المنشورة والمتاحة للجميع عن عروض السلام الأمريكية الإسرائيلية للرئيس عبد الناصر عقب هزيمة يونيو 1967، والتى ستبين بوضوح أن سيناء لم تكن أبدا سببا للصراع العربي الإسرائيلي، فلم يعد سرا الآن أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية حاولتا باستماتة إغواء الرئيس عبد الناصر بقبول صلح منفرد مقابل استعادة سيناء كاملة بدون قيود بشرط الخروج من الصراع العربي الاسرائيلي، والتعهد بانهاء حالة الحرب مع إسرائيل.

كانت البداية فى يوم 9 أغسطس 1967 وبعد شهرين من هزيمة 5 يونيو الساحقة، أرسل الرئيس الأمريكى ليندون جونسون رسالة إلى الرئيس اليوغسلافى جوزيف بروز تيتو طالبا منه إبلاغها للرئيس جمال عبد الناصر، يعرض الرئيس جونسون فى رسالته للرئيس عبد الناصر إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، والسماح للسفن الإسرائيلية بالمرور فى قناة السويس ومضيق تيران فى خليج العقبة مقابل إعادة سيناء إلى مصر وكل ذلك بدون مفاوضات مباشرة بين مصر وإسرائيل، وبدون اعتراف مصر بدولة إسرائيل ،والتطبيع فى شتى المجالات معها، وبالطبع دون زيارة القدس المحتلة وإلقاء خطاب فى الكنيست الإسرائيلى وفوق رأس رئيس مصر عبارة (من النيل للفرات أرضك يا إسرائيل).

هذا كان أول عرض أمريكى لرد سيناء فقط لمصر دون شروط دون مفاوضات مباشرة دون اعتراف بإسرائيل.

وقد رفضه الرئيس عبد الناصر لأنه حل جزئى غير شامل وأصر على حل شامل للصراع العربي الإسرائيلي يشمل عودة كل الأراضى العربية التى تم احتلالها فى حرب يونيو 1967، ويضمن حقوق الشعب الفلسطينى فى وطنه.

وفى مؤتمر القمة العربية بالخرطوم فى 29 أغسطس 1967 حدد الرئيس عبد الناصر معالم المعركة القادمة عندما قاد المؤتمر لإقرار اللاءات الثلاثة فى مواجهة إسرائيل (لا صلح.. لا تفاوض. لا اعتراف).

فى شهر نوفمبر من عام 1967 يقابل وزير الخارجية المصرى محمود رياض ممثل الولايات المتحدة فى الأمم المتحدة آرثر جولد بيرج الذى يطلب من رياض نقل عرض جديد من الرئيس جونسون للرئيس عبد الناصر ينص على:

انسحاب إسرائيل من الأراضى المصرية (سيناء) مقابل احترام مصر لسيادة إسرائيل والإقرار لها بالملاحة فى قناة السويس ومضيق تيران.

ونلاحظ هنا أن عرض جونسون لم يتضمن شرط الاعتراف السياسى المصرى بدولة إسرائيل.

كان رد محمود رياض على العرض الجديد هو أن مصر ترفض الحديث عن أى انسحاب خاص بسيناء فقط، لأن سياسة مصر ترتكز على الحل الشامل للصراع العربي الإسرائيلي بمعنى أنها حين تتحدث عن انسحاب إسرائيلى تعني انسحاب إسرائيل من كل الأراضى العربية التى تم احتلاها فى حرب يونيو 1967.

وعندما يقول جولدبرج لمحمود رياض : ولكننا سنعيد لكم سيناء.

يرد رياض: لن نسمح بإعطاء إسرائيل مكاسب إقليمية مكافأة لها على عدوانها، ولن نقبل بحل جزئى.

كان هذا هو العرض الثانى.

وبعد مرور عام عليه وفى يوم 2 نوفمبر 1968 جاء العرض الثالث وكان أول مشروع رسمى تقدمه الولايات المتحدة لمصر ينص على انسحاب إسرائيل من سيناء.

حيث اجتمع وزير الخارجية الأمريكى دين راسك مع وزير الخارجية المصرى محمود رياض فى نيويورك حيث كان الاثنان يحضران الدورة السنوية العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وفى ذلك الاجتماع قدم الوزير الأمريكى لمحمود رياض مشروع رسمى أمريكى من سبع نقاط هى:

1- انسحاب إسرائيل من الأراضى المصرية بالكامل.

2- إنهاء حالة الحرب بين مصر و إسرائيل.
3- يتبع ذلك فتح قناة السويس للملاحة الإسرائيلية.

4- حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين على أساس سؤال كل لاجئ بطريقة سرية وبصفة شخصية عن مدى رغبته فى العودة إلى فلسطين، وفى حالة رفضه فله أن يختار أى بلد يريد أن يذهب إليه دون أن يشكل ذلك ارتباطا مسبقا على تلك الدول.

5- تواجد قوات دولية فى شرم الشيخ، على ألا تنسحب إلا بقرار من مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة.

6- التفاهم حول مستوى التسليح فى المنطقة.

7- توقيع مصر على وثيقة تتضمن هذه الالتزامات، وكذلك إسرائيل.

وهذا العرض أيضا بدون اعتراف رسمى وبدون مفاوضات مباشرة وبالطبع بدون زيارة للقدس المحتلة.

وعندما يتساءل محمود رياض عن مصير غزة والضفة الغربية والقدس والجولان، يرد عليه دين راسك: أننى أتحدث الآن مع وزير خارجية مصر.

وهنا رفض محمود رياض المشروع على الفور لأنه حل جزئى للصراع العربي الإسرائيلى ويخالف سياسة مصر، فيطلب منه دين راسك أن يعرض المشروع على الرئيس جمال عبد الناصر قبل اتخاذه لقرار خطير كهذا برفض عودة سيناء لمصر.

وفى الأول من ديسمبر عام 1968 تلقت الولايات المتحدة رد الرئيس جمال عبد الناصر على مشروعها الرسمى للسلام وجاء فيه:

"إن التزامات الدول العربية المنبثقة من عضويتها فى جامعة الدول العربية ، وميثاق الدفاع المشترك من جانبها فى إطار الجامعة، يجعل أى عدوان ضد أى منها عدوانا ضد جميع الدول العربية لهذا فإن إنهاء حالة الحرب من جانب الجمهورية العربية المتحدة (مصر) يتطلب انسحاب إسرائيل من جميع الأراضى العربية."

وقد علق الرئيس عبد الناصر على هذا العرض للسلام فى جلسة مجلس الوزراء المصرى التى عقدت يوم 6 نوفمبر 1968 بقوله:"لو ركزنا الحل على انسحاب إسرائيل من سيناء، وتركنا بقية الأراضى العربية المحتلة، فإن تلك هى الخيانة بعينها ، لقد قبلنا قرار مجلس الأمن رقم 242 من أجل الحصول على الوقت الكافى لإعادة بناء قواتنا المسلحة، وأنا شخصيا غير مقتنع بالقرار لأن إسرائيل لا تفهم غير لغة القوة، نحن ملتزمين بعدم إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل طالما هناك شبر واحد محتل من أراضينا العربية، وحتى لو تعهدنا بإنهاء حالة الحرب سيكون التعهد معلق بالانسحاب الإسرائيلى الكامل من كافة الأراضى العربية المحتلة و أولها القدس مع حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لأن موافقتنا على قرار مجلس الأمن الخاص بحرية الملاحة فى قناة السويس مرتبط بحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فإذا حلت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين تحل مشكلة قناة السويس."

كان هذا المشروع الرسمى الأمريكى هو أخر عروض الولايات المتحدة الأمريكية لمصر فى عهد الرئيس الأمريكى جونسون، وكان مضمونه الأساسي هو انسحاب إسرائيل بالكامل من سيناء دون شروط مقابل أن تفصل مصر نفسها عسكريا وسياسيا عن الدول العربية الأخرى ومصير أراضيها المحتلة.

وفى حديث لرئيس وزراء إسرائيل ليفى أشكول مع مجلة نيوزويك الأمريكية عدد ( 17 فبراير 1969) يقول:

(خلال العقدين الأخيرين كررنا دائما فى إسرائيل قولنا بأننا مستعدون لمناقشة مشاكلنا مع ناصر، أننى مازلت مستعدا لأن أطير إلى القاهرة، ولن أتحدث مع ناصر كمنتصر ولكنى سأبلغه أن إسرائيل مستعدة لإعادة سيناء كاملة إلى مصر وبدون أى قيد أو شرط حيث أنه لم تكن لإسرائيل فى أى وقت طلبات من أجل نزع سلاح سيناء، ولكن بالنسبة لمرتفعات الجولان والقدس و الضفة الغربية فأن إسرائيل ببساطة لن تتنازل عنها، سنرد لناصر سيناء بدون شروط مقابل أن يهتم بشئون مصر ولا يتدخل فى شئون الدول العربية الأخرى) .

وبعد وفاة أشكول وتولي جولدا مائير منصب رئيسة الوزراء فى إسرائيل كررت نفس كلام سلفها عن استعدادها للطيران إلى القاهرة والتفاوض مع الرئيس عبد الناصر،إذا وصلتها دعوة من عبد الناصر بذلك، بالطبع لم يرسل عبد الناصر أبدا دعوة كهذه، ولكن فى 19 نوفمبر عام 1977 حطت طائرة الرئيس الراحل أنور السادات فى القدس المحتلة بعد أن أعلن عن استعداده لزيارة إسرائيل إذا جاءته دعوة من مناحم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلى الذى أرسل له الدعوة على الفور.

عبد الناصر بعد الهزيمة رفض كل تلك الحلول والمقترحات للحصول على سيناء بدون شروط مقابل فك ارتباطه بالعالم العربي، والسادات بعد النصر يذهب هو بنفسه إلى فلسطين المحتلة ليحصل فى النهاية على سيناء منزوعة السلاح مع قطيعة شاملة مع العالم العربي ن وضياع لدور مصر الإقليمى و تبعية مقيتة للإمبراطورية الأمريكية.

فى يوم 9 سبتمبر 1969 يعلن وزير الخارجية الأمريكي وليم روجرز عن مشروع أمريكى جديد للتسوية السلمية بين مصر و إسرائيل يتضمن انسحاب إسرائيل إلى حدودها السابقة على حرب يونيو 1967 فى سيناء مقابل اعتراف مصر بإسرائيل وإنهاء حالة الحرب، كما يتم إجراء مفاوضات بين إسرائيل والأردن بشأن الضفة الغربية والقدس ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

وفى يوم 9 نوفمبر 1969 تلقى وزير الخارجية المصري محمود رياض تلك الرسالة من وزير الخارجية الأمريكى وليم روجرز بخصوص العرض الأمريكى الجديد والذى عرف باسم (مشروع روجرز):

عزيزى السيد الوزير

"إنى أعرف أنك مهتم بالكيفية التى سيمكن بها مراعاة الجوانب الأخرى من التسوية العربية الشاملة، وأستطيع أن أؤكد لك بأنه لا توجد لدينا النية لمحاولة فصل الجانب المتعلق ب ج.م.ع (مصر) عن الأجزاء الأخرى، فنحن نرى التسوية كما ترونها تسوية متكاملة وشاملة، إن المطلوب هو استجابة إيجابية من حكومتكم".

يقول أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل عن خطة روجرز أنها إعلان أمريكى صريح وقاطع بضرورة انسحاب إسرائيل إلى خطوط 4 يونيو 1967 على الجبهتين المصرية والأردنية، وقد اعتبرتها رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير بمثابة الكارثة.

لذا أعلنت الحكومة الإسرائيلية رفضها لخطة روجرز، لأن إسرائيل لن تقبل بحل شامل للصراع ولكن يمكنها القبول بعودة سيناء لمصر مقابل خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي.

لنتذكر هذا جيدا نحن نتناول وقائع جرت فى عام 1969 مصر مازالت تعانى من أثار الهزيمة ،وسيناء مازالت محتلة، ورغم ذلك ترفض مصر باستمرار عودة سيناء فقط بدون شروط دون عودة بقية الأرض العربية المحتلة، وضمان حقوق الشعب الفلسطينى.

فى يوم 1 يناير 1970 يقول الرئيس عبد الناصر فى خطابه بالإستاد الرياضى فى الخرطوم
"لقد حاول الاستعمار بكل الوسائل طوال هذه الأشهر- سنتين ونص - أن يكسر من مقاومتنا وأن يجعلنا نستسلم ونسير فى طريق غير طريق الصمود إننا قلنا إننا نريد السلام ولكنا لم نقل أبداً بأى حال من الأحوال أننا نقبل الاستسلام من أول يوم، بعد النكسة قلنا إننا نعمل من أجل السلام، وهناك - أيها الإخوة - فرق كبير بين السلام وبين الاستسلام، وقد أرادت الولايات المتحدة الأمريكية وهى تدعم إسرائيل بكل وسيلة من الوسائل أن يستمر تدعيمها ليس فقط بالسلاح.. ليس فقط بالمال، ولكن فى المجال السياسى، فكانت تعمل على أن تحول قرار مجلس الأمن إلى مشروعات مشبوهة للتسوية، وتقول إن قصدها من هذا السلام، ولكنا نعرف أن قصد الولايات المتحدة الأمريكية كان دائماً هو تمكين إسرائيل من رقاب الأمة العربية، وتمكين إسرائيل من أرض الأمة العربية وقد رفضنا دائماً هذه المشروعات المشبوهة من سنة ٦٨ وسنة ٦٩، كانت المشروعات تتلخص أساساً فى التفرقة بين العرب، تسوية لمصر وحدها، ثم بعد هذا تسوية للأردن، وكنا نعلم أن هذا يعنى أن القدس قد ضاعت وأعطيت لليهود، وأن الضفة الغربية قد ضاعت وأعطيت لإسرائيل، ولهذا رفضنا وقالوا لنا إن مسألة الحدود مع مصر ليست مسألة نقاش وليست مسألة مفاوضات، مسألة الأرض مع مصر ليست مسألة نقاش ومسألة مفاوضات، وقلنا وماذا عن القدس وماذا عن الضفة الغربية، إننا لا نفرق بين سيناء، بين الأرض المصرية والأرض الأردنية والأرض السورية إنها أرض عربية.. لنا جميعاً للأمة العربية.

هذه المشروعات المشبوهة للتسوية التى قامت بإعدادها وتقديمها الولايات المتحدة الأمريكية، أعرف تماماً أن الجماهير العربية الصامدة، الجماهير العربية الثائرة، الجماهير العربية المصممة لن تقبلها بأى حال من الأحوال. إننا - أيها الإخوة - لا يمكن أن نقول إننا نريد الحرب فقط من أجل الحرب، ولكنا نريد الحرب من أجل التحرير، نريد تحرير أرضنا التى استولت عليها إسرائيل، نريد الحرية لأرضنا ولأبنائنا الذين يسكنون فى القدس وفى الضفة الغربية، نريد هذا ولكنا لا نريد الحرب من أجل الحرب، إن التحرير ليس فقط حق لنا ولكنه واجب علينا. حينما نقول هذا يقولون إن العرب يريدون الحرب، قلناها وقلناها مرات ومرات، إننا نعمل من أجل السلام، وإننا نريد السلام، ولكننا لن نرضى أبداً بالمشاريع المشبوهة التى تدعونا إلى الاستسلام فقالوا إنهم يريدون الحرب من أجل الحرب، وأنا أقول إن الأمة العربية لا تريد الحرب من أجل الحرب، إنما تريد تحرير أرضها جميعاً، لن تتنازل عن شبر من أرضها بأى حال من الأحوال."

وفى حديث للرئيس عبد الناصر مع جيمس رستون رئيس تحرير النيويورك تايمز يوم 14/2/1970
يقول عبد الناصر": إننى لا يمكن أن أقبل إعطاء إسرائيل بوصة واحدة من الأراضى العربية، وإنى أنظر إلى المسألة كمسألة فى غاية البساطة، فإذا كان كل طرف يريد السلام فنحن أيضاً نريد السلام، ولكن ما الذى يعنيه السلام بالنسبة لنا؟

إن السلام يعنى الانسحاب التام عن المناطق المحتلة - كما سبق أن قلت - بما فى ذلك القدس، ثم يتبع ذلك أن تعود إلى الشعب الفلسطينى حقوقه. فى هذا الوقت وفى هذه الظروف يمكن أن يكون هناك سلام، ولن تكون هناك حاجة لوجود قوات دولية، ولمناطق منزوعة السلاح.

ولقد استمرت هذه المشكلة طوال عشرين عاماً؛ لأنه لم يكن هناك حل لمشكلة اللاجئين، وإذا ظلت هذه المشكلة بلا حل، فإنها ستستمر عشرين عاماً أخرى. وأرجو أن تكون قد فهمتنى، إنه من المهم أن نسأل أنفسنا دائماً ما هو السلام؟ إنهم إذا جلوا عن المناطق المحتلة، وحلوا مشكلة اللاجئين الفلسطينيين؛ فإنه لن تكون هناك مشكلة.

لماذا لم يكن هناك اعتراف بحق إسرائيل فى الحياة كما تقول؟ لأنه كانت هناك مشكلة اللاجئين، وإذا استمرت مشكلة اللاجئين فلن يعترف أحد لإسرائيل بأى شىء".

فى يوم 12 أبريل 1970 يقابل جوزيف سيسكو وكيل وزارة الخارجية الامريكية الرئيس جمال عبد الناصر لكى يقدم له عرضا جديدا للسلام يتضمن تفهم الولايات المتحدة لإصرار مصر على التسوية الشاملة للصراع، وتفهم رفضها لإجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وطلب سيسكو فى الاجتماع من الرئيس عبد الناصر إعطاء الولايات المتحدة الأمريكية فرصة لإثبات حسن نواياها بأن تقبل مشروع روجرز الذى ينص على الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة فى يونيو 1967.

وقد وعد الرئيس عبد الناصر بدراسة المقترحات الأمريكية والرد عليها فى أقرب فرصة.

وبالفعل فى خطاب الرئيس عبد الناصر فى أول مايو 1970 قام بالرد على المقترحات الأمريكية بتوجيه نداء علني للرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون بأن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تختار بين أحد موقفين:

1 – تأمر إسرائيل بالانسحاب من كافة الأراضى العربية المحتلة وهذا فى قدرة الولايات المتحدة الأمريكية.

2 – إذا لم تأمر الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل بالانسحاب فعليها ألا تقدم لها أى دعم جديد سواء كان عسكري أو اقتصادى أو سياسي طالما تمسكت إسرائيل بمواصلة احتلالها للأراضى العربية.

كما حذر الرئيس عبد الناصر الرئيس نيكسون من عواقب استمرار الدعم الأمريكى السافر لإسرائيل وتأثير ذلك على مستقبل العلاقات العربية الأمريكية.

وفى خطابه بالخرطوم فى السودان يوم 28 مايو 1970 جدد الرئيس عبد الناصر عهده مع الأمة العربية وشدد على التزام مصر بالتسوية الشاملة للصراع العربي الإسرائيلى حيث يقول عبد الناصر:

"ما هو موقفنا اليوم؟ نحاول بكل وسيلة من الوسائل أن نستخلص حقوقنا، نعمل سياسياً ولكن حينما نعمل سياسياً نعمل بشرطين أساسين:

الشرط الأول: هو ضرورة انسحاب قوات العدوان من كل الأراضى المحتلة بعد يونيو ١٩٦٧ وليس من سيناء وحدها؛ وعلى هذا الأساس قبلنا قرار مجلس الأمن اللى صدر فى نوفمبر سنة ١٩٦٧ وحكومة إسرائيل رفضت هذا القرار، وحينما وصل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة رفضت إسرائيل أن تجاوب على أى سؤال من أسئلته، لماذا رفضت إسرائيل؟ إسرائيل لا تريد السلام، إسرائيل تريد التوسع،إسرائيل لا تريد السلام طالما تساندها الولايات المتحدة الأمريكية بالقوة، وأنا قلت لكم أخر مرة التقيت معاكم هنا فى يناير الماضى فى عيد استقلال السودان، قلت إن إحنا نطالب بانسحاب إسرائيل من القدس قبل سيناء، ومن المرتفعات السورية مرتفعات الجولان قبل سيناء، ومن غزة قبل سيناء ومن الضفة الغربية للأردن قبل سيناء، ومن كل شبر من الأرض العربية مشت عليه قوى المؤامرة الكبرى التى وجهت عواصفها المجنونة ضد أمتنا يوم ٥ يونيو 1967 .

الشرط الثانى: هذا أيضاً يدخل ضمن قرار مجلس الأمن، وهو ضرورة عودة الحقوق المشروعة لشعب فلسطين، وحق هذا الشعب الآن ليس كما كان يقال باعتباره شعباً من اللاجئين، وبتقول إسرائيل إنها علشان تحل مشكلة هذا الشعب بيتعمل مؤتمر دولى، ويتحل الموضوع فى هذا المؤتمر الدولى، وإنما يجب أن يكون الحل كما أثبت هذا الشعب - وبأصالة - أنه شعب من الفدائيين المناضلين الذين يقاتلون فى سبيل حقهم وفى سبيل أرضهم ."

وفى يوم 19 يونيو 1970 جاء الرد الأمريكى على نداء الرئيس عبد الناصر للرئيس الأمريكى نيكسون فى رسالة بعث بها وزير الخارجية الأمريكى وليم روجرز لنظيره المصري محمود رياض جاء فيها ما عرف فيما بعد بمبادرة روجرز:

1 – قيام كل من مصر و إسرائيل بتعيين ممثلين لكل منهما فى المناقشات التى ستدور تحت إشراف المبعوث الامريكى "جونار يارنج" لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 بكل أجزائه.

2 – هدف هذه المناقشات هو التوصل إلى اتفاق على إقامة سلام عادل وشامل بين مصر و إسرائيل يقوم على الاعتراف المشترك بحق كل منهما فى السيادة والاستقلال السياسي، والانسحاب الإسرائيلى من أراضى تم احتلالها عام 1967 بما يتماشى مع القرار 242.

3 – موافقة مصر و إسرائيل على وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة شهور اعتبارا من أول يوليو حتى أول أكتوبر 1970.

تسلم تلك الرسالة السفير صلاح جوهر وكيل وزارة الخارجية المصرية من دونالد بيرجس رئيس قسم المصالح الأمريكية فى القاهرة،وفى المقابلة قدم بيرجس إيضاحات رسمية إضافية من الحكومة الأمريكية قائلا انه يرجو من الحكومة المصرية أن تضع فى اعتبارها أن المبادرة تتضمن تنازلات هامة من جانب إسرائيل تتمثل فى كون المفاوضات ستكون غير مباشرة، وأن الانسحاب من الأراضى العربية المحتلة سيكون قبل بدء المفاوضات غير المباشرة.

لنلاحظ ذلك جيدا الانسحاب الإسرائيلى سيكون قبل بدء المفاوضات والتى ستكون غير مباشرة بل عبر وسطاء.

فى يوم 22 يونيو 1970 وأثناء خطابه فى ليبيا بمناسبة الاحتفال بجلاء القوات الأمريكية عن قاعدة هويلس وجه الرئيس عبد الناصر للأمة العربية الكلمات التالية:

"إننا فى مصر نقاتل باستمرار، إن إخوتكم فى جبهة القناة يتعرضون لغارات جوية يومياً تبلغ ١٥٠ طيارة أو ١٨٠ طيارة، هذه الطائرات هى صناعة أمريكية طائرات "الفانتوم" وطائرات "السكاى هوك" هذه الطائرات لم تكن عند إسرائيل قبل العدوان، ولكن إسرائيل استلمتها من الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٦٩.. ماذا يعنى هذا؟ يعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد إسرائيل فى أن تفرض شروطها على الأمة العربية، وإذا لم تقبل الأمة العربية هذه الشروط فإن "الفانتوم" و"السكاى هوك" الأمريكية ستدك المصانع وستدك المنازل وستدك كل شىء، ولكنا قلنا رغم هذا إننا لن نوقف إطلاق النار وسنستمر فى معركتنا ولو دمروا بيوتنا.. ولو دمروا مصانعنا

أيها الإخوة

إن الجمهورية العربية المتحدة فى سنة ١٩٦٧ كانت ميزانيتها للقوات المسلحة ١٦٧ مليون جنيه، وهذا العام ميزانية القوات المسلحة فى الجمهورية العربية المتحدة هى ٥٥٠ مليون جنيه

لقد قبل إخوتكم فى الجمهورية العربية المتحدة أن يتقبلوا بكل هذا، وأن يدفعوا كل هذا من أجل المعركة.. معركة الأمة العربية

لقد قالوا لنا إنهم على استعداد... قالت أمريكا إن إسرائيل على استعداد أن تجلو عن سيناء وعن كل الأرض المصرية على أن نتجاهل كلية القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان، وقلنا لهم إن الانسحاب من القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان يجب أن يكون قبل الانسحاب من سيناء لأن هذه المعركة هى معركة قومية عربية"

وفى يوم 22 يوليو 1970 سلم وزير الخارجية المصري محمود رياض رد مصر على مبادرة روجرز لدونالد بيرجس رئيس قسم المصالح الأمريكية فى القاهرة، وقد تضمن الرد ارتباط الموافقة المصرية على مبادرة روجرز بنقطتين:

أولا: الانسحاب الإسرائيلى الشامل من جميع الأراضى العربية المحتلة.

ثانيا: التمسك بالحقوق الكاملة للشعب الفلسطينى كما حددتها قرارات الأمم المتحدة.

وفى مساء 23 يوليو 1970 قام سيسكو وكيل وزارة الخارجية الأمريكية بإخطار اسحق رابين سفير إسرائيل بالولايات المتحدة بموافقة عبد الناصر على مبادرة روجرز.

وأثناء خطابه فى الاحتفال بالعيد الثامن عشر لثورة 23 يوليو حدد الرئيس عبد الناصر مفهوم مصر لمضمون مبادرة روجرز، وشروطها لتحقيق السلام العادل والشامل، حيث قال:

"إن هدفنا محدد، وهو معروف، وهدف العدو غير محدد، وإن كان الكل يعرفه، وهو التوسع والاستيلاء على الأراضى العربية. هدفنا يتركز فى نقطتين:

الانسحاب من جميع الأراضى العربية المحتلة:الجولان، الضفة الغربية، القدس، قطاع غزة، سيناء.

النقطة الثانية: الحقوق المشروعة لشعب فلسطين؛ وفقاً لقرارات الأمم المتحدة. وهذه الحقوق وإنكار إسرائيل لها هى التى أثرت على الموقف فى المنطقة طوال السنوات الاثنين وعشرين اللى فاتت، إن كان فيه لجنة مصالحة أو لجنة توفيق، وكانت هذه اللجنة المطلوب منها أن تنفذ قرارات الأمم المتحدة واللجنة كانت مكونة من أمريكا.. ولازالت مكونة من أمريكا وفرنسا وتركيا، واجتمعت إسرائيل مع هذه اللجنة، واجتمع العرب مع هذه اللجنة سنة ٤٩، وكان شغل اللجنة إعادة الشعب الفلسطينى إلى وطنه، إعادة حقوقه إليه، ولكن اللجنة اجتمعت اجتماعاً واحداً وبعد هذا لم تجتمع.

العدو يرفض تنفيذ قرار مجلس الأمن، يعتبر قرار مجلس الأمن مجرد جدول أعمال لمحادثات بيننا وبينه فى مفاوضات مباشرة، وهذا ما رفضناه، وما زلنا نرفضه، ولكن مطامع العدو معروفة، وتصرفات العدو فى كل يوم تبين أن مطامع العدو هى التوسع. الحقيقة من البديهى إما سلام وإما توسع، لا يمكن أن يكون هناك سلام مع التوسع.

أنا قلت لكم على النقط اللى جات فى جواب وزير الخارجية الأمريكى:

النقطة الأولى: وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل لمدة ثلاثة أشهر.

النقطة الثانية: "يارنج" يعود لمهمته، بعد كده بيطلب من الدول إنها تنفذ قرار مجلس الأمن تنفيذاً كاملاً.. تنفيذ قرار مجلس الأمن بكل أجزائه؛ بالتوصل إلى اتفاق حول إقامة سلام عادل ودائم؛ مستنداً إلى الإقرار من جميع الأطراف بالسيادة، وسلامة الأراضى، والاستقلال لكل دولة، ثم الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى المحتلة خلال نزاع عام ١٩٦٧؛ وذلك طبقاً لقرار مجلس الأمن ٢٤٢. وأنا قلت إن تفسير هذا القرار يظهر فى المقدمة بأنه يؤكد عدم إمكانية الحصول على أراض بواسطة الحرب؛ يعنى الحاجات اللى جات لنا من أمريكا حاجات مش جديدة.

وزير الخارجية المصرى بعث بالأمس رده على الرسالة التى تلقاها من وزير الخارجية الأمريكى، وأبلغه أننا نوافق على تنفيذ قرار مجلس الأمن، وان قرار مجلس الأمن يعنى الانسحاب من كل الأراضى العربية المحتلة، وحقوق شعب فلسطين وفقاً لقرارات الأمم المتحدة. وأبلغه إنهم بيقولوا إن إسرائيل تريد السلام ونحن نريد الحرب، ونريد إفناء إسرائيل أو اليهود، ولكن الوضع الصحيح أو الوضع السليم أن مصر وافقت من سنة ٦٧ على قرار مجلس الأمن، وإسرائيل لم توافق على قرار مجلس الأمن. وأبلغه أن المقترحات ليس فيها جديد؛ بل كلها تضمنها قرار مجلس الأمن سنة ١٩٦٧ الذى ساعدت أمريكا على عدم تنفيذه؛ لأن سياستها لم تكن متوازنة بل منحازة لإسرائيل، وأبلغه أننا نوافق على المقترحات الأمريكية."

انهارت الحكومة الائتلافية فى إسرائيل عقب موافقة غولدا مائير على مبادرة روجرز ، حيث صرح مناحم بيجن وزير الدولة وقتها : إن مبادرة روجرز لا تعنى فقط الانسحاب الإسرائيلى الكامل من سيناء، ولكنها تعنى أيضا الانسحاب الإسرائيلى الكامل من الضفة الغربية لنهر الأردن مع ضمان حق الفلسطينيين فى العودة أو التعويض عن فقدان وطنهم.

أثار قبول الرئيس عبد الناصر لمبادرة روجرز غضب الفصائل الفلسطينية المسلحة التى خشيت أن يكون قبول المبادرة مقدمة إلى سلام مصري إسرائيلي، فى أغسطس 1970 سافر وفد من قادة الفصائل الفلسطينية إلى الإسكندرية للقاء الرئيس عبد الناصر ضم الوفد ياسر عرفات، فاروق القدومى، صلاح خلف، هايل عبد الحميد عن منظمة (فتح)، وضافى جمعان عن (الصاعقة)، وإبراهيم بكر عن (المستقلين)، فى الاجتماع قال لهم الرئيس عبد الناصر: لا أفهم كيف تهاجموننى دون أن تقفوا على حقيقة بواعثى لقبول مبادرة روجرز؟

أننى موقن أن حظ المشروع من النجاح هو واحد بالألف ، فإسرائيل لن تنسحب من كامل الأراضى العربية وأنا لن أقبل بأقل من ذلك، بقبولى لمبادرة روجرز أكسب وقت لكى ننصب حائط الصواريخ على حافة قناة السويس لكى أقضى على غارات الطيران الإسرائيلى ولشن معركة تحرير أراضينا العربية المحتلة ،والتى لن تتأخر تحت أى ظرف عن ربيع عام 1971.

هذا ما تخبرنا به الوثائق عن عروض السلام الأمريكية والإسرائيلية لمصر بعد هزيمة يونيو 1967 .
لم تكن سيناء عقبة على الإطلاق بل كانت مطروحة باستمرار للمقايضة تعيد إسرائيل سيناء لمصر بدون شروط مقابل خروج مصر من العالم العربي ، والقضاء على القومية العربية، وانكفاء كل دولة عربية على نفسها، وتفكيك مصر لاقتصادها الوطنى وعمليات التصنيع ومشروعات التسليح وبرنامج الصواريخ والبرنامج النووى المصري وتدخل ضمن المنظومة الغربية.

كانت تلك هى الصفقة الأمريكية الإسرائيلية التى رفضها الرئيس عبد الناصر رغم الهزيمة،لقد حققت إسرائيل عسكريا أكثر من المتوقع منها فى المخطط الأمريكى لحرب يونيو 1967، وكان المنتظر بعد تلك الهزيمة الساحقة أن يتم سقوط نظام جمال عبد الناصر بكل توجهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بفعل الهزيمة ورسم خريطة جديدة للعالم العربي تسيطر عليها نظم موالية للمشروع الإمبراطوري الأمريكى، ولكن رفض الشعب المصرى والشعوب العربية لاستقالة عبد الناصر يوم 9 يونيو 1967 بعد أن أعلن تحمله للمسئولية الكاملة عن الهزيمة،أجهض المخطط الأمريكى الإسرائيلى، وهنا توقع الأمريكيون إن ما حدث كان فورة عاطفية ستنتهى فور تكشف مدى الهزيمة التى لحقت بالجيوش العربية، وأن نظام عبد الناصر سيسقط لا محالة خلال مدة لن تزيد عن 6 أشهر بعد الهزيمة ولكن جاء مؤتمر القمة بالخرطوم فى 29 أغسطس 1967 بمثابة مبايعة جديدة للرئيس عبد الناصر لكى يستمر فى نهجه المقاوم للمشروع الأمريكى الإسرائيلى فى المنطقة، فقد استقبل الشعب السودانى الرئيس عبد الناصر بصورة أسطورية لا توصف خاصة أنها كانت أول زيارة له لقطر عربى بعد الهزيمة وبعد أن تكشفت أبعاد الهزيمة وما دار فى ميادين القتال،كان ذلك الاستقبال من مئات الآلاف من أبناء الشعب السودانى للرئيس عبد الناصر هو الحدث الأول إعلاميا فى العالم وقتها وقد نشرت كل الصحف العالمية فى صفحاتها الأولى تغطية للاستقبال وصور التفاف الشعب السودانى حول القائد العربى عبد الناصر ،ونشرت مجلة (نيوزويك) الأمريكية على غلافها صورة للرئيس عبد الناصر محاطا بآلاف السودانيين، وكتبت تحتها (المجد للمهزوم هذه أول مرة فى التاريخ يتم فيها استقبال قائد مهزوم بأكاليل الغار كالفاتحين و المنتصرين)، وفى هذا المؤتمر تم تكريس المقاومة و رفض العدوان وخرج المؤتمر باللاءات الثلاثة الشهيرة (لا صلح .. لا تفاوض .. لا اعتراف).

وفى نفس الوقت وبعد أيام من الهزيمة بدأ الرئيس عبد الناصر إعادة بناء الجيش المصرى من الصفر.

فقد طبق الرئيس عبد الناصر عمليا مقولته الخالدة "أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة "، ثلاث سنوات أنجز فيها جمال عبد الناصر ما أدى لصنع إعجاز العبور، يقول الدكتور جمال حمدان في كتابه" 6 أكتوبر في الإستراتيجية العالمية"، عن حرب الاستنزاف والتى استمرت ثلاث سنوات.

كانت فترة "كمون " و"إعداد" ثم "اختمار" و"انطلاق" نحو القفزة الكبرى.. ونحن نستطيع أن نقدر هذه الفترة حق قدرها في سياق الصراع العام إذا نحن حللناها إلى مراحل تطورية.

فهناك أربع مراحل أساسية .. -(الصمود) -(الردع)-(الاستنزاف) -( وقف إطلاق النار).. فالصمود من "يونيو1967حتى أغسطس 1968" مدة سنة وشهران.. هي أساساً مرحلة "الدفاع الحذر" تخللتها معارك رأس العش والمدمرة إيلات وبعض معارك جوية متحدية .. والردع من "سبتمبر1968حتى فبراير 1969" مدة ستة شهور .. هي أساساً مرحلة "الدفاع النشط" تلخصها معارك المدفعية التي اتصل فيها التراشق بالنيران عبر القناة .. وكان من نتائجها بناء العدو لخط بارليف الأول .. أما مرحلة الاستنزاف من "مارس 1969 حتى أغسطس 1970" مدة سنة ونصف السنة .. فتعد أساساً مرحلة "الهجوم الحذر" ففيها تم تدمير خط بارليف ألأول بالمدفعية المكثفة المستمرة طوال شهرين .. مارس وأبريل 1969.. ثم توالى عبور الكوماندوز ليلاً ونهارا بقوات متزايدة ثم بلا انقطاع، كما تكررت غارات الضفادع البشرية على موانئ العدو تحرقها وتغرق سفنه فيها، هذا فضلاً عن الغارات والمعارك الجوية المتصاعدة، وذلك كله في وجه غارات العدو المضادة على الجزر المنعزلة والعمق المدني إلى جانب جبهة القناة حتى تم بناء حائط الصواريخ.

طلب الرئيس عبد الناصر من الفريق محمد فوزى وزير الحربية المصرى القيام بالوثبة الأخيرة لحائط الصواريخ المصري حتى حافة قناة السويس بحيث تصبح تلك الوثبة أمر واقع مع بدء سريان قرار وقف إطلاق النار طبقا لمبادرة روجرز،وبالفعل حقق أبطال القوات المسلحة المصرية تعليمات الرئيس عبد الناصر بحيث أنه فى صباح يوم 8 اغسطس 1970 كان حائط الصواريخ المصري منتصبا على الحافة الغربية لقناة السويس.

فى حلقات الأستاذ محمد حسنين هيكل عن "الطريق إلى أكتوبر"،عرض الأستاذ هيكل الوثائق التى تثبت أن الرئيس عبد الناصر وقع خطة العبور "جرانيت 1" عام 1970 ،وأستكمل استعداداته لشن الحرب، وباكتمال حائط الصواريخ وتحريكه حتى حافة الضفة الغربية لقناة السويس فى 8 أغسطس 1970 كان قرار شن الحرب مسألة وقت فبعد تأمين سماء مصر من الطيران الإسرائيلى بدأ العد التنازلى للحظة العبور.

وفى لقاء لى مع السيد/ سامى شرف- سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات ووزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق – أكد لى أن الرئيس عبد الناصر فى أغسطس عام 1970 وقع على خطط العبور "جرانيت 1" و "جرانيت 2" و "القاهرة 200" والأخيرة هى التى تعنى الضوء الأخضر والنهائى لبدء تنفيذ خطط تحرير الأراضى المحتلة، وليست الخطة " جرانيت 1" فقط كما ذكر الأستاذ هيكل.

كان قبول وقف إطلاق النار طبقا لمبادرة روجرز خطة تكتيكية لدفع حائط صواريخ إلى الحافة الغربية لقناة السويس ،ولالتقاط الأنفاس استعدادا لحرب التحرير التى ستحقق الحل الشامل والكامل للصراع العربي الإسرائيلي،والتى قال عنها الرئيس عبد الناصر فى جلسة مغلقة للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الإشتراكى بتاريخ 30/12/1968: "سيأتى إن شاء الله اليوم الذى تعبر فيه قواتنا المسلحة إلى شرق القناة لتطرد العدو من سيناء، ولن تكون المعركة هذه المرة معركة أيام ستة أو سبعة، لكنها ستكون معركة حاسمة وفاصلة فى تحديد مستقبل المنطقة."

أعطى الرئيس عبد الناصر أوامره للفريق محمد فوزى وزير الحربية بالاستعداد لشن معركة التحرير فور انتهاء مهلة وقف إطلاق النار وكان تقدير الرئيس عبد الناصر والقيادة العامة للقوات المسلحة أن تبدأ عملية العبور فى الأسبوع الأول من شهر أكتوبر 1970 ، وإن لم يتم ذلك فالموعد الثانى لشن الحرب كان خلال الفترة من الأسبوع الثالث من شهر أبريل 1971 وحتى الأسبوع الثانى من شهر مايو 1971.

وعلى الجانب السياسي كانت مبادرة روجرز تعنى انسحاب إسرائيل من كل شبر فى سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس وحق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة أو التعويض حسب رغبتهم.

يقول الدكتور محمد حسن الزيات والذى كان يشغل منصب مندوب مصر الدائم فى الأمم المتحدة وقتئذ، أن الرئيس عبد الناصر قام بتعيينه مندوبا لمصر فى المباحثات الخاصة بمبادرة روجرز، وقبل عودته لعمله استدعاه الرئيس عبد الناصر لمقابلته ليبلغه أن مبادرة روجرز تعنى انسحاب إسرائيل من كل شبر فى سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية بما فيها مدينة القدس، كما تعنى حق الفلسطينيين فى العودة أو التعويض طبقا لقرارات الأمم المتحدة، وعندما يسأله الدكتور محمد حسن الزيات عن الحد الأدنى للمطالب المصرية ، يقول له الرئيس عبد الناصر: "حدنا الأدنى هو القدس وحقوق الشعب الفلسطينى".

توفى الرئيس جمال عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970 وتولى نائبه أنور السادات الرئاسة خلفا له.

اتهمت إسرائيل مصر بانتهاكها لمبادرة روجرز وتحريك قواعد حائط الصواريخ المصري حتى الحافة الغربية لقناة السويس بعد سريان قرار وقف إطلاق النار، وكالعادة تبنت الولايات المتحدة الأمريكية وجهة النظر الإسرائيلية بالكامل، قامت إسرائيل بتقديم شكاوى ضد مصر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وفى يوم 5 نوفمبر 1970 سيصدر قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد الشكاوى الإسرائيلية، بل ويشدد على ضرورة الانسحاب الإسرائيلى الكامل والمبكر من الأراضى العربية المحتلة.

فى يوم 4 فبراير 1971 يعلن الرئيس السادات فى مجلس الأمة المصرى موافقته على مد فترة وقف إطلاق النار لثلاثين يوما أخرى، كما قدم ما أسماه بمبادرة 4 فبراير جاء فيها:

"إن مصر تضيف إلى كل الجهود المبذولة من أجل السلام مبادرة مصرية جديدة، تعتبر العمل بمقتضاها مقياسا حقيقيا للرغبة فى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، إننا نطالب خلال فترة وقف إطلاق النار بانسحاب جزئى للقوات الإسرائيلية على الشاطئ الشرقى لقناة السويس، وذلك كمرحلة أولى الانسحاب على طريق جدول زمنى يتم بعد ذلك وضعه لتنفيذ قرار مجلس الأمن، وإذا تحقق ذلك خلال الفترة التى حددناها فإننا على استعداد كامل للبدء فورا فى مباشرة تطهير قناة السويس وإعادة فتحها للملاحة الدولية ولخدمة الاقتصاد الدولى."

يقوم ممثل السكرتير العام للأمم المتحدة للسلام جونار يارنج يوم 8 فبراير 1971 بإعلان مشروعه للسلام بوضع برنامج محدد لتنفيذ القرار 242 على الأقل بالنسبة لمصر كبداية، وأخطر يارنج مصر بمشروعه الذى كان يقرر انسحاب إسرائيل الكامل من سيناء وغزة كخطوة أولى نحو السلام الشامل.

ترفض الحكومة الإسرائيلية مشروع يارنج، وتخطره بأنها لن تنسحب إلى الحدود المصرية الفلسطينية، ويصرح أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلى: لماذا توافق إسرائيل على مشروع يارنج الذى يقضى بالانسحاب الكامل من سيناء وقطاع غزة بينما الرئيس السادات يقترح قيام إسرائيل بانسحاب جزئى مقابل فتح قناة السويس وبدء مفاوضات؟!.

وعندما يعترض وزير الخارجية المصرى محمود رياض على مبادرة الرئيس السادات ويتساءل عن الهدف منها خاصة أنها تمثل تفريط فى الموقف المصرى وتراجع كامل عن السياسة المصرية منذ حرب 1967 والتى تتمسك بالتسوية الشاملة، كما أن الرئيس عبد الناصر رهن إعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية مرة أخرى بحصول الشعب الفلسطينى على حقوقه.

يجيبه الرئيس السادات :لأنه كان من الضرورى إنهاء مبادرة روجرز.

رغم أن موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى يقول فى صفحة 185 من مذكراته "إن مبادرة روجرز كانت تقرر انسحاب إسرائيل إلى حدود 1948 على كل الجبهات.

ويقول عنها إسحاق رابين فى صفحة 126 من مذكراته أنها تقضى بتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بأن تكون الحدود بين إسرائيل والأردن متطابقة مع خط الهدنة عام 1949، وأن تتحرر القدس الشرقية من الاحتلال الإسرائيلي، بينما كانت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير تعتبر مبادرة روجرز كارثة لإسرائيل لأنها لا تتضمن فقط انسحاب إسرائيل من كل الأراضى العربية ولكن أيضا لأن هذا سيتم مقابل وثيقة تودعها الدول العربية الأمم المتحدة لا تتضمن على الإطلاق أى اعتراف بإسرائيل على أى مستوى،ولا حتى مفاوضات مباشرة.

ومناحم بيجن يصفها بأنها ميونيخ جديدة وتفريط فى أمن إسرائيل.

ولقد ظلت إسرائيل لمدة ثلاثين شهر بعد مبادرة السادات فى فبراير 1971 تصر فى جميع مباحثاتها غير المعلنة مع الولايات المتحدة الأمريكية على طلب سياسى محدد: أن تعطيها الولايات المتحدة الأمريكية ورقة رسمية تسجل فيها تراجعها النهائى عن مبادرة روجرز.

كانت بسالة القوات المسلحة المصرية وصمود الشعب المصرى وتمسك الرئيس عبد الناصر بالتسوية الشاملة للصراع العربي الإسرائيلى، واستمرار حرب الاستنزاف طوال الفترة من يونيو 1967 وحتى أغسطس 1970 هى الدافع للإدارة الأمريكية فى عهد نيكسون لتقديم مبادرة روجرز للتسوية الشاملة، وكانت خسائر إسرائيل فى حرب الاستنزاف هى سبب قبولها للمبادرة لذا فبعد إنهاء الرئيس السادات لمبادرة روجرز ،والانقلاب الصامت فى السياسة المصرية الذى قاده بمبادرة 4 فبراير 1971، عادت إسرائيل مرة أخرى للعناد ورفض التسوية الشاملة والإصرار على المفاوضات المباشرة مع كل دولة عربية على حدة.

قرر الرئيس السادات انتهاج إستراتيجية المصالحة كما يقول الفريق محمد فوزى فى مذكراته، وكما صرح الرئيس السادات ذاته للكاتب الراحل أحمد بهاء الدين بأنه ينوى فك الاشتباك مع أمريكا، ومن أجل ذلك أسقط خيار التسوية الشاملة ورغم عظمة الإنجاز المهول للقوات المسلحة المصرية فى حرب أكتوبر 1973 لم يستغل الرئيس السادات ذلك وظل على موقفه وفى الطريق إلى زيارته للقدس المحتلة فى نوفمبر 1977، قبل بمبدأ المفاوضات المباشرة فى الكيلو101 على طريق السويس – القاهرة، وقبل بتسليم أوراق الصراع العربي الإسرائيلى إلى الصهيونى هنرى كيسنجر بل وأفتخر بأن 99% من أوراق اللعبة – بعد أن قام بتسمية صراع الوجود بيننا وبين إسرائيل باللعبة- فى يد الولايات المتحدة الأمريكية عدونا الرئيسى وراعية إسرائيل، ووافق على اتفاقيتى فك الاشتباك على الجبهة المصرية، وأصر على رفع الحظر البترولى عن الولايات المتحدة الأمريكية قبل تحقيق التسوية الشاملة، حتى وصل إلى القدس المحتلة ليقدم اعترافا علنيا بإسرائيل أدى فى خاتمة المطاف إلى القبول بأسوأ الشروط وأكثرها ظلما لمصر وإهدارا لدماء الشهداء فى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التى وقعها الرئيس "السادات" فى واشنطن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي سفاح دير ياسين "مناحم بيجن" برعاية الرئيس الأمريكى "جيمى كارتر" فى 26 مارس 1979، لتعود سيناء منزوعة السلاح إلى مصر، ولكن الحديث عن تلك المأساة بالتفصيل يحتاج لدراسة أخرى.

لو عدنا لقراءة خطاب الرئيس عبد الناصر بتاريخ 25 أبريل 1968، والذى أوردته فى مقدمة الدراسة سنجد أن الرئيس عبد الناصر تنبأ بكل ما سيحدث لمصر إذا وافقت على حل جزئي للصراع العربي الإسرائيلي يقضى بعودة سيناء فقط لها، رغم أن العروض التى قدمت للرئيس عبد الناصر عقب الهزيمة كما رأينا لم تكن تقضى بنزع سلاح سيناء والمفاوضات المباشرة مع إسرائيل والاعتراف الرسمى بها و تبادل السفارات وتطبيع العلاقات معها بل فقط التعهد بإنهاء حالة الحرب فى وثيقة تودع فى سجلات الأمم المتحدة، عبد الناصر المهزوم رفض ذلك وواصل مشروعه ونضاله حتى وافته المنية، والسادات الذى قدمت له القوات المسلحة المصرية إعجاز العبور وافق على شروط أسوأ بما لا يقارن بالمعروض على عبد الناصر.

كان خيار الرئيس السادات بخروج مصر من العروبة و بالبحث عن حل فردى للصراع العربى مع إسرائيل هو طلقة البداية لعقود مريرة في التاريخ العربي المعاصر، مزقت الوطن العربي شر ممزق ونسفت خيار التسوية الشاملة وأضاعت حقوق الشعب الفلسطينى.

لم تكن عروبة مصر مغامرة أو رغبة في الزعامة من الرئيس عبد الناصر بل كانت فرض التاريخ والجغرافيا على مصر، ولم تكن حروب مصر مع إسرائيل من أجل العرب فقط بل من أجل مصر في المقام الأول، لقد أنشأت إسرائيل لعزل مصر في أفريقيا و لوراثة دورها في الوطن العربي،وهذا ما أستوعبه عبد الناصر جيدا بينما لم يفهمه السادات مطلقا.

يروى الأستاذ هيكل في برنامجه (مع هيكل) وقائع لقائه مع رئيس الوزراء الفرنسى الأسبق كوف دى مورفيل الذي قال له أنه جرت في الشرق الأوسط معركتين معركة دخول إسرائيل، ومعركة خروج مصر، وان دخول إسرائيل لا يتحقق إلا بخروج مصر، وان بريطانيا هى الدولة التي ساعدت على دخول إسرائيل، والولايات المتحدة الأميركية هى الدولة التي يجب أن تحقق خروج مصر، وأنكم كعرب تنبهتم للمعركة الأولى الخاصة بدخول إسرائيل وغابت عنكم معركة خروج مصر، أن الولايات المتحدة الأميركية لا تريد لمصر أن تعبر خط قناة السويس، لا مانع لدى الأميركيين من أن تصبح مصر بلدا أفريقيا جيدا أو بلدا إسلاميا جيدا ولكنهم لا يريدون أن تكون مصر بلدا عربيا جيدا، لقد كانت كل مشاكل الغرب مع جمال عبد الناصر بسبب أنه جلب المشرق العربي إلى مصر وأهتم بصياغة مشروع للوحدة عربية.

من خلال حلقات برنامج "مع هيكل" مجموعة "الطريق إلى أكتوبر" كشف الأستاذ هيكل أن الرئيس جمال عبد الناصر أمر بزرع أجهزة تنصت واستماع داخل مبنى السفارة الأمريكية بالقاهرة فى ديسمبر 1967 فى عملية إستخباراتية أطلق عليها أسم العملية (عصفور).

وقال الأستاذ هيكل أن هذه العملية تعد من أنجح وأخطر عمليات التجسس فى تاريخ المخابرات فى العالم ولا تعادلها فى النجاح إلا العملية (ألترا ) عندما نجحت مخابرات الحلفاء فى حل الشفرة الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية مما جعل البريطانيين والأمريكيين على علم كامل بكافة التحركات و الخطط العسكرية و الإستخباراتية الألمانية قبل حدوثها.

وعرض الأستاذ هيكل أحد أخطر تقارير المعلومات التى كشفتها عملية (عصفور) عندما توجه السيد أمين هويدى مدير المخابرات العامة المصرية إلى منزل الرئيس عبد الناصر فى يوم 6 ديسمبر 1969 ومعه تسجيل لحديث دار بين الوزير المفوض الأمريكى فى سفارة الولايات المتحدة فى إسرائيل ومديرة مكتبه مع السفير الأمريكى فى القاهرة وممثل المخابرات المركزية الأمريكية فى السفارة الأمريكية فى القاهرة.

وأستمع الرئيس عبد الناصر بنفسه إلى تسجيل للحديث

و الذى جاء فيه أن عبد الناصر هو العقبة الرئيسية في قيام علاقات طبيعية بين المصريين والإسرائيليين.

وأن هناك حالة من الالتفاف الشعبى المصرى والعربى حول عبد الناصر تجعل السلام مع إسرائيل بالشروط الأمريكية الإسرائيلية مستحيلاً.

وان مصر التي كانت من المفترض أنها مهزومة تبدو منتصرة في حين أن إسرائيل التي كان من المفترض أن تبدو منتصرة تبدو مهزومة وذلك بسبب حرب الاستنزاف.

وأن سمعة "موشى ديان"أكبر بكثير من إمكانياته الشخصية .

وأن قادة إسرائيل (غولدا مائير ، موشى ديان، أهارون ياريف، إيجال أللون) أجمعوا على أن بقاء إسرائيل ونجاح المشروع الأمريكى الإسرائيلى فى المنطقة مرهون باختفاء الرئيس جمال عبد الناصر من الحياة وأنهم قرروا اغتياله بالسم أو بالمرض.

وأن غولدا مائير رئيسة وزراء العدو قالت بالنص:

( we will get him ) سوف نتخلص منه.

و إلا فأن العالم العربى ضائع وسيخرج من نطاق السيطرة الأمريكية.

هذا ما جاء فى التسجيل الخطير الذى سمعه الرئيس عبد الناصر قبيل وفاته بتسعة أشهر.

وقد اختفى جمال عبد الناصر فجأة من الوجود يوم 28 سبتمبر 1970، وبهذا زالت أهم العقبات التى تحارب المشروع الأمريكى الإسرائيلى فى الوطن العربي، وفى 13 مايو 1971 تم انقلاب السادات على الثورة باعتقال المجموعة الناصرية فى السلطة ليحكم منفردا، وجاءت حرب أكتوبر 1973 بالأداء المذهل للقوات المسلحة المصرية لتمنح الرئيس السادات صكوك الشرعية والشعبية لإتمام انقلابه للنهاية،وليفتح أبواب مصر للأمريكيين ،ليمهد لنجاح المشروع الامريكى الإسرائيلى فى الوطن العربي، ولتقوم علاقات طبيعية بين مصر وإسرائيل.

وهكذا تحقق كل ما جاء فى التسجيل الخطير.

الهزيمة الحقيقية هى هزيمة الإرادة، مصر المهزومة فى يونيو 1967 ظلت محتفظة باستقلال إرادتها السياسية ورغم الهزيمة لم تقبل مطلقا بحل جزئي للصراع العربي مع الكيان الصهيونى الذى كان ومازال صراعنا معه صراع وجود وليس صراع حدود، وظل هذا موقفها الثابت حتى استشهاد الرئيس جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970، بينما مصر التى أنتصر جيشها فى أكتوبر 1973 قام الرئيس السادات بتسليم إرادتها السياسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لينتج عن هذا كل ما نعانيه الآن فبعد ضياع استقلال الإرادة السياسية المصرية تم هدم مشروع النهضة القومى الذى قاده عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى،وفقدت مصر دورها الإقليمى كقوة مؤثرة فى الإقليم وفى العالم كله، وتم تفكيك اقتصادها الوطنى والتوقف عن خطط التنمية الطموحة ،وربط اقتصادها بالاحتكارات الرأسمالية العالمية ليتحول من اقتصاد صناعى زراعى انتاجى إلى اقتصاد تابع ذيلى يرى مصر كسوق لتصريف المنتجات الأجنبية ليس أكثر، لتبدأ مصر رحلة خروجها من التاريخ.

وصدق الرئيس عبد الناصر عندما قال فى خطابه يوم 23 نوفمبر 1967

"وإن تقع رقعة من أرض الوطن أسيرة فى يد عدو زود بإمكانيات تفوق طاقته فهذه ليست الهزيمة الحقيقية، ولا هى النصر الحقيقى للعدو، وإن تقع إرادة الشعب أسيرة فى يد هذا العدو فهذه هى الهزيمة الحقيقية وهذا هو النصر الحقيقى للعدو."

أليس هذا ما حدث بعد حرب أكتوبر 1973 ؟!!

المصادر:

وثائق عبد الناصر ج1 (1967-1968)

وثائق عبد الناصر ج2 (1969-1970)

اليوم السابع .. الحرب المستحيلة.. حرب الاستنزاف: محمود عوض

البحث عن السلام والصراع فى الشرق الأوسط .. مذكرات محمود رياض ج1

شهادة سامى شرف سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر ج1

الافتراء على ثورة يوليو: عبد الله امام

مع هيكل ... مجموعة الطريق إلى أكتوبر

أكتوبر 1973 .. السلاح والسياسة: محمد حسنين هيكل

مقال "عبد الناصر رفض استرداد سيناء منزوعة السلاح": سامى شرف

فصل من كتاب "معارك ناصرية" : عمرو صابح


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى