الأربعاء ٢٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم طلال سلمان

جولة بين البلدات التي لها ملامح الشهداء

الطريق هي الطريق لكنها مثخنة بالجراح، فكأنك تتوغل في وجعك.. السماء رمادية، وصمت ما بعد الدوي مفجع، يجعلك تتوقع ان تشقه صرخة او طلقة، لكن لا أمل بأن تسمع تغريدة عصافير المساء. البساتين، عند الساحل، هي البساتين، بأشجار البرتقال وشجيرات الموز تلقي بأذرعتها التي داخل السواد خضرتها، بعدما احرق عدو الحياة والشمس والشجر والثمر بعضها وترك البعض الآخر فريسة للعطش، الى نسف الجسور وقنوات الري والمولدات فتاهت مياه النهر عن مجراها وعن مصبها.

حقول التبغ هي هي الحقول، لكن اشتالها تتبدى كما لو اصابها داء الشيخوخة المبكرة: لقد فاتها موعد الجني، فذبلت وأحنت رؤوسها المكللة بالزهر الأبيض، مفتقدة الأيدي الحانية التي كانت ترعاها حتى تصير خير السنة ومؤونتها.

كل من وما في الجنوب مثخن بالجراح: الناس، البيوت، الطرقات، المزارع، البساتين، اعمدة النور والهاتف، اللافتات حاملة اسماء المدن والقرى، وحتى الهواء.

صور الشهداء تستقبلك وتودعك مشكلة حبل السرة بين <البلاد>، كما يصف الجنوبيون بلداتهم وقراهم، اما <السيد> فهو <الباب>، وان كان ما زال ل<الاستاذ> مساحته التي تأكدت بجدارته في ادارة الحركة على الجبهة السياسية والدبلوماسية للحرب على الحرب الاسرائيلية.

الشهداء يستدعون الشهداء: الذين قضوا في المواجهات التي كتبت <التحرير> في العام ,2000 يتراجعون الآن الى الخلف ليتركوا الصدارة للذين كتبوا بصمودهم الاسطوري في المواقع الأمامية، بلا زاد أحيانا، وبلا تواصل مع قيادتهم أحيانا أخرى، صفحات مجد تضاف الى كتاب النصر على العدو الذي تعود ان يهزم الجيوش العربية في الساعات الاولى لحرب لم تكن في اي يوم متكافئة بالسلاح او بالإعداد او بالقيادة المؤهلة.

أعمدة النور تقف شهودا صماء وقد تدلت اسلاكها كشعر ارملة فقدت ابناءها، وبعضها أصابه القصف فانحنى اعلاها على جذعها وبقي معلقا كمن يحملق بالأرض ولا يطالها.
تعرف القرى الآن بما أصابها من تدمير، او بعدد الشهداء من ابنائها، او بأعداد من بقي من العجائز، لا سيما النساء، في بيوت طاولها القصف مرة او اكثر فتهدم بعضها، وبقي منها ما يصلح مخبأ للذين رفضوا ان يغادروا لأن الموت اهون من فراق الذكريات والتفاصيل التي تتشكل منها الحياة: الانسان ببيته، والبيت بالارض، والارض هي الدنيا والآخرة.

عبرنا بين الركام الذي كان بيوتا فيها آباء وأمهات وصبايا وشبان وأطفال، وجدة يسعى الاحفاد الى حكاياتها.
الى يميننا كان ثمة بيت قد تهدم الا غرفة منه، وللغرفة شرفة، وعلى الشرفة كانت العائلة تشرب شاي المغرب، ورب البيت لا ينسى أنه مضيف لكل من يعبر الشارع: تفضل!
على واحد من الجدران المهدمة ما زالت الصورة تتدلى بخيطها، معوجة، لكن اطارها سليم يطل من داخله وجه جمال عبد الناصر، وعلى الارض تحتها تلفزيون محطوم.
<صالون الحلاقة> يغص بزبائنه الذين يدخنون ويثرثرون بينما الحلاق يتابع عمله في ضوء <اللوكس>، ويشارك في الحديث بأخباره الخاصة التي لا تنتهي: هناك عند الزاوية، تقدمت دبابة ميركافا بحجم جبل.. دارت بمدفعها يمينا وشمالا فتهدم ذاك الجدار، وانهارت غرفة في بيت <الحكيم>... لم يكن في السوق غير رائحة الموت والبارود... وفجأة نبتوا، كأنما انشقت الارض عنهم فانبثقوا منها... وبوم، بوم، بوم، فإذا تصفيح الدبابات يسيح، واذ الجنود الذين كانوا متحصنين فيها يتقافزون منها مذعورين، وطاخ طاخ طاخ، واذا الكل صرعى مشلوحون فوق الزفت، بينما تتهاوى جدران بيت <المهندس> عند الزاوية المقابلة فتطمرهم إلا واحدا تمالك نفسه وحاول ان يهرب... لكن أين المفر؟
سأل الرجل الذي اسلمه رأسه: والشباب؟!

ها، ها، ها... كما انبثقوا من جوف الارض، اختفوا فيه... ارضهم، يعرفونها وتعرفهم!
في دكان السمانة القريب كانت بضع نساء يتبضعن. الدكان الصغيرة، لكن صاحبه يؤكد ان عنده كل شيء! والنساء يشترين وهن يتبادلن اخبار النزوح الموجعة: طلعت بالشلحة، وزوجي حمل ما تيسر من ثياب الاطفال وحشرنا جميعا في السيارة العتيقة، ومشى... سألته: الى أين؟ قال: لا أعرف، سأترك لغريزة الحياة ان تقودنا.

قالت سيدة اخرى: تنذكر وما تنعاد. لكننا تعرفنا الى اخوة كنا نظنهم خصوماً. والله، والله، لقد زعلوا كثيرا عندما افقنا فجر الاثنين وحزمنا ثيابنا وبعض الغذاء والماء، وركبنا السيارة ودرنا نودعهم. قالوا: انتظروا يوما او يومين. الاسرائيلي غدار، قد لا يلتزم بوقف الحرب. قال زوجي: شكرا، لكن لن نبقى لحظة... اشتاقت البلاد الى أهلها. مشينا فإذا امامنا آلاف الآلاف، وبعد ساعة كان قد انتظم خلفنا آلاف الآلاف. سيارات صغيرة مزدحمة بالنساء والأطفال والرجال، شاحنات يحتشد من فيها كأنهم في يوم الحشر، ناقلات يضيق داخلها بالعشرات وفوق سطحها حيث تتراكم فرش الاسفنج عشرات يرفعون اصابعهم بعلامة النصر، وبعضهم يغني.

في بنت جبيل كانت البيوت كقصائد الشعر المنثور: بيت تهدم كله، لكن جدارا فيه باب يفضي الى الفراغ بقي واقفا، وسقف مقصوف سقط بعضه فظهرت احشاؤه بينما وقفت حمامة على الجزء الذي بقي ممتدا فوق الخواء.
هل الناس هم الناس انفسهم؟!
تحدق فيهم. ليس في العيون خوف. ليس في العيون اسئلة، لكن الحزن عميق حتى الخرس. لو انهم يقولون؟

حفظنا الدرس جيدا، يقول الرجل. كان مختارا وانتهت مدته لكن لقبه بقي له حتى غلب على اسمه. اننا نعرفهم جيدا، ونعرفهم من زمن بعيد. انهم غدارون. منذ ستين سنة وعيوننا في عيونهم. نحن فقراء، ضعفاء، بلا دولة. وهم اقوياء جدا، وخائفون دائما. نعرفهم من قبل .1948 كنا نذهب الى فلسطين كالذاهب الى العيد. كان الخير في فلسطين، وكان العمل في فلسطين ايضا. كانت الليرة الفلسطينية بعشر ليرات سورية، واكثر. وكنا، كما العمال السوريون عندنا الآن، نذهب الى فلسطين، بلاد الخير، فنعمل فيها ونعود منها حاملين محملين. وكنا نميز بين اليهودي والعربي، ابن البلاد.
يصمت قليلاً، ينفخ غيظه مع دخان سيكارته ويضيف:

العرب اغبياء، مصابون بالعمى. كنا نرى ما سوف يكون، لكن حكامنا لم يريدوا ان يروا. الكراسي تعمي، يا عم..

الحمد لله على السلامة، يا مختار..

يهز المختار رأسه، يقترب جاره فيعانقه، ويعود إلينا ليكمل حكايته:
يا عم، لا يفهم سرنا إلا من عاش ما عشناه. نحن شهود على الخيانة. رأيناهم وهم يخرجون من ديارهم مطاردين بالنار. رأينا المرأة التي تحمل على كتفها طفلاً وتجر بيدها طفلاً آخر، وفي يدها صرة ثياب، ودموعها شلال، وهي مكسورة، تنظر فلا ترى، حياتها خلفها. أهلها خلفها. بيتها خلفها، وأمامها جهنم التشرد.
يصمت قليلاً، يمد بصره الى فلسطين التي تسكن عينيه: مصدر الخير صار مصدر الموت! نحن، يا عم، نرى الحرب قبل ان تقع. (يضحك) نشم رائحتها... رائحتهم. نعرف اننا إذا تركنا ديارنا اخذوها، تعلمنا الدرس. نهرِّب النساء، اولاً، حفظاً للشرف، والأطفال، ومن لا يستيطع الصمود. الشبان يعرفون ما عليهم ان يفعلوه. هذه المرة بغتونا! عمليات الأسر السابقة كان لها سيناريو حفظناه عن ظهر قلب: يومان من القصف الشديد لمناطق واسعة، توغل محدود في بعض النقاط، قصف جوي لمراكز يعتبرونها مكامن للمجاهدين... ثم يسود الهدوء، وتصير اخبار المفاوضات في الصحف والاذاعات.
انتبه فجأة الى امر نسيه:

سألتني عن بيت ابي عدنان (يضحك) أنا حافظ ألف بيت لموسى الزين شرارة، اي بيت تريد؟! حارة بيت بزي؟ منزل علي افندي بزي؟
ذهب زمن الشعر. اسرائيل تقتل الشعر والعصافير والبيوت والذكريات والاحلام. ها هي القصائد مبعثرة بين الركام.
يأتي الشعر متأخراً. الشعر هو التاريخ. فلسطين هي الديوان العربي المعاصر. وها هو لبنان يضيف الى الديوان فصلاً جديداً. صار لبنان مغناة العرب. حاولوا قتل لبنان فبعثوا فلسطين، التي لم تمت، بعثاً جديداً. لبنان هو الشاعر والقصيدة، الآن، المطرب والاغنية، هو حداء النهضة الجديدة. لبنان يختزن فلسطين، لذلك لن تتكرر فيه ومعه <المندبة>. فلسطين ليست الأندلس، ولبنان ليس حلماً. والأرض بأهلها، والأهل بأرضهم.
أي قصيدة يمكن ان تكون اجمل من ذلك البيت المهدمة جدرانه والذي على الشرفة الباقية منه يحتشد أهله، وفي صدر الجدار الأخير صورة الشهيد الذي قاتل حتى قتل اسطورة أرض الميعاد، وسطر الصفحة الأولى من كتاب تحرير الارادة ليكون الغد لابناء الأرض التي صار بعض ثراها المقدس؟!

أليس الجنوب شمال فلسطين؟! أليس القلب الى الشمال؟
الحب وطيوره المهاجرة
عادت الطيور المهاجرة، يتقدمها الخجل من <الغياب>.
من أين يبدأ الكلام؟! لا مجال لاستئنافه من حيث انقطع. ثمة هوة من الحزن، الألم، العتب، الخيبة، انكسار في الحب. لكن الحب رحب يتسع للعتاب، للغفران، للتسامح، ما هذا اللغو؟ الحب لا ينكر. الحب لا يتسع ولا يضيق. الحب يتجاوز الغياب. هو اتصال لا ينقطع مهما تباعدت المسافات. كيف تنفصل الروح عن الروح.

لكنها الحرب.. والمقاومة حب. والصمود حب. الأرض حب. الناس حب. الامكنة، الاخيلة، الذكريات، الاحتياج، الوحشة، الاحساس بالتوحد، الخوف من الوحدة، الانتصار على الموت... كيف تنتصر إلا بحبك؟ كيف تواجه قتل الحقد وتدمير البغض وقصف الكراهية ومذابح الاطفال إلا بحبك.

الحب اقوى من الخوف. حتى من اخذه الخوف الى البعيد صحب حبه معه كي يظل يتعرف الى ذاته. لو انه نسي حبه لسقط سهوا، سواء أكان هنا ام غاب. حبه اخذه بعيداً، وحبه اعاده إليك. ليسقط العتاب. اكمل سيرة حبك لتكون لك حياتك.

من أقوال نسمة

قال لي <نسمة> الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
سمعت من يخاطب بيته بشعر لم يقل مثله <المجنون> في ليلاه. سمعته يغنيه. سمعته يستخدم في وصفه ما يتجاوز الحنين والشوق والحنان. سمعته يناجيه، ثم انتبهت الى الصورة على الجدار ففهمت. للأمكنة ملامح البشر وقلوبهم. بيتك قلبك.. منه ينبع الحب وفيه يصب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى