الخميس ٥ تموز (يوليو) ٢٠١٨
بقلم رشيد سكري

حاجتنا المُلحة إلى الأدب

قال عميد القصة أحمد بوزفور: إنّ القصة طفلة في الأدب.

لن يختلف اثنان حول جدوى الأدب في الحياة، بل لن يختلف اثنان حول المغزى، الذي يحفره الأدب في وجدان الإنسان عبر التاريخ. فما الإنسان إلا ذاك الكائن الحكَّاء، الذي يتوسل بالظواهر الأدبيّة، بُغية أن يصل إلى أهداف و مرام محددة سلفا. بالإضافة إلى أن الإنسان لن يستطيع أن يتخلى قيد أُنملة عن جوهر الأدب، بمعنى أنه يسعى إلى توظيف، في تواصلاته اليومية، مختلف المكونات الأساسية للأدب. فتارة يصف و تارة أخرى يسرد وتارة أخرى يحاور، لذلك قال إفور ريتشاردز في كتابه "معنى المعنى": "إن الإنسان كائنٌ أدبيٌّ بامتياز".

إننا بهذا الشرط نلج عالم الحكي عن طريق جنس القصة القصيرة، مادام الحكي شرطا وجوديا، ومادامت القصة بؤرة تنطوي على مختلف أجناس الأدب. فضلا عن أن القصة حوار و تشكيل دلالة و إبداع معان. فلا غلو إذ قال بوزفور: إن القصة طفلة في الأدب، لأن سوسيولوجية الطفولة ترتبط، في الأذهان، باللعب و البراءة و مَيْعة الصبا. ومنه فنظارة الطفولة وجهٌ آخرُ للجمال، الذي لا يستقيم عوده من دون هذه المرحلة العمريَّة، التي يمر منها الإنسان. فالجمال في الحكي تختزنه القصة القصيرة عن طريق الحلم المنيف، الذي يراود شخوصها وأفضيتها و الطموحات الكبيرة، التي تسكن روادها.

ففي سبيل هذا المعطى، نفهم أن للإبداع تركيبا كيميائيا، فهو مزيج من التفاعلات و تبادل التأثير و التأثر واقتناص اللحظات الهاربة، وكل هذا يجب أن يصطبغ برؤية فنية مبهمة المصدر.

بما هي اللحمة التي تخيط نسيج الإبداع. في هذا السياق فالرؤية للعالم، حسب لوسيان كولدمان، هي رؤية فنية ـ جمالية بالأساس. لذا ظلت القصة من بين الأجناس الأدبيّة الأكثر تجسيدا لهذا المعطى الأدبي. علاوة على ذلك، فالمسعى الرئيس هو الذي يسمح لنا أن نطل من خلاله على مكونات الأدب برمته، وتجعل من النص نصا أدبيا. فالرؤية الفنية ـ الجماليّة تبغي بلاغة الإمتاع كشرط أساس في تحسين التلقي الإبداعي. بيد أن الإمتاع يجب أن يكون حاضرا في القصة و الرواية و الشعر والمسرح والتشكيل والسينما... فلا يستقيم عود الجماليّة من دون بلاغة الإمتاع، بما هي فصيل بلاغي بامتياز.

بالموازاة، فالبنية و المكونات، تخول لنا تأطير القصة القصيرة من حيث هي جنس أدبي. يضع هذا التأطير اليد على أهم الأسس، التي لا يستقيم فن القص من دونها. فكما يقول أحمد بوزفور: إن القصة طفلة الشخصيات. فهذا يؤشر على أن هذه الأخيرة، كمكون أساس في الحكي القصصي، تقذف الجمال في سدى النص. بمعنى عندما تتناول القصة شخوصا منبوذة و مهمشة فهي تصيّر القبيحَ جميلا. و يصبح لهذه الفئة المنسيَّة والمتجاوزة في النسيج المجتمعي صوتٌ ومكان في التلقي القصصي. أو عندما تلهج القصة، حسب بوزفور دائما، بماسحي الأحذية أو بائعي الضطاي أو الفراشين أو الشواش أو النـُدَّل، فهي تسحب بهم البساط نحو بقعة الضوء، و تمسح على وجوههم غبش العتـْمة. غير أن الشخصيات ذات تركيب مختلف و متباين، يتمظهر وجودها في السرد عن طريق هذا الاختلاف، الذي يرمي بظلاله على المذاهب و الأيديولوجيات و الثقافات والحضارات الإنسانيَّة على مر التاريخ. فلامناص إذن، من البَوح بالدور الخطير الذي تلعبه الشخصية في نسيج السرد. علاوة على ذلك، فدينامو الحكي مصدره الرؤية التي تتمتع بها الشخصية للزمن و الفضاء و الحدث السردي كمكونات أساسية في إبداع دلالة المحكي. فإبداع شخصية في القصة يكون ارتباطها بالتاريخ ارتباطا قويّا، حيث تصبح، من هذه الزاوية، وثيقة تاريخية شاهدة على العصر. فضلا عن القص الذي يفيد من التاريخ بشكل مباشر.

إلى جوار ذلك، يكتسي الفضاء القصصي وجها آخر للمتعة الجماليّة، التي يبتغيها المتلقي. إن الفضاء في القصة ينسجم والأحداث، بل يتماهى معها إلى حد التلاحم و التواشج. فأفضية القصة تتراوح ما بين الحقول و النجوم و المدينة و القرية و البادية و الشوارع والدروب و الأزقة... تعكس، بذلك، وجوه شخصيات القصة. وفي هذا المضمار يصبح الفضاءُ القصصي خاضعا للرُّؤية الفنيَّة على غرار رؤية العالم. علاوة على ذلك يتحول الفضاء القصصي من مكان ضيق إلى مكان مفتوح وغير متناه أو العكس، بما هو الفضاء الفني حيث يرسم فيه القاصُّ الوجوهَ و الأمكنة والظلالَ. إلا أن الحيز في القصة يكتسي خصوصيّة نفعية من جهة و إمتاعيَّة من جهة أخرى، عندما يتحول إلى كائن يتنفس ويعيش ويشرب ويتناسل أيضا... فهو ينمو بنمو الأحداث ويخبو ضوؤه ـ أي الحيز ـ بتقلصها. لكن يمكن للفضاء، حسب الدكتور عبد المالك مرتاض، أن يُعذَبَ كما يُعذَّبُ الكائنُ الحيُّ، خصوصا عندما يجنحُ القاصُّ نحو الغابات الكثيفة و الجبال الشاهقة، والفلاة الموحشة والفجاج السَّحيقة والكهوف المظلمة.

فهذه المكونات تدفعنا إلى الإقرار بأن الإنسان بحاجة ماسَّة و دائمة إلى الأدب بعامة وإلى الحكي بخاصة. ومن أجل ذلك فهو يتنفس عَبق النشاط الأدبيّ الجماليّ، سيما وأنه
مُجبلٌ على العيش و التواصل الجيد داخل مجتمعه و منظومته. فلدوحة الأدب، إذن، عريشٌ وفيـْئ ممتد يسعُ لكل الحساسيات الإنسانيَّة، مادام الإنسانُ مبدعا، و مادام الإنسانُ متفاعلا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى