الثلاثاء ١٦ حزيران (يونيو) ٢٠٢٠
بقلم رياض كامل

حارس القدس

إن الكتابة حول مسلسل "حارس القدس" بكل ما يحمله من أبعاد، وبكل ما يثيره من نقاش، يستوجب الإطالة والتفصيل، سيما وأن هناك جوانب عدة قام العمل بالتطرق إليها بصورة مباشرة وغير مباشرة. وهو ما لا نسعى إليه هنا. وتأتي حساسية المقاربة لكون المسلسل يتمحور حول شخصية دينية شغلت مركزا متقدما داخل الكنيسة الكاثوليكية الشرقية، أثارت ولا تزال تثير نقاشا متشعبا حول دورها الذي خرج عن الإطار النمطي المعروف لرجل دين مسيحي يتبع لسلطة الفاتيكان.

إنّ "حارس القدس" هو عمل دراميّ سوريّ من إنتاج المؤسسة العامة للراديو والتلفزيون العربي السوري، قامت ببثه فضائيتا الميادين والسورية، خلال شهر رمضان المبارك (2020)، يتناول سيرة حياة مطران القدس هيلاريون كابوجي (1922- 2017). قام الكاتب المعروف حسن م يوسف بجمع النصوص وإعدادها وكتابة السيناريو، وأخرجه باسل الخطيب الذي أخرج أعمالا ناجحة لاقت تجاوبا واسعا لدى المشاهدين. تناوب في دور البطولة ثلاثة ممثلين: رشيد عساف بدور كابوجي في سن متقدمة، وإيهاب شعبان في سن الشباب، والطفل ربيع جان. أدى الثلاثة أدوارهم بإتقان تام جعلت شخصية المطران قريبة جدا من المشاهد.

ولد جورج كبوجي في مدينة حلب، إبان الانتداب الفرنسي على سوريا، وشهد صراع السوريين ضد الفرنسيين حتى نالت سوريا استقلالها عام 1946. فقَدَ والدَه وهو في الخامسة من عمره، فوجد نفسه مع أمه وجدّته وإخوته الصغار يسعون وراء لقمة الخبز في ظروف صعبة للغاية، فكبر حاقدا على الانتداب الفرنسي الذي رأى فيه سببا مباشرا للفقر الذي يعاني منه معظم الأهالي، وازداد حقدا وغضبا حين رأى، وهو الصغير، ما يتعرض له أهل بلده من تنكيل وإذلال من الفرنسيّ المحتلّ. ولما انتقل للدراسة في القدس شهد هناك أيضا الانتداب البريطاني على فلسطين، فتكررت صورة الظلم والطغيان نفسها أمام عينيه. أحب أهل فلسطين، وأحسّ أنه واحد منهم فاختار الاسم هيلاريون حين سيم كاهنا في القدس على اسم ناسك غزيّ.

قدّم خدماته الكهنوتية في قرى لبنان وسوريا، إلى أنْ عُيِّن مطرانا للروم الكاثوليك في القدس (1965)، فبدأ حياة جديدة حافلة بالمغامرات الصعبة. كان لحرب حزيران ونكستها (1967) تأثير بالغ الأثر في نفسه، كشاهد على الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس التي عشقها بشكل خاص، وبالذات رؤية مئات القتلى الذين تُركت جثثهم ملقاة في الأزقة والشوارع. وقف داعما صراع المواطن المهزوم ضد الاحتلال علانية ودون مواربة. لم يخف موقفه من الإسرائيلي المحتلّ منذ الأيام الأولى وقام بدعم الكثير من النشاطات الاجتماعية والتطوعية التي توفر بعض مستلزمات الحياة اليومية للفلسطينيين.

أما الحدث الأهم، والأكثر إثارة، فكان دخوله السجن الإسرائيلي، بتهمة تهريب السلاح بسيارته للمقاتلين الفلسطينيين، في الثامن من شهر آب1974، مدة 12 عاما، قضى منها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر. أفرج عنه إثر مفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية والفاتيكان، بشروط عدة أهمها، مغادرة البلاد، عدم الإقامة في أي دولة عربية والنفي إلى بلاد بعيدة. عاش المطران بعد خروجه من السجن ما يقارب عقودا أربعة إلى أن مات في روما ودفن في لبنان خلافا لرغبته بأن يدفن في القدس.

يعتمد القائمون على العمل على ما كُتب حول سيرة المطران الذاتية، وخاصة على الصحفيين سركيس أبو زيد وأنطوان فرنسيس، اللذين أجريا معه مقابلات مطولة، أسفرت عن كتاب كبير بعنوان "ذكرياتي في السجن" (500 صفحة). حصل مؤلف المسلسل على نسخة إلكترونية منه، إذ لم يقم الصحفيان بنشره بناء على طلب المطران نفسه، الذي أوصاهما بعدم النشر إلا بعد وفاته (2017). ومما لا شك فيه أن هناك ضغوطا قد مورست على المطران، خلال حياته من عدة جهات، ومنها جهات دينية. فحاضرة الفاتيكان تسير عادة بين النقاط، متخذة كل وسائل الحيطة والحذر للحفاظ على علاقة مع كل الأطراف.

التزم المسلسل بسيرة حياة المطران كبوجي الذاتية، على حساب التخييل. ولتعويض عنصر التخييل عمد المخرج إلى عرض مشاهد مثيرة للمشاعر، أبرزت الجانب الإنساني للمطران منذ سن الطفولة، بدءا من البيت ووقوفه إلى جانب أمه الأرملة ودعمها، رغم صغره، مرورا بتضامنه مع أستاذه الذي اعتقلته سلطات الانتداب الفرنسي، ووقوفه مع الفقراء في قرى المنسيين في سن أكبر، ومعاداته للاحتلال والاستعمار. نقل المسلسل صورة لرجل دين مسيحي ثائر لا يتقيّد بما هو متبع بشكل عام، وعكسَ موقفا فلسفيا من أمور دينية ودنيوية حساسة تحتاج إلى جرأة.

يأتي هذا العمل في زمن يعيش فيه العالم العربي حروبا داخلية وقلاقل قسّمت السكان إلى طوائف وملل لا رابح فيها. تلعب في تحريك هذه الحروب والصراعات عوامل داخلية وخارجية، من أهم نتائجها سقوط ضحايا مدنيين بأعداد هائلة، وهجرة ونزوح ملايين من السكان. ومن ضمن ضحايا هذه الحروب الأقلية العربية المسيحية، التي تتعرض هي الأخرى إلى عملية سلخ وتهجير من عدة أقطار عربية. كما تتعرض هذه الأقلية إلى عملية تزييف لتاريخها في منطقة الشرق الأوسط عامة من عدة جهات.

يقوم هذا العمل بالدفاع عن دور العربي المسيحي من خلال شخصية مطران عربيّ شاميّ ينتمي إلى الكنيسة الكاثوليكية الشرقية، يعلن موقفه بصورة واضحة لا لبس فيها عن دعم كامل للقضية الفلسطينية فعلا وقولا. ويعيد صورة العربي المسيحي إلى الواجهة النضالية، في ظروف صعبة يمر بها الشرق العربي عامة، وفي ظل تنامي حركات أصولية مارست عنفها على الجميع، دون استثناء، وترى في العربي المسيحي عدوا لا شريكا. وفي ظل محاولات تشويه مدروسة وخبيثة تخفي تاريخ المسيحيين العرب وتعمد إلى محو أصولهم وانتمائهم الشرقي.

جاءت مواقف المطران في هذا العمل الدرامي لتبثّ للمشاهد العربي حرص هذا الرجل المسيحي على المصير العربي المشترك، الذي يرى في الشيخ عز الدين القسام شريكا ومثالا يقتدى به، دون خلخلة لصورته كرجل دين مسيحي يقيم الصلوات ويرعى شؤون رعيته، ويرى أنْ لا تناقض بين كونه مسيحيا وبين كونه عروبيا. وهذا بحد ذاته رسالة ذات دلالة واضحة للمشاهد. فرجل الدين المسيحي كبوجي ورجل الدين عز الدين القسام المسلم يحملان نفس الرسالة، وكلاهما سوريّ المنشأ يجمعهما وحدة الموقف ووحدة المصير تحت راية العروبة، التي يعمل كثيرون، منذ زمن، على محوها من قاموس الإنسان العربي، بعد أن كان لها دورها البارز أثناء ثورات التحرر من الاستعمار الغربي قبل منتصف القرن العشرين وبعده. tقد قامت بعض الأحزاب وبعض التيارات العربية، في حينه، برفع شعار الوحدة العربية الشاملة.

عمل المسؤولون عن العمل على إبراز مدينة القدس ومكانتها، بكل ما تحمله من رموز خاصة وعامة، فهي مدينة مقدسة في عين كل عربي، مهما كان انتماؤه الديني. وهي قاسم مشترك للعربي حيثما كان في أي بقعة من العالم، رغم فصل جسدها عن هذا العالم العربي الواسع. وما التأكيد على مكانتها الدينية إلا تأكيد على مكانتها العروبية، السياسية والتاريخية. لذلك فإن العمل يعيد النكبة والنكسة إلى الواجهة من جديد، بعد أن اختلطت الأوراق وتبعثرت في ظل واقع عربي هو الأسوأ منذ عقود طويلة.

كما أعتقد أن القيّمين على العمل يعملون على بث رسالة تحذير إلى كل مسؤول، وإلى كل مواطن عربيّ أنّ ما يحدث في القدس، وفي فلسطين قد يحدث في كل قطر من العالم العربي، وأنّ المقدسات المسيحية والإسلامية تقع تحت طائلة الخطر الفعليّ، خاصة وأن الصراعات ما زالت تفتك بالشعب العربي، في أكثر من قطر وقي أكثر من موقع. وأما التشرذم الحاصل اليوم فقادر على أن ينال من سلامة ووحدة أي دولة عربية. فلا أحد بمنأى عن نيران هذا التشرذم وأبعاده. فما حدث هنا قابل لأن ينتقل إلى هناك.

يسعى هذا العمل إلى طرح موقف رجل الدين ودوره، معتبرا أنّ الحجة التي ينشرها بعضهم حول اقتصار دوره على تصريف الأمور الدينية فقط، دون التدخل في الشؤون السياسية هي فكرة ديماجوجية مضللة إلى أبعد الحدود. وهي فكرة ظاهرها أخلاقي وباطنها استسلامي لا أخلاقي.

بدا واضحا أن المطران إيلاريون كابوجي يحمل الكثير من الشيم الإنسانية التي تعنى بشؤون الضعيف ودعمه، وذلك منذ سن مبكرة، داخل المدرسة وخارجها، وقد برز إنسانا حساسا لا يحتمل رؤية الظلم على الصعيد العام والخاص. لم يقتصر تسليط الضوء في المسلسل على الجانب السياسي والوطني، بل إن الجانب الإنساني والأخلاقي نال قسطا واضحا تجلى في علاقة المطران بوالدته وجدته وإخوته، ومن خلال زياراته لقبر والده الذي توفي صغيرا، ثم في التدخل في حل قضايا طائفته الداخلية، وفي امتداد هذا الدور إلى الطوائف الأخرى وإلى القضية الفلسطينية بكل ما تحمله من معان وأبعاد، ليجعلها قضية كل عربي حيثما تواجد.

إن علاقة المطران بأم عطا المسلمة، ابنة القدس، وابنها كانت نقطة القوة في هذا المسلسل، وقد كان الدافع إلى ذلك هو التركيز على وحدة المصير بين جميع الأقطار العربية تجلت في مخاطبته إياها: "إنت لما بتحمي بيتك في القدس عم تحمي بيتي في حلب"، وأعادت إلى الأذهان دور رجال دين مسيحيين ومسلمين، في العالم العربي، تشعبت أدوارهم دون الاقتصار على طائفة بعينها، دون سواها.

إن المتلقي الذي تابع هذا العمل قد شُغل بمتابعة ما يجري مباشرة مع المطران، ولذلك فإن علاقته مع أم عطا وابنها، ومع أمه وعائلته، ومع الذين أحاطوا به عن قرب كانت أكثر جاذبية للمشاهد من أحداث أخرى ومشاهد أخرى تبتعد عن شخص المطران. يتأثر المُشاهد بمواقفه الخاصة النابعة من إيمانه هو، وبمبادئه التي ربي عليها، دون تأثير من أية جهة احترمَها وقدّرها فيما بعد. وقد بدت شخصيته منذ الطفولة توّاقة للحرية والاستقلال الذاتي.

لا شك أن حارس القدس عمل يحمل رسالة سياسية وأيديولوجية معينة، كما هو شأن كل عمل أدبي، أو فني، وقد استجاب المُشاهد أكثر، كما ذكرنا، حين تركزت الأحداث حول شخص المطران اجتماعيا وفكريا ودينيا وسياسيا، فبدت شخصيته ناضجة عنيدة منذ سن الطفولة، وكنت أتمنى على القيّمين ألا ينحو المسلسل في بعض مشاهده منحى الخطابية المعهودة.
يحترم المشاهد ويقدر دوره في المحكمة، ووقفته الواضحة الصريحة النابعة من عمق إيمانه الخاص رافضا الحلول الوسطى، وتصميمَه الحاد على مواقفه داخل السجن وهو يتعرض للتنكيل والتعذيب. ويتأثر بشخصه في ربط علاقة احترام متبادل قائمة على المحبة مع السجناء السياسيين، وبمواقفه الإنسانية الداعية إلى التعاضد بين المظلومين، وبين أبناء الشعب الواحد، خاصة وأن صورته في الأذهان هي صورة رجل دين صارع ضد الاحتلال الفرنسي والإنجليزي والإسرائيلي على حد سواء، قولا وفعلا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى