حتى لا ننسى
قبل 27 سنة ومن روما دقّت حركة النهضة المسمار الأول في نعش الجنرال الهارب..
كان بن علي في أول زيارة له لإيطاليا وهو يعيش بداية ذروة جبروته وقد مكّن للتجمع كقوة باطشة مسنودة بجميع الفرق الأمنية ومدعومة بميليشيات القتل البطيء والممنهج، أو ما اصطلح عليه بلجان الأحياء التي شردت آلاف الأسر عن طريق الوشاية والدسيسة والتلفيق، في ذلك الوقت ولما كانت قناة تونس 7 والإذاعات اللا وطنية، والصحف التابعة، تتفنن في خدمة مصاصي الدماء والدماغ معا، وكانت العديد من وسائل الإعلام الأجنبية تقبض بالعملة الصعبة مقابل التغطية على ما يدور في السجون الصغيرة وفي السجن الكبير..
حل بن علي على الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط في جولة لأوروبا بدأها بزيارة إيطاليا المدخل الجنوبي لأوروبا اعتقد أنه سيجمع بها تأييدا أوروبيا وتساهلا إيطاليا لمطالبه، ومن بينها تسليم بعض معاريضه هناك خاصة اثنين منهم.. وأنها ستكون زيارة سهلة مريحة يخاطب فيها البرلمانيين الإيطاليين بطلب مسبق منه، من قبة برلمانهم وهم يستمعون له وكأنهم برلمانييه الكارتونيين، لكن المفاجئة كانت أكبر مما يتصور، حيث حشد التونسيين نواب إيطاليين بأحزابهم، وجمعيات المجتمع المدني ضده، ولأول مرة يجتمع ذاك الكم من البرلمانيين (15) وذاك الكم من منظمات المجتمع المدني وما وراءها من جماهير ضد فرعون تونس، ووجد ذاك الطاغية الذي اعتقد باستحالة وجود حنجرة تونسية تقود وتهتف ضده أو تحتج حتى على آلامها.. وجد الحشود في طريقه من مطار "شمبينو" محطة نزوله حتى وسط مدينة روما تتابعه بهتافات معادية، وترفع في وجهه اللافتات الحارقة "دكتاتور، مصاص دماء، دراكولا، نيرون تونس، قاتل.." ووجد من يهتف عن مقربة منه "بن علي جزار.. بن علي جزار..". وقد أرغم الساسة الإيطاليين قبل وخلال الزيارة على لسان وزيرة المرأة والشؤون الإجتماعية التي استقبلته في المطار بالتصريح بإدانة القمع الواقع في تونس والمطالبة بمزيد الحريات في البلاد، بل وإلغاء كلمة بن علي في قبة البرلمان والعشاء الذي كان مبرمجا مع رئيس الجمهورية..
ومازلت أذكر كيف أن أحد المتظاهرين اخترق البوليس الإيطالي أمام إقامة السفير التونسي ودفع بن علي حتى سقط على أحد محابس الورد فانكسر المحبس، وهتف التونسي "يخلي بقعو كالثور حتى المحبس كسرو"، فأدار المجرم رأسه نحونا ولم ينبس ببنت شفة.
لقد نجحت وقتها النهضة في دق أول مسمار في نعش الطاغية وتيقن لأول مرة بعد سنتين من بطشه أن تونس تقاوم أكثر مما كان يعتقد..
عندما كانت سجون بن علي تبتلع قرابة 30 ألف سجين وكان بعض نشطاء حقوق الإنسان يواصلون ثباتهم كانت حركة النهضة تقود المعركة من الداخل والخارج، وكانت قواعد النهضة في المهجر على ذمة كل حقوقي ينادي إلى تجمع أو مظاهرة أو تظاهرة، مهما يكن الإسم، ومهما يكن المكان..كانت هناك رغبة قوية بل فولاذية في عدم الإستسلام للطاغية.
كثيرة هي التفاصيل التي جمعت الحرائر والأحرار في ساعة عسر حولنا بالتكافل والإيثار إلى يسر، خاصة في روما..
واليوم في تونس مابعد الثورة... تونس الحرية، يعترض سبيلك العديد من الذين كانوا يطوفون في ليالي الشتاء الباردة "بالبرنس واللوقوحية"، يراقبون كل نفس أو حركة معارض لرجل السابع من نوفمبر، العديد منهم يضحكون في وجهك ضحكة صفراء ثم يروثون روثا نتنا "آخي حتى أنتم تحبوا على الرئاسة"!