الخميس ١٠ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم توفيق الرصافي

حديث صفصافة

تجاهله وجلس على بعد طاولتين. أحس بنظراته تغرقه وتكتم أنفاسه. لاحقته الذكريات البعيدة طويلا، وهاهي تخنقه من جديد. وهذا القادم من الزمن القديم أيقظ رواسبه وجعل منه كتلة عظام مضطربة وجملة من أنفاس محترقة.. سحقا.. ألا يمكن أن أهنأ بيوم راحة، ألا يمكن أن يموت الماضي مثل الأخلاق الفاضلة. ألا سحقا لهذه الذكريات التي لا تفتر عن الصراخ في وجهي و تذكيري بما لا ينسى.. 

 ماذا تشرب..؟؟ 

صفعه السؤال فندت عنه آهة وحركة مضطربة.

 قهوة إذا أمكن..

رمقه النادل بعينين صغيرتين مشفقا ثم ابتسم. سحقا لذي الذكريات. سحقا.. القهوة مرة في حلقه كما الذكريات القديمة، كما هذا الرجل الجالس على بعد خطوتين.. كما الجنون القديم..

تطلع إلى الليل القادم من خلف الزجاج يزحف مثل ثعبان. ورشف من فنجان القهوة بحركة آلية ثم عاد إلى الليل و المارة يتابعهما بشرود وقد تكالبت عليه أحداث الزمن الماضي مرة أخرى كأنه يعيشها اللحظة.. 

 اهرب..انج بنفسك..

 ولكن أنت..؟

 اهرب ولا تهتم لي.. سأتدبر الأمر من بعدك..

 أرفض أن أكون جبانا..

 كلام ليس هذا وقته.. اهرب الآن..

 ولكن..؟

 قلت لك اذهب.. اذهب حتى تخمد العاصفة و تموت الثورة ثم عد.. ستجدني في انتظارك.. 

قبلها طويلا ورقصت في أحضانه ساعة. ثم ذهب.

ليت الذكريات تنمحي من مخيلته. ليته يستيقظ يوما و كأن شيئا لم يكن. صفحة بيضاء ذاكرته يكتب فيها ما يشاء و يرسم في سطورها حياة أخرى ولكن هيهات.. فالماضي يطارده من كل جانب و هذا الجالس على بعد طاولتين منه يسلبه ما بقي من صبره. ولا مفر..

صفعه دون أن يدري وقد أحس بالأرض تدور من حوله بسرعة أكبر بسرعة جنونية. الغثيان يخنقه..

 كريمة أشرف من أمك..

 لا تريد أن تصدق.. ذاك شأنك..

 كذاب.. حقير..

 غباءك لا حدود له..

 كريمة أشرف منك..

أغاظته ابتسامته الشامتة و لعبت بأعصابه.

 ولكنها أروع في الفراش..‼

تحسس جانب فمه يداري ألم اللكمة وكأنه لم يمض غير دقائق على ما وقع و تذكر أنف غريمه المكسور و فمه المصبوغ بالدم.. 

سحقا لهذه الذكريات.. مقيتة كتلك الأيام.. كهذا الجالس على مقربة منه..

خطواته ثابتة رغم العاصفة التي تجتاحه. يخطر في معطفه الأسود كأنه قطعة من الليل. تردد لحظة ثم طرق طرقا خفيفا. الضحكات تدوي في الداخل مثل قنبلة و في أعماقه بركان..

 الباب مفتوح..

بلغ أذنيه الصوت وقحا. تردد ثم دفع الباب بهدوء مصطنع. العاهرة تضحك و من حولها قطيع من الأجساد العارية يتضاحكن في قحة ليست غريبة على أمثالهن.. تطلع في وجوههن بهدوء عله يجد المراد، غير أن بصره ارتد إليه خائبا يجر خلفه غمزات ساقطة و ابتسامات مستهترة و ألاعيب أجساد ألفت الرذيلة.. 

خطواته ثابتة رغم الغيظ الذي تملكه. و سأل:

 الست فاطمة..؟؟

نظرت إليه بجرأة و تعالت ضحكات الأخريات ثم قالت باستهزاء أجج حقده عليها:
 الحاجة فاطمة بأمر الله.. 

وجهها العريض مثل طبل و أنفها.. انفها صخرة ناتئة لا شكل لها فوق شفتين لعلها اقترضتهما من جمل معمر، و أسنانها تحفة.. تهيأ له أنهما لديناصور حجري.. 

الغثيان.. ملامحها الرقيقة أشعرته بالغثيان و التقزز.. قاوم تحرك بطنه و قال بلهجة جادة:

 أريد كريمة..

تعالت الضحكات من جديد و حركة الأجساد العارية لا تفتر. اللعنة عليكن إلى يوم الدين. انفجرت أذنه من صوت العجوز الهازئ: 
 
 معذرة نحن لا نتعامل بالشيك..

اهتزت الأثداء و البطون و جلجلت في البيت العتيق ضحكة المسخ.. وجوه بغيضة في مكان قذر.
سحقا.. كلما أمعنت الذكريات في اكتساحه كلما ازداد عذابه، وازداد احتراق قلبه، وغرق في الندم.. كم كنت غبيا..

بلغه من الداخل صوت أرعشه. العودة أفضل، قد تفوق الصدمة احتمالك.

ولكن الصوت عاد وحثه على الدخول.

سرير مهترئ و طاولة صغيرة عليها بضعة كؤوس وقنينات خمر فارغة، ومرآة بل نصف مرآة تجلس أمامها فتاة في عقدها الثالث. قمحية اللون سوداء العين مكتنزة في غير ترهل بفم جميل و أنف منحوت.. 

الرعشة تكاد تسقطه..هتفت به الفتاة دون أن تلتفت وهي تعدل من زينتها:

 على البطن أو الظهر..؟؟ 

ولما لم ينبس عادت تقول ضاحكة بلا ذرة حياء:

 أم أنك تحبه واقفا..؟؟

ما هذه صفة بشر. إن هي إلا قرود ممسوخة. شواذ يكاد يقتلها الشبق المجنون. ملعونة أيتها الحيوانات الشاذة. ضحكاتهن مقيتة كعيونهن الوقحة و أجسادهن النتنة مثل مزبلة تبعث على الغثيان.. احتضنه الليل و هو يغادر معبد الشواذ. وسقاه القمر من خمره البارد فأثلج صدره.. أي راحة هذه...

اقترب منه القادم من مزبلة الذكريات و على شفتيه ابتسامة حذرة:

 عفوا.. هل تسمح لي بسؤال..؟

أفاق من شروده و نظر إليه بذهول.

 إني أعرفك..؟؟

أجابه بذهول:
 أنا..؟
 أجل.. إبراهيم أليس كذلك..؟؟

انخدعت بسهولة مثل صبي. عرفت الشيطانة كيف تلعب لعبتها و خدعتك مثل صبي
 اهرب..

 لماذا.. ماذا جرى..؟

 ألم تسمع هذا الصراخ..؟؟

 بلى..

 لقد قتل غريب..

 قتل..؟

 أجل.. ألم تقتله..؟

 أنا..؟

 الكل يقول أنك قاتله..

 ولكن كيف..؟

 لا داعي للأسئلة.. اهرب الآن قبل أن يراك أحد ما..

 و لكني بريء..؟

 أعرف هذا.. ولكن الشرطة لن ترحمك و الناس لا يعرفون معنى البراءة.. اهرب
شيطانه مقيتة..

دمعت عيناها و انعقد ما بين حاجبيها ثم قالت بتحد:

 أجل.. أنا قتلته.. حقير لا يستح إلا الجحيم..

الجحيم ما أنت فيه أيتها الساقطة لو تدرين..

 وثقت فيه و خانني.. وهبته نفسي و خانني..سافل لا يستحق إلا الموت.

أبعد هذا تذكرين حديث الصفصافة و لقاءنا تحت كرمة العنب.. أبعدها تذكرين القمر و تذكرين الحب.. إبراهيم الذي تعرفين مات.. دفن يوم كذبت عليه. يوم انخدع مثل بسهولة طفل.. إبراهيم مات..

 آسف.. لست الشخص الذي تظن..

 ألست إبراهيم.. غير معقول..؟

 لعله تشابه فقط..

 لا أصدق.. أنت إبراهيم.. ألا تذكر حديث الصفصافة.. كرمة العنب.. ضفة النهر.. ألا تذكر..؟
إبراهيم مات يوم انخدع مثل صبي..

 قلت لك آسف.. لست الشخص الذي تظن..

و عاد الرجل إلى مكانه غير مصدق. الصفصافة أكذوبة.

رمى دراهما على الطاولة و خرج. احتضنه الليل و سقاه القمر من خمره البارد فأثلج أكثر. أي راحة هذه..

انفجرت في معبد الشواذ صرخة قوية ثم عويل غير مقطوع. وخرجت القرود الممسوخة عارية إلى الشارع تولول و تتمرغ في التراب. قذارة لا تستحق إلا القذارة..

صرختها المكتومة وهي بين يديه تتردد في أذنيه مثل أغنية محببة.. إبراهيم الغبي عاد إلى الحياة و فقد ارتباطه بالزمن القديم. إبراهيم..

و فجأة انبعث من أعماقه صوت رقيق ناعم هادئ يردد حديث الصفصافة ويهف به:
سوف تلهو بنا الحياة و تسخر فتعال أحبك الآن أكثر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى