الثلاثاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم هناده أبو هنود

حكاية خلف طوفان الأقصى

عائلة عريقة

كانوا أبناء قرية فلسطينية واحدة اعتادوا أن يسهروا معاً ويعيشوا أحزانهم معاً.. هذه هي عاداتهم التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم وكانوا متمسكين بها لا يتركونها...

لقد عاش أجداد القرية فترة الحكم الإنكليزي، وعاش الآباء فترة نكبة فلسطين، ثم توالت المحن على هذا الشعب وكأنما قدِّر عليه عيش الحروب جيلاً بعد جيل فمن انتفاضة الحجارة عام سبعة وثمانين وتسعمئة وألف1987، إلى انتفاضة الأقصى عام 2000، إلى انتفاضة القدس عام خمسة عشر وألفين 2015... إلى طوفان الأقصى عام أربعةٍ وعشرين وألفين 2024...

لقد كانت حياتهم مشتركة كما هي حروبهم مستمرة، وويلاتهم متواصلة، وها هم الآن قد هبّوا في انتفاضة هائلة وككل مرة هم معاً... وها هي الأمهات يدعونَ للأبطال بالنصر في المعارك..

ونزار واحد من أبناء تلك القرية الفلسطينية الوادعة، بطلٌ... ابنُ بطل، فأبوه شهد نكبة فلسطين عام 1948 واستشهد في انتفاضة الحجارة عام 1987 ونزار كان ما يزال جنيناً في بطن أمه، لذلك لا عجب أن يرث رجولته وبطولته وحماسته مع أنه لم يرَ أباه...

ومنذ صغره كان نزار يقاتل بالحجارة لأنه وُلِد في انتفاضة الحجارة، ثم أمسك البارودة في فترة المراهقة حين كانت انتفاضة الأقصى عام 2000، وانضم إلى صفوف المقاومة في سن الشباب قبل الحرب على غزة عام أربعةَ عشر وألفين 2014 . ثم ذهب ليشارك في حرب غزة بعد زواجه أو بعد عرسه بأسبوع... وأنجب ابنه البكر حساماً في انتفاضة القدس عام خمسةَ عشر وألفين2015 ، ولا عجب أن تحدث هذه المصادفة، فالأب نزار ولد في انتفاضة الحجارة، والابن حسامٌ ولد في انتفاضة القدس، والجد شهد نكبة فلسطين وكان شهيداً، فلا بد أن يكونوا متشابهين في الأحداث الوطنية كما هم متشابهون في الوجوه والطباع والشجاعة...

وزوجته مريم شبيهةٌ له أيضاً، فهي ابنة هذه الأرض التي ينتميان إليها معاً، عاشا على أرض فلسطين الطاهرة وعلى أرض غزة، فلا عجب أن تُختم هذه العائلة بختم القضية الفلسطينية المقاومة..

وعندما أراد أن يتزوج لم يحبَّ إلا ابنةَ هذه الأرض، ابنةَ النضال المشترك، فهي أيضاً تعرف مفردات المقاومة والحرب والدفاع عن الأرضِ والعِرض، وقد ربّت أولادها مع زوجها على هذه المبادئ...

وفلسطين هي معشوقته التي قدّم لها عمره وجعل مهرها حياته وأنجب منها أولاده، وشهد انتفاضاتها، وقاتل على أرضها، هي دارُه وبيتُه وأولادُه الذين سيقدمهم لها...

ابنه الأول ذو تسعةِ الأعوام يقول: نحن عائلة عريقة... أنا وأبي وجدي ولدنا في زمن المقاومة والانتفاضة، وعندما أكبَر سأنضم إلى المقاومة وأساهم في تحرير أرضنا... لقد سماني أبي حساماً لأكون بتّاراً كالسيف في وجه العدوان...
وبعد حسامٍ أنجب فتاةً سماها غزة لتكون شاهدة على حب الأرض، فالبنت كالولد في الشجاعة والاندفاع، وإذا احتاج الأمر ستنضم إلى المقاومة في المستقبل، عمرها سبع سنوات وترفع إصبعيها إلى الأعلى على شكل الرقم سبعة وتقول: فلسطين لنا، وغزة أرضنا، والنصر لنا..

الولد الثالث سماه والده عز الدين نسبة إلى الشهيد البطل عز القسام الذي قُتل على أيدي القوات الإنجليزية عام 1935م. عمره الآن خمس سنين يغني نشيد "فلسطين داري ودرب انتصاري" ويلدغ في نصف الحروف.

أما الولد الرابع فولد في 7 تشرين الأول 2023 في انتفاضة طوفان الأقصى..

ألم يقل أخوهم الكبير حسام إنهم عائلة عريقة؟!..

وقد سماه أبوه محمداً تيمناً بالشهيد الصغير محمد الدرة الذي استشهد في قطاع غزة عام 2000 في انتفاضة الأقصى..
لقد علق الأب صورة كبيرة في صدر البيت تجمعه مع أبيه وأبنائه ليكونوا شاهدين على عصر المقاومة تحقيقاً للنصر...

نزارٌ وزوجته وأولاده الأربعة كلهم من غزة وفدى عين غزة وفلسطين، فدى القدس وكل الأراضي الممتدة على هذه القرى والتلال والجبال، هذه الأرض المقدسة ولدوا فيها وشاهدوا أحداثها وانتفاضاتها وحروبها ومازالوا مصممين على استرجاعها، والبقاء فيها ومازالوا يقدمون الغاليَ والرخيص من أجلها... فهي الأجمل والأنقى..

وقف نزار يتأملها خلف أحد المباني ويرجع بذاكرته إلى الوراء فيتذكر ماضيه وحياته فيها، يتذكر أباه وجده وينظر إلى أولاده، ويقول في نفسه: إلى متى سنبقى على هذه الحال؟ متى ستصير أرضنا لنا ولأولادنا؟ مكتوب علينا أن نقدمهم شهداءَ على مذبح الحرية... فكل ذكرى لنا مرتبطة بثورة وانتفاضة... وكل حدثٍ لنا فيه ذكرى مع روائح الدمار...

أما آن لنا أن نستريح؟؟؟ أما آن لنا أن ننتهي؟!...

نحن نرى ونسمع كل يوم أصوات الانفجارات والتدمير، فقليلاً ما يمرّ يومٌ دون حرب وإطلاق نار...

وبينما هو على هذه الحال سمعَ صوت انفجار مدوٍّ كأنه قربه فخرج يستطلع الأمر و إذا به يرى أشلاءً مبعثرة...
لقد خرجت البنت غزة تقف عند عتبة الباب حاملة أخاها الصغير َمحمداً ذا سبعة الشهور لينظرا ضوء الشمس، فشاهدا قذيفةً حطت على مسافة قريبة منهما قادمةً من خلف الشمس، فحاولا الهروب لكن القذيقة كانت أسرع من ركض فتاة صغيرة تحمل طفلا رضيعاً...

لقد طارا في الفضاء ثم حطا بقوة على الأرض أشلاءً محطمة، خرجت الأم على الصوت وهي تصيح مولولة تنادي ابنيها فما من مجيب، وخرج الأب يلملم أشلاء جسدي ابنيه اللذين تناثرا في الهواء فلم يستطع، لقد طارا كعصغورين صغيرين إلى السماء خلف الشمس ليبحثا عن انبلاج النور من خلف خيوط الشمس


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى