

حين فُتحت أبواب السماء
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
حاصِرْ حصَارَكَ لا مفرُّ
سقطتْ ذراعك فالتقطها
واضرب عَدُوَّك لا مفرُّ
وسقطتُ قربك، فالتقطني
واضرب عدوكَ بي.. فأنت الآن حُرُّ
"محمود درويش"
(١)
أما آن للقائد أن يستريح؟
لم يبقَ في جلده موضعٌ لم يتغيَّر لونه. الجروحُ تمتدّ كالفطريات في جسده النحيف، والذكرياتُ تدقّ طبولها في رأسه المثقل، وتنقسم في خلايا ذاكرته صورًا لا تُمحى ولا تُستبدل. يزداد الجسدُ الهزيلُ ضعفًا وشموخًا كلما تذكَّر مشاهد المقاومة. ينظر القائدُ إلى وطنٍ ممزّق: غزّة والضفة، بحرٌ ويابسة، قصورٌ من رخام، ومخيّماتٌ من صفيح، قبةُ الصخرة، وقبةٌ حديديّة، مدنٌ محاصرةٌ من الجهات الأربع، وأطفالٌ يرفعون صورَ الشهداء بدل الحلوى. أرضٌ تقف على بوّاباتها الدباباتُ، وينهش خيرَها الطامعون، ويكبر في أزقّتها تجارُ الحرب. المسافةُ بين الماضي وجراحه الغائرة عصيّةٌ على القياس، والمسافةُ بين سماء فلسطين وبساتين الزيتون وشواطئها تنحصر بين ضلوعه الأربع والعشرين وحجرات قلبه الأربع.
ذلك القائدُ الذي خاض كلّ المعارك، وقال يومًا: "لبيكِ يا سماء الوطن ويا شاطئ العودة ويا مآذن القدس"، رأى بأم عينيه كيف كانت أبوابُ السماء تُفتَح على مِصراعَيها لاستقبال من ارتقَوا على الأرض. كان طيارًا بارعًا يعي أسرارَ السماء وخبايا الأرض. راحت طائراته الشراعية تشقّ الأفق وتخترق الهواء. ألقى بنفسه في لهيب الرصاص والصواريخ، وأمطر المعتدين بوابلٍ من الغضب. وفي اليوم الذي فقد فيه رفاقه، عاد يقود كتائبَ الطوفان. صعد إلى السماء ثانيةً في خطٍّ متعرّج، فاجتثّ قطعةً كبيرة من الورم الجاثم على كبد الوطن.
وجوهٌ من زجاج وذهب وحجر وشظايا تمرُّ أمام ناظريه. غيومٌ بيضاء، شظايا هنا وجثثٌ هناك، من دون ذهولٍ أو وجل، بل صمتٌ تخبّئ خلفه قصةٌ أخرى: ومضاتٌ من أيام (الشوك والقرنفل)، لحظة عابرة تعبق برائحة القهوة، ووجه البحر، وطبول الحرب تقرع. شريطُ الذاكرة لا يتوقّف منذ مذبحة خان يونس، وعلى الوتيرة نفسها تتكرّر الملاحمُ والمآتم. تتكدّس أجسادُ الرجال على الضفتين. عاش ساعاتٍ طويلة من الحزن وثوانٍ خاطفة من النشوة. كان جنديًّا بسيطًا بينهم، نسي رتبته وسنيّ عمره الطويل. قاتل بلا كلل، شارك جنوده كسرة الخبز اليابسة، وزاحم الأبطال في الصفوف الأولى، حتى أصبح أشجعَ قائدٍ وأوفى صديق.
ولكن، أما آن لهذا القائد أن يستريح؟
جرحٌ عميق في كتفه الأيمن، وشظيةٌ في رأسه لم تفلح في إسقاطه. لم تسلم قدمه اليسرى من رصاصةٍ طائشة استقرّت بين العظام. لم يكن يبحث عن عدسات الكاميرات ولا الأوسمة ولا كلمات الثناء من السياسيين الماكرين، أولئك الذين رمَوا به وبرفاقه من محرقة إلى أخرى. كان النومُ يمرّ بجواره على عجل؛ فيغفو برهةً ويصحو حينا، ويرى في أحلامه الوجيزة زوجته وأولاده، وصديقه الشهيد، ووجوه جنوده، وأشلاء أصحابه، ومئذنة المسجد العمريّ في غزّة وهو يصدح من فوقها بالأذان: الله أكبر.
(٢)
هناك آخرون يحملون الكاميرات بدلًا من القاذفات، يسجّلون الألم ليذكّروا العالم بما نعيشه هنا.
هو الآن في طريقه إلى موقع الفاجعة، مضمّخًا بالدماء والكبرياء. يترك الليل خلفه مركونًا على جدار الماضي. لا شيء يوقفه عن نقل الحقيقة. هكذا هي الذاكرة: تتقطّع فيها الأوردة، وتتلاشى الصورُ صورةً تلو أخرى. يخرج إلى الهواء مباشرةً، وخلفه حيّ الزيتون يحترق، وثلاث جثثٍ من عائلته ممدَّدة على مفترق الطريق. من خلف الكاميرا يأتيه صوتُ صديقٍ قديمٍ يهمس بأذنه:
أراك عزيز النفس، لا تهاب الخطوب؟
أكان يعلم ما تحمله الأيام من آلام، وما تحفره الأرض من ندوبٍ في الجباه والعظام؟ يغادر موقع التصوير، معصوب القلب، يغطّي أحداث الحرب بذاكرة الوجوه التي توّجها النرجسُ والحبُّ والانكسار وقصائدُ درويش؛ وجوه قالت كلَّ شيء بلا كلام.
يردّد بهدوء: لا بأس. يريدون الانتقام بذبح أطفالنا. لا بأس. تُراه الوحيد الذي توارى خلف حجاب الذكريات القديمة؟
أراك هادئًا في هذا الوقت العصيب؟
كنت أنام على نكبات الأمس، وأغسل جرحي بماء بحرنا المالح.
هو الآن أمام الكاميرا، يكفكف دمعه ويمسح عن وجهه دخان المعركة وغبارها. في اليوم المئة من الحرب، بدا وجهُه مسافرًا بين البحر والسماء. يقف على قفارٍ تحوَّلت إلى قبورٍ لأطفالٍ صغار، وأحلامٍ كبيرةٍ رحلت بغتة. نصف خارطة الأرض بين يديه، والحاضر ينكمش في عدسة الكاميرا. هل تبقّى مجالٌ لبثّ الجروح أو البكاء على الهواء؟ خلف الشاشات، يشاهد العالم لوحةً بلونين: الورد والبارود، الطهر والعهر، الودُّ والحقد. ولكن على أي ضفةٍ يستعر البارود؟
يخرج من موقع الفاجعة. يمشي بهدوء على أرض أجداده التي يعرف كل شبرٍ فيها. ينزع خوذته بعد تغطيةٍ شاقّة، ويخلع درعه الأزرق الممهور بكلمة “Press”، ثم يلبس ثوب الصبر الذي لا تُمزّقه أصابعُ الغدر ولا يتسلل إليه الخوف. يجلس مع أهله وناسه بعد أن أكلته الحيرة. شعره قصيرٌ يشيب من الأمام والجوانب. عيناه تحدّقان في جوف الظلام صوب البيوت الفارغة والأشجار المحروقة. في لحظة سكون، تناديه طفلةٌ من بين الحشود:
نحن جميعًا أبناؤك يا عمّ وائل، ونحبّك كثيرًا. أنت جميل، وصرت اليوم أجمل.
ويصيح آخر:
حين أكبر سأكون مثلك يا عم وائل. أنت بطل.
ويهمسُ ذلك الصوت الخافت مرةً أخرى:
أراك صابرًا، لا تنال منك الخطوب؟
(٣)
كان القائد يحيى يلقي خطابًا مشتعلًا ليُلهب حماس الكتائب. وهل للكلمة أثرٌ في ساح الوغى، تحت أزيز الطائرات ودويّ المدافع؟ هل تملك الكلمات رائحة البارود وزئير الحرائق؟ كلماتُ القائد يحيى تُحدث مفعول القنابل. تهشّم قلوب العدو قبل خوذهم. يبدأ غاراته الجوية بنشيد الفجر، فتلتحم الحروف وتتسابق الكلمات. يقول:
"هي حرب الأحرار، حرب الدفاع عن شرف الأمة. من رأى غير ذلك فليعد إلى الخلف، إلى الملجأ أو البلد المجاور، فلن نحاسب الجبان. لا نريد متخاذلًا يُفسد علينا النصر."
كان الجنود يسمعون فيُطيعون. إذا قال لهم أن يتريثوا أو يتقدّموا في ساعةٍ محددة وعلى نقطةٍ معيّنة، جاء النصر في اليوم نفسه. كان يدرك سـرَّ الكلمة النبيلة وتأثيرها في نفوس جنوده، ولم يبخل عليهم بها يومًا. هكذا صار يحيى معلّمًا مُلهِمًا وقائدًا جسورًا ورفيقًا وفيًّا يمضي مع كتيبته نحو إحدى الحسنيين.
ولكن، أما آن لهذا القائد أن يهدأ؟
الوقت كان غادرًا لا يشبه أيّ زمن. الليل في غزة لا يشبه ليل المدن الأخرى. أشلاءٌ ودماء، ورائحة البارود تملأ الأزقة.
سرقوا الأرض تحت ظلمة الليل، وانتظرنا حتى آخر الأنفاس من أطرافه. ها هي الحرب تكشّر عن أنيابها، وها هو الحق يرفع راية الحق، وهذه البلاد تسكن القلب بين حدقات العيون. من العار، مهما بلغت بشاعة الزمن، أن ينسحب القائدُ يحيى ويتركها لحفنةٍ من المتخاذلين. الدماء تنزف وتتسلل إلى سراديب الأرض العطشى، والجثث المكدسة فاقت حاجة الغربان. غطّت الشوائب والطحالب ورائحة العفن كل ركن.
ماذا يقول القائد الذي فقد أعز الرفاق مقابل شبرٍ من أرضٍ وبضعة أمتارٍ من الشاطئ؟
قال أحد الجنود:
لم يبقَ أحدٌ منهم يا سيدي. عادت الأرض إلينا. تركوا كل شيء وفرّوا. لم يبقَ لهم غير رائحة الموت وجثثهم الفانية. التراب والبحر والسنونو في السماء كلُّها لنا.
فردّ القائد:
"هي كذلك منذ آلاف السنين، منذ بورِكت هذه الأرض ومَرَّ المسيح فوقها، وعُرِجَ بنبيّنا منها إلى السماء. هذه الأرض لنا."
وها هم إخوتك ينامون في كبدها، يحرسون شرايينها من كل متطفّل. كانت السماء ملبّدةً بالطيور التي تحلّق نحو الأفق، وخيوطُ الشفق تصبغ الغيوم بحمرةٍ خفيفة. أحسّ القائد للحظة أن السماء هادئة، وكاد أن يهدأ مثلها، لكن روحه لا تستكين وما زالت هناك عناكبٌ تنسج خيوطها عند الحدود الشرقية، وعقاربٌ سود تبثّ سمومها في الجنوب. كان عليه أن يضمن سلامة الأطفال الذين ما زالوا يحلمون بالعودة، وأن يتذكّر الجنين الذي لم يرَ أباه، والطالب الذي يقرأ على ضوء القمر، والنساء اللواتي يزغردن على أسطح البيوت رغم أزيز الطائرات، والعشّاق والعمال والعاطلين عن العمل. وكان عليه قبل كلّ شيء أن يحقق وصايا الشهداء: أن تُدفن كل جثة في أرضها، وأن تكون الأرضُ الجميلة لمن يعرف جمالها، وأن تهدي الأمواجُ من يعشق البحر، وأن يدور الدمُ في الشرايين كما يجب، وأن تهدأ العيون وتنظر للمستقبل دون خوف، ولو لمرةٍ واحدةٍ فقط، حتى آخر نَفَس.
ومن يدري؟ لعلّ القائد يهدأ حينها، وتتوقف جراحُه وتخفت خلايا الذاكرة. لكنه ظلّ يحارب في الجنوب وفي الشمال. ولما نفدت ذخيرتُه واشتدت جراحُه، لم يسقط ولم يستسلم. جلس كقسورةٍ منهك، ورمى العدوّ بعصا السنوار. ما زال صوته يتردد في قلوب الصغار والكبار:
قليلٌ عليكم الكثير، أيها الهائمون بالزيتون والماء والتراب... تقدَّموا.