

خبز البحر
اسمي يم...
لم يبق أحد،
الدمار في كل بقعة.
لا مكان للنزاحين إلا الهاوية.
يا يوسف...
أنا جائعة يا يوسف...
جائعة للعيش البسيط في حارة آمنة.
أنا لا أملك حتى الخبز.
طوال الليل أفكر، أتمنى اللحاق بك، الصخب الحادث أثر القذف لم يكن أبدا مفزعا لي، الرعب الحقيقي أراه في عيون من حولي، خاصة الصغار الذي انزلقوا من رحم أمهاتهم على كل هذا السواد، وكثيرا منهم يخسر حياته وتبتر أطرافه قبل أن يعش لحظة حلوة حتى، مثلك أخي يوسف. أعتصر ذاكرتي محاولة الإجابة عن سؤال: هل ابتسمت يوما؟
أذكر ساقك التي انفصلت عن باقي الجسد، أذكر دفني إياها بعيدا، أذكر سؤالك البرئ:
– هل ستنبت مرة أخرى؟
بلا تردد أجيب:
– بالطبع.
يبتسم يوسف رغم الوجع، يسأل:
– متى؟
– في أقرب ربيع.
– أموعده قريب؟
يظل يوسف أياما يعد الأيام لحلول الربيع، يلضم الأسبوع بالأسبوع، بعد شهر وعشرة بالضبط، تُضرب المدرسة التي تحولت لمستشفى لتتحول إلى مقبرة جماعية، الركام يحطمني، أنادي:
– يوسف، يا يوسف.
أتنقل من مخيم إلى آخر، كل مرة أسلّم فيها فردًا جديدًا من عائلتي للفقد، كأن الحياة قررت ألا تأخذهم دفعة واحدة، بل تذيقني مرارة الغياب على جرعات.
خسرتهم كلهم. حتى يوسف.
فقد ساقه اليمنى أولًا، ثم خفت صوته، ثم عينيه، حتى غاب تمامًا.
في المساء، حين يعمّ الصمت الثقيل، أهرب إلى البحر. أقترب منه لأتذكّر أن للعالم نهاية غير الأسلاك الشائكة.
في تلك الليلة، رأيت طائرًا.
كان يلامس سطح الماء بقدميه ثم يعلو، ويكررها، كأنه يلهو أو يختبر الحريّة.
راقبته طويلاً، حتى رآني.
توقف عن طيرانه، اقترب منّي ببطء، وفي منقاره قطعة خبز.
أسقطها في كفّي.
أمسكتها كما لو أنها كنز. وضعتها في جيبي الأيسر – الجيب الوحيد غير الممزق – ونويت ألا آكلها إلا حين يشتدّ الجوع.
في تلك الليلة أيضًا، نمت على رمل الشاطئ، منهكة.
وحين نمت، رأيت أمّي.
كانت تمسح على ظهري وتهمس: “لستِ وحدك.”
ثم بدأت تتحول، شيئًا فشيئًا، إلى الطائر.
استيقظ.
أكلت قطعة الخبز.
كان طعمها يشبه خبز أمي، يشبه رائحتها، يشبه دفء يدها.
أعود إلى المخيم.
رائحة العفن والمرض تملأ الهواء، تختلط بصرخات غير مكتملة، وبعيون جائعة تحدق في اللاشيء.
الخيام مبعثرة كأنها نجاة مؤقتة من طوفان دائم، بعضها ممزق، بعضها يغرق في الوحل.
الخطوط التي تفصل بين خيمة وأخرى لا تراها، لكنها موجودة، مرسومة باليأس.
في كل زاوية طفل يبكي، امرأة تئن، رجل يحدق في الفراغ بعينين مطفأتين.
الجوع هنا لا يصرخ، بل يتسلل ببطء، ينهش من الداخل.
والهواء… ثقيل، كأنّ العالم كله يحمله اللاجئون على أكتافهم
نحن اللاجئين، يا يوسف، لسنا فقط الناجين من الحرب، بل حطامها.
ثقل العالم ورفضه.
لا أحد يحب اللاجئين، لا تصدقهم.
ينظرون إلينا كوجع زائد عن الحاجة.
وحين تُلقى إلينا الفتات، لا ينسون أن يذكّرونا أنها من قوتهم.
فتاة صغيرة تمر أمامي، تتلوى من الجوع.
بطنها منتفخ، عيناها غائرتان، صوتها بالكاد يُسمع.
ينقبض قلبي. أشعر بذنبٍ يشبه الجوع.
أتمنى لو احتفظت لها بقطعة الخبز، أو اقتسمناها.
لكن الطائر لم يعد.
والأم… عادت إلى السماء
استيقظتُ على صراخٍ خافت من خيمةٍ قريبة.
امرأة تنادي على طفلها المفقود.
طفل؟ لا… ربما كان اسمًا للخيبة.
في المخيم، لا نعرف إن كان من نفقدهم يغيبون بالموت أم بالهرب أم بالنسيان.
شعرت بجوع ينخرني من الداخل، جوع لا يكفيه الهواء ولا الكرامة.
مددتُ يدي إلى جيبي الأيسر، كأنني أبحث عن أثر قطعة الخبز، رغم أني التهمتها بالأمس.
كان الجيب فارغًا، إلا من حرارته.
في زوايا المخيم، الجوع يُشبه الظلال: يرافقنا، يطولنا، يبتلعنا.
نأكل الهواء ونحسبه طعامًا.
طفل صغير يجلس إلى جوار خيمتي، يمصّ إصبعه بعناد ويغني شيئًا عن الطائرات الورقية.
أمه تنظر إليّ بعينين جامدتين، لا تسأل، لا تتكلم، فقط تراقب، كأنّ الكلام رفاهية.
خرجتُ من المخيم، مشيت نحو البحر مرة أخرى.
البحر وحده لا يحكم علينا. لا يسألنا عن أوراقنا، ولا يرمينا بخبز قديم.
مشيت حتى غمرني صوته، ونسيت أنني جائعة، إلى أن رأيت الطائر.
عاد.
كان كأنّه وعد لم يُكمل.
طار قليلًا، ثم نزل، وكرّر لعبته.
لكنّه رآني، كما البارحة.
اقترب.
وفي منقاره… قطعة خبز جديدة.
أسقطها في كفّي، دون خوف، دون مقابل.
أمسكتها، لكنني لم أضعها في جيبي هذه المرة.
مشيتُ عائدة إلى المخيم.
والطريق أطول من الأمس، رغم أنّه لم يتغير.
عند مدخل الخيام، رأيت الفتاة الصغيرة نفسها.
كانت تجلس على الأرض، رأسها بين ركبتيها، لا تبكي.
حتى البكاء صار ترفًا.
اقتربت منها، جلست إلى جوارها.
لم أتكلم.
مزّقت قطعة الخبز نصفين، وأعطيتها أحدهما.
نظرت إليّ، ثم إلى الخبز، ثم بدأت تأكل ببطء، كأنها تخشى أن يكون حلمًا.
أكلتُ النصف الآخر.
طعمه مختلف.
لم يشبه خبز أمي، لكنه شَبِه بما كنّا نحلم أن نكونه: بشرًا نتقاسم القوت لا الخوف.
في اليوم الثالث، لم أغادر المخيم.
كان التعب قد بلغ جسدي كله، حتى أنني لم أعد أقوى على رفع رأسي من على الأرض.
حرارة خفيفة، دوار، ورغبة ملحّة في النوم، كأن العالم صار غائمًا من الداخل.
الشمس تسللت بين شقوق الخيمة، ولكنها لم تبعث دفئًا.
كل شيء كان باردًا، حتى الهواء.
وبحلول المساء، الجوع أصبح قاسياً، طاعنًا، يأكلني من الداخل كأنّه ينتقم من البارحة.
لم أقدر ع لى الحركة.
لم أقدر حتى على الحلم.
تمدّدتُ على الأرض، وكل جزء فيّ كان يئن، بصوتٍ لا يُسمع.
أغمضت عيني، ونويت الصبر حتى الصباح.
لكنّه جاء…
الطائر.
لم أره، بل شعرت به أولاً.
رفرفة خفيفة، ظل يمر على وجهي، ثم…
شيء يسقط على صدري بخفّة.
فتحت عيني، كان هو.
وفي منقاره، قطعة خبز… أكبر من كل مرة.
تركني ومضى، لا انتظار، لا مشهد درامي، فقط… كرم لا يُشبه البشر.
رفعت الخبز بصعوبة، وألقيت نظرة على الخيمة.
في الزاوية، امرأة عجوز ترتجف من الحمى.
قرب المدخل، الفتاة الصغيرة نائمة، نصف جسدها خارج الغطاء.
وعند الحائط المهترئ، فتى لم يتكلم منذ أيام.
اقتربت منهم على مهل، ووزعت قطع الخبز الثلاثة.
كل لقمة كانت تُعيد لونًا لوجوههم.
أما أنا، فجلست على الأرض، أراقبهم يأكلون، ولم أشعر بالندم.
جوعي ظل يئن، لكنه كان مختلفًا… أقل قسوة.
في منتصف الليل، استيقظتُ على رفرفة مألوفة.
رفعت رأسي بصعوبة.
الطائر عاد.
وفي منقاره، قطعة خبز أخرى…
أسقطها بلطف أمامي، ثم ظلّ يطير فوق الخيمة كأنّه يحرسها.
أكلتُ ببطء.
كانت اللقمة دافئة، كأنها خرجت من فرن أمي، وكأنّها لم تكن فقط طعامًا، بل شكرًا
في تلك الليلة، نامت معدتي ولم أنم.
أغمضتُ عيني، وأنا أدعو أن يزورني أحدهم، أيًّا منهم من عائلتي التي فقدتها.
أردتُ أن أسمع صوتًا أعرفه، رائحةً لا تُشبه المخيم.
وبين اليقظة والنوم، جاءني الحلم…
كانت أمي هناك، تشبه صورتها القديمة التي أحتفظ بها في كراسة المدرسة، ترتدي ثوبها القطني، ويداها معجونتان بالدقيق.
وإلى جوارها… يوسف.
مبتسم، بكامل جسده، كأن الحرب لم تلمسه.
جلسوا إلى جانبي.
لم يقولوا شيئًا في البداية.
فقط ظلّوا ينظرون لي.
كنتُ خجلة، كمن يراهم للمرة الأولى.
لكنّ أمي مدت يدها، وربّتت على شعري.
قالت لي بصوتها الذي أعرفه أكثر من نفسي:
“نحن فخورون بكِ.”
ضحكتُ. بكيتُ. لا أعرف.
كلّ ما أعرفه أنني شعرت بدفءٍ لا يشبه أي شيء في المخيم
ثم همست أمي:
“عارفة إنكِ عمرك ما هتجوعي بعدي، لكن…”
قاطعتها، كأنّ قلبي سبق لساني:
“بس أنا عايزة أكون معاكي.”
استيقظت، وعيناي مبلّلتان.
كان الطائر يقف على أطراف الخيمة، ينظر إليّ، كأنه كان هناك في الحلم أيضًا.
نهضتُ بهدوء، وابتسمتُ له.
قلت له:
“شكرًا لأنك لا تنسى.”
ثم دخلت إلى الخيمة، ورأيت الفتاة الصغيرة تنام مطمئنة، ويدها على بطنها
كأنها تحلم بخبز جديد.
جلستُ إلى جوارها، وأغمضتُ عيني مجددًا.
هذه المرة، لم أشعر بالجوع
وللمرة الأولى منذ بدأت قصتي مع الطائر، لم يأتِ.
استيقظت ويدي خالية. لا قطعة خبز، لا ظل في السماء، لا رفرفة على سطح الخيمة.
شيء ما في المشهد كان ناقصًا…
لكن ليس ذلك فقط ما أزعجني.
كنتُ شبعانة.
والشبع في المخيم جريمة غير مقصودة.
أنا أعرف أن في الخيام المجاورة أطفالًا يستيقظون على أنين بطونهم، وأمهات يخدعن صغارهن بالماء الساخن، وكبارًا يبتلعون الهواء لأن لا شيء آخر يُمضغ.
كان الجميع جوعى… إلّا أنا.
ولأول مرة تمنّيت الجوع.
اشتهيته كما يُشتهى البكاء بعد صمتٍ طويل.
جاهدت لأستدعيه. حاولت أن أُفرغ نفسي، أن أتقيأ، أن أعود كما كنت دائمًا: فارغة.
وبعد ساعات طويلة، عاد.
خافت الخطى في البدء، ثم انقضّ داخلي كأني دعوتُه بنداء سرّي لا يُرد.
جعت.
لكنني لم أُسرع إلى الطعام.
انتظرت.
وبينما أنا أرتجف من الداخل، سمعت رفرفة خفيفة.
رفعت عيني نحو السماء، وكان هو… عاد الطائر.
اقترب، وفي منقاره قطعة خبز.
لكنني لم أمدّ يدي.
تراجعت خطوة.
نظرت إليه برجاء صامت، كأنني أقول: “أعرفك. أعرف أنك ستعود مرة أخرى. فقط، امنحني مزيدًا.”
حلّق بعيدًا.
ثم عاد بعد وقت قصير، ومعه قطعة أخرى.
ومرّة بعد مرّة، ظل يعود، وفي كل مرة يحمل خبزًا أكثر.
وأنا… أحتفظ بجوعي، لا آكل، لا أطلب، فقط أنتظر.
أجمّع الخبز بصبر، لا من أجل نفسي، بل من أجلهم.
وعندما امتلأت يداي، بدأت أوزّعه.
قطعة لفتاة صغيرة ترتجف من البرد، وقطعة لأم تحضن طفلها وتحاول أن تُخفي وجعها، وقطعة لرجل عجوز ينظر إلى الخيمة كأنها قبر مفتوح.
لم أتناول لقمة.
كنت أقول لنفسي: “كلما ازداد جوعي، عاد الطائر.”
وكنت أؤمن بذلك.
أؤمن أنني إن جعتُ عنهم، سيشبعون.
و بينما كنت أوزّع آخر ما لدي، شعرت بدوخة خفيفة، ثم ثقل في أطرافي.
سقطت على الأرض.
لم أعد أقوى على النهوض.
أحاطوا بي، يتوسلون إلي أن آكل، يضعون قطع الخبز في يدي، على شفتي، وأنا أقاوم.
أقاوم لأبقي الجوع حيًّا، ليعود الطائر مجددًا، ومعه المزيد.
وفي غياب بين الوعي والحلم، رأيته.
الطائر، بجناحيه الكبيرين، لا يحمل هذه المرة خبزًا… بل يحملنا.
يرفعنا من أرض المخيم، من الطين والأسلاك،
ويصعد بنا نحو سماء بعيدة،
حيث لا طوابير، لا خوف،
بل بستانٌ من الخبز والثمار،
وهواء يشبه حضن أمي.