الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم إبراهيم محمد حمزة محمد

خديجة

أَنَا الأَرضُ
وَالأرضُ أنْتِ
خَديجَةُ ! لا تُغلِقِي البَابْ
لا تَدخُلِي فِي الغِيَابْ
سَنطرُدهُم مِن إنَاءِ الزُّهورِ وَحَبلِ الغَسِيلْ
سَنَطردُهُم عَنْ حِجَارَةِ هَذا الطَّريقِ الطَّويلْ
سَنطردُهُم مِنْ هَوَاءِ الجَلِيلْ .
محمود درويش

ماذا ستفعلُ يا "محمدُ" حينَ سَيَطْرُقُ بابَك، فتفزعُ الحماماتُ الخمسُ في دارِك الفقيرةِ؟ ماذا ستفعلُ؟ طمئنْ فؤادي الذي سَكَنَهُ الرعبُ، وأغلقْ كتابَ الماضي الذي ما زلتَ تتشدَّقُ بهِ ليلَ نهارَ، أغلِقْهُ، فما جدواهُ إن كانَ الحاضرُ هكذا؟

ماذا ستفعلُ حينَ تفتحُ بابَكَ لتجدَه - هكذا - أمامَك، بقامتِهِ القصيرةِ القميئةِ، وعينَيهِ الخافتتَينِ الخائفتَينِ، وبحاجِبَيهِ الأشيبَينِ، بأنفِهِ المعقوفِ المُقَزِّزِ، بلهجتِهِ القمئِيةِ البغيضةِ؟! وهل تملكُ لهُ رَدًّا؟ وهل تملكُ لكَ رأيًا؟

جاءَ اليومَ طالبًا "خديجة" .. ما رأيُكَ؟ وهل تملكُ إذن رأيًا؟ على أيِّ حالٍ لا تَصمُتْ أبدًا، لا يكفي أن تَسكُتَ.. لا بدَّ أن يكونَ لديكَ ما تقولُهُ..
خديجتُك يا محمّدُ..
(يا وَيْلي.. هذا؟ خديجة ابنتي؟)

"البناتُ في الدارِ زَهْرٌ يَتَفَتَّحُ في مَطالِعِ الربيعِ، كما البنفسجُ الرقيقُ، والفلُّ والياسمينُ، وخديجة نوّارةُ الدارِ، وقمرُها القدسيُّ السرمديُّ، وحسُّها النّديُّ، وبسْمتُها ونَسْمَتُها وهَمْسَتُها، ولَوْعَتُها التي لا تَغيبُ، خديجة لا يُسْبَرُ من أسرارِها سِرٌّ، ولا تُكْسَرُ بكارتُها، تَسْتَحيلُ على لهفةِ الجسدِ واشتهاءاتِ الكلابِ وجحافلِ القِرَدَةِ، إنْ ضاعتْ ضَعْنا، خديجة هوانا وحُبُّنا، طهارتُنا وقداستُنا، ولكني وحدي، فهل أدركَ هذا؟

ماذا ستفعلُ يا محمدُ؟

لا تنطقِ الآنَ، حَتْفُكَ تحتَ لسانِكَ، لا تنطقْ، لا تَسكتْ، لا تَصرُخْ، لا تَرْضَخْ، فكِّرْ وابحثْ عن رَدٍّ، تَمَهَّلْ، فالكلمةُ سيفٌ، وموتُ الأحياءِ مُؤلمٌ مُؤلمٌ.

قُلْ له مثلًا: ماتتْ! خديجة ماتتْ! مَرِضَتْ - والأمراضُ قَدَرُ اللهِ - ونحنُ لا نملكُ شيئًا، قُلْ ماتتْ.. بالطاعونِ أو بالسلِّ أو بالخوفِ أو بالذلِّ، ماتتْ هكذا.. أمامَ عيونِنا! وقلْ لهُ إنَّ البلدَ كلَّها حَزِنَتْ، حَزِنَتْ طويلًا، وقد أقمْنا لها مأتمًا، مأتمًا كبيرًا، وبكينا وتحدَّثنا وأنشَدْنا، وانتهى الأمرُ!

تكلمْ يا محمدُ.. فالطالبُ لا يُرَدُّ، ولا يُغْلَقُ في وجهِهِ العابِسِ القمئِ بابُ بيتٍ قصدَهُ.

فحينَ سيركُلُ بابَكَ.. يا عَجَبًا!

لَمْ تَنْبَحِ الكلابُ، ولم تَهْتزَّ السيوفُ المُعلَّقةُ في سقفِ الدارِ، ولم يَصْهَلْ فَرَسُكَ كالعادةِ.. فقط دَهَسَ زائرُكَ بقدمِهِ وَرْدَكَ وفُلَّكَ وياسمينَكَ، ووَصَلَ للدارِ، فهل هَيَّأتَ لهُ مَضْجَعًا؟

ولماذا لم تَزرَعْ سوى الفُلِّ والبنفسجِ؟ لماذا لم تَزرَعِ النارَ....؟

لَمْ يُصدِّقِ الطالبُ مسألةَ موتِ خديجة - وهو قاتلُها - وهل سيتزوجُ مقتولةً؟!

ولكنْ من ذكرَ أمرَ الزواجِ؟ إنَّهُ سيأكلُها ولو ميتةً، ويُمنِّي نفسَهُ أنْ يسمعَ أغاريدَ الغِناجِ الغَزْلَةِ القذرةِ، ودغدغةَ الغادةِ تحتَ ضلوعِهِ، وغَمْغَمَةَ الثَّغْرِ المخنوقِ، وتوقَ المَثولِ إلى الغيابِ، وشهقةَ رَعْشتِها الشائهةِ الشبِقةِ.... تلكَ أمانيُّهُ يا محمدُ.
وهو يعرفُ كلَّ شيءٍ..

يعرفُ أسماءَ بناتِكَ، وأحوالَهُنَّ، وأخوالَهُنَّ، وأعمامَهُنَّ، وتاريخَ حزنِهِنَّ، يعرفُ ألوانَ ملابسِهِنَّ، وألوانَ سراويلِهِنَّ، يعرفُ حتى... عفوًا.

يعرفُ عنكَ ما لا تعرفُ أنتَ، فتفكَّرْ، لا تكذبْ، تكلَّمْ.. فلن يظلَّ هكذا على البابِ واقفًا.

قُلْ لهُ: هاجرتْ، غابتْ، ونحنُ ننتظرُ عودَتَها.. وستعودُ، ستعودُ لا محالةَ، عشْنا عمرًا مشغولينَ بأشياءَ مهمةٍ جدًا جدًا فوقَ الوصفِ، فريقُنا هُزِمَ وخسرَ بطولةً كانتْ في يدِهِ، لعنةُ اللهِ على الحُكَّامِ الذينَ يتعامَونَ عن ضربةِ جزاءِ واضحةٍ، كانتِ المعركةُ حاميةً بينَنا، أقسمتَ أنها تسلُّلٌ وأقسمَ صاحبُكَ أنَّ قَسَمَكَ كاذبٌ، كدنا نتشاجرُ، لكنْ.. لكنَّا نسيناها، نسيناها في غَمْرَةِ غِنائِنا ونشوتِنا، فغابتْ ولكنها ستعودُ.. فهل تُريدُ غائبةً؟

خديجة لن تغيبَ للأبدِ، هي دفءَ الدارِ وحواديتُ الجدَّاتِ وصُوَرُ الحُجَّاجِ بجدرانِ البيوتِ، خديجة صوتُ المطرِ العذبِ، ودفقاتُ الحُبِّ بعيونِ الجدَّاتِ، خديجة ستعودُ. لكنْ لا تَتَعجَّلْ.

ليسَ من السهلِ أن يقتنعَ رجلٌ بهذا القدرِ من المكرِ، وهذا القدرِ من القذارةِ، خَدَعَ، ودَفَعَ وراهَنَ وتحالفَ، واختنقَ بوقدةِ شمسِ قبائلِكُم، وباتَ في بهرةِ القمرِ، وسارَ فَتُهْنَا في دُجى عتمتِهِ، حتى وَصَلْنا إلى الحافةِ، فوجدناهُ في باحةِ الدارِ، يَخلعُ طاقيتَهُ المُقدَّسةَ ويأمرُ بالطعامِ والشرابِ فيسكرُ حتى يرغبَ، فتأتيهُ بناتُكَ حتى يبحثَ عنها فيهنَّ.

لا تَستسلمْ يا محمدُ..

سيُعَرِّيها أمامَكَ، ويخلعُ - عنكَ - كلَّ ملابسِها! ويأكلُ شَفَتَيْها، ويكونُ ساديًّا أكثرَ من كلِّ ذئابِ الكونِ وكلابِهِ وقِرَدَتِهِ وخنازيرِهِ، وأمامَكَ يكشفُ فخذيها، وأمامَكَ سيسيلُ الدمُ بلا شرفٍ، وخديجة محلولةُ الشعرِ، تلطمُ بصخرةِ المرارِ خديها وتُسْجَنُ في كهفِ الذلِّ غيظَها الكظيمَ... وستجلسُ على كرسيِّكَ تستقبلُ المُهنِّئينَ.

قُلْ لهُ: ابنُ عمِّها يُريدُها، تَرَبَّيا سويًّا، ورَضَعا حليبَ المحبةِ معًا، كانتْ عصفورتي خديجة تلتقطُ الحبَّ من قلبِ ابنِ عمِّها، فيفرحُ.

قُلْ لهُ: أعطيتُ كلمةً.

قُلْ لهُ: إنَّ الدينَ يَمنعُ، والعقيدةَ تأبى، والمذاهبَ تختلفُ.. وارْفُضْ إن صَحِبَكَ إلى شيخِكَ، وقالَ إنكم بلا كلمةٍ، وارفضْ إن قبِلَ الشيخُ وباركَ عقدَكُما الفاسدَ.

"خديجة" بدونِ وكيلٍ إلاكَ، فلا تتنازلْ، واستشهدْ بالطاهرةِ، بالحسنِ والحسينِ وكلِّ الصالحينَ، إن خَذَلَكَ الناسُ جميعًا فَخُذْ سكينَكَ واذبحْهُ كما تذبحُ كلبًا موبوءًا.. لكنْ لا تَثِقْ كثيرًا، فلن تستطيعَ!

كانتِ الأرضُ أمامَكَ وتَشْكُو؟ لماذا لم تأخذْ حفنةً من ترابِها وتُلْقِ بها في وجهِهِ؟ لماذا لم تُغلقِ البابَ من الأصلِ؟
ألستَ أنتَ الذي فَتَحَ البابَ؟! لماذا قَبِلْتَ أن يتدخَّلَ الغرباءُ؟ ويقرِّروا لكَ مصيرَها؟ لماذا فتحتَ البابَ؟ الآنَ تَبْكي، وتَشْكُو وتَأْلَمُ!!

تَحْتَرِقُ قطراتُ الندى فوقَ زهراتِ البنفسجِ، حينَ يَجْذِبُ خديجة ويُعَرِّيها أمامَكَ، لتستنجدَ بالعمِّ وبالخالِ وبالأخِ، تَشْتَعِلُ غاباتُ صدرِكَ حينَ تَجِدَهُ لديهم جميعًا، يُضاجعُ من يهوى ويستعذبُ صرخاتِ عذابِهِنَّ..

استَحْلِفْهُ بكلِّ مُقدَّسٍ، لا تَتَحرَّجْ وقَبِّلْ يَدَهُ، واركعْ حتى يصفَعَكَ ويصفحَ عنكَ، الغايةُ نبيلةٌ، لا تَحْزَنْ إنْ رَفَضَ أن يصفَعَ قَفاكَ، لا تَخْجلْ إن سَئِمَ من الصَّفْعِ، انجدْ خديجة وتَصَرَّفْ..

تَلْمَعُ فيها آخرُ ومضاتِ الروحِ، وتَنْطفئُ العينانِ تحتَ ثقلِ القِرْدِ القمئِ.

هيّا.. استَحْلِفْهُ بعَجْزِ الأهلِ، ودُموعِ زوجتِكَ الثكلى ولوْعَتِها ولهفَتِها..

قدِّمْها لهُ إنْ شاءَ.. لا تَحْزَنْ إذا حتى.. ضاجَعَها.

افعلْ شيئًا.. افعلْ شيئًا.

أَقُولُ لكَ: مُتْ .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى