خريف يزهر
مهداة إلى كمال علوان بطل عملية مقهى الومبي بيروت (أيلول 1982)
جيش الدفاع الاسرائيلي يحييكم. لا تطلقوا علينا لا نطلق عليكم. إلزموا الهدوء تسلموا. ج. . . ي. . . ش. . . الد. . .فا. . . ع. . . الاس. . . سرا. . . ئي. . . لي. . .
طنين يضج برأسه ليل نهار. . . وقع دباباتهم المجنزرة يجوس كل خلية في جسده. . . توسل كل اساليب السلوان ليزيح عن ذهنه ذاك المشهد المذل فأعجزته. . . عبثا يحاول ان يسكت عويل المهانة القابض على كل نبض في دمه. . .
الهواء الخريفيّ مثقل برطوبة لزجة .. الافق الاصفر زاد شحوبه .. اغبرار حزين بدا كأنه ينعي العالم بأجمعه. . الامواج تخطو متثاقلة كمن افقده اليأس حافز المسير. صوتها معدني حاد يخترق عظامه. . . ردفاها يهتزان كلما حركت ممسحتها ذات اليمين او ذات الشمال فيثيران اشمئزازا في نفسه يكاد يصل حد التقيؤ .. أف ما أسخفها!!. تملأ الدنيا ولولة لو داست رجل طفل بلاطها المبلل
إنهم إنسحاقه الدائم!!. تردد اعماقه: لدوا للموت وابنوا للخراب !!.
ماذا لو جاءه هذا الوقح ذو العينين الواسعتين يوما وسأله: بابا لماذا علقت الملحفة البيضاء على حافة الشرفة ؟
ليت الارض انشقت وبلعتني قبل ذلك اليوم الأفحم .. كل هزائمنا مرة ومذلة إلا ان دخولهم بيروت نار لا يهدأ لظاها
– حان لك ان تستفيق من ذهولك
– . . .
– أهو عارك وحدك!؟..
ـ نعم نعم نعم!!!. . . هو عاري وحدي!!. . . كان الأجدر بي ان أفعل شيئاً ما بدل تعليق مِلْحَفةً بيضاء على الشرفة
– عمل مجانين يعني
– وهل في ما يحدث عقل!؟
– لو نفذت نلك الفكرة الطائشة لكنت. . . لكنت. . . لكنت
وما نفع العيش وهاتين العينين الواسعتين وذاك الشعر الكستنائي المسترسل لا يملكان غدا؟!.. ما نفع العيش إذا كان كل إرثي لهما ذل واحتلال؟!.
– لا انت قائد ولا رئيس حزب ولا حتى عنصر صغير في ميليشيا، فلماذا تلوم نفسك!؟..
* * * *
لم تستطع تلك المحاورة الخرساء ان تسكت الطنين العاصف في عروقه ولا الالم المدوي في خلاياه
يرتفع صوتها كأزيز أظافر حادة على الزجاج .. شفاه تتحرك امامه .. عيون تتسع وتنطبق .. أف كم هي بشعة وسخيفة. . .
غلت مشاعر لم يستطع لها تفسيرا في دمه فانتفض كمن اصيب بمس .. سار نحو الشرفة غير مبال ببلاطها المبلل.. صوتها المعدني يصله من قعر بئر. . . يستعصي عليها أن تبلغه اعتراضها .. سيفسد لمعان البلاط .. صاحب العينين الواسعتين وذات الشعر الكستنائي يرميان ما في أيديهما الصغيرة ويهرعان نحوه .. يتعلقان بأطراف ثوبه. يثرثران كلمات لا تصل الى مسمعه .. تأتيه ضحكاتهما وكأنها أزيز صرار صيفي سمج. لحظات وتتلاشى الضحكات وتضيق العينان الواسعتان وينطفئ المرح في محيا صاحبة الشعر الكستنائي المسترسل بدلال
– ما لي!!.. أصخرة انا لا تحركني هذي المدام ولا هذي الاغاريد!؟
* * * *
لن يخرجك مما انت فيه إلا كأس عرق
كأس كأسين ثلاثة عشرة. . . والطنين على حاله. . . جيش الدفاع الاسرائيلي يحيي. . . كم .. إلزموا الصم. . . ت .. تس. . . لموا
جي. . . الدفاع . . . الإسرا. . . ئيلي
تغزو مسمعه مفردات هاربة من مذياع الجيران:
أمم متحدة .. قوات دولية .. زار .. تبرع .. انفجر. . .
جاره على الشرفة المقابلة يلوح له. يتمتم بضع عبارات. يهز رأسه متصنعاً الاصغاء والموافقة. الطنين يحول بينه وبين جاره .. الملحفة البيضاء تحجب عنه الرؤيا. . منظرهم كجرذان أطلت برؤوس حذرة وعيون قلقة/الذهول الذي طغى على كل ما هو حوله، وقع مجنزراتهم التي أحسها تدوس كل خلية في بدنه، العجز الاخرس الذي غلف الارض والسماء وما بينهما، صور تلازمه وتثير في نفسه إحباطا أعمق من ذل من اغتصبت عذراؤه امام عينيه
تبا لك يا خليل يا حاوي .. كنت أذكانا .. إكتفيت بنصف الكأس .. وفرّت على روحك شرب هذه المرارة .. تركت قبل ان يحل طاعونهم في قلب بيروتك!! ترى أكنت تدري!؟.
لولا هاتين العينين الواسعتين وذاك الشعر الكستنائي المسترسل بدلال فوق الجبين . . . لولاهما. . . ل . . . ل. . . ل
– هذه هي جهنم التي تكلم عنها الانبياء!!.
جاره يعاود الحديث .. ما زال الطنين هناك .. ما زال غير قادر على سماعه. صوتها المعدني يعتريه خفوت .. تتجه بالكلام صوب الجار. يتبادلان بعض عبارات. تهرع الى الداخل وتطلق المذياع عالياً
ـ ما بالها على غير عادتها ترفع صوت المذياع الى ابعد مدى ؟
تقترب منه .. تهزه بعنف:
– إسمع إسمع إسمع
– . . .
تقترب اكثر .. تجره شبه مرغم الى غرفة الجلوس .. تهزه بقوة: إسمع إسمع !!!!
مكتب التحرير في خبر جديد .. اللهجة المليئة بالتفاؤل الكاذب هي ذاتها والموسيقى الراقصة التي تقدم للخبر لا تنسجم مع ما يتبعه عادة من خبر جديد
وهزته بعنف اكبر هذه المرة .. أدنت فمها من أذنه وصرخت:
– إٍسسسسسمع إسسسسمع إسمع
وسمع. . .
أقدم شاب عادي الملامح والقسمات، لا تميزه أيّة علامة فارقة، على إطلاق النار على ضابطين إسرائليين كانا يحتسيان القهوة في مقهى الومبي في شارع الحمراء. مكتب التحرير في خبر جديد . . . وضاع بين الحشود أقدم وضاع أقدم. . . وضا. . . و . . . و . . .
وهرع نحوها. إعتصرها بين يديه. أصبح صوتها دافئاً، وامست عيناها تلمعان بشعاع غريب .. هرع اليه الطفلان فرفعهما بعزيمة وامل. ضمهما الى صدره بلهفة حارة واصبحت ضحكاتهما زقزقات. نظر صوب الافق فألفاه خلع حلته الصفراء وتمنطق بالازرق الصافي