خصلة شعر
وأشرقت شمس اليوم الخامس بعد الزلزال، وليتها لم تشرق! لأن اليوم الأول كان مؤملاً أكثر من الثاني بوجود ناجين يمكن إنقاذهم. وسيتوقف البحث بعد انقضاء يومنا الخامس هذا، فإن كان هناك بشر تحت تلك الجبال من الركام فهم لا شك قضَوا نحبهم، وصارت العملية تسمّى انتشالاً للجثث.
ما أطولكِ يا دقائق الانتظار عليكم يا من احتُجِزتم في قبوركم أحياء، إنه انتظار الموت حتى الموت، وقد يكون الموت المباشر على قسوته أكثر لطفاً!
وأجهزة البحث بالأشعة تحت الحمراء أجهزة نظرية سمعنا عنها، ولنفرض أنها كانت موجودة، فقد تعجز عن كشف الأجساد الباردة، وقد تعطي معلوماتٍ مشوّشة عن جرذ يتحرّك أو قطة أو كلب محتجزين أيضاً في قبور إسمنتية. أما الأجهزة التي تلتقط الصوت والأنين والاستغاثة، فأنّى لها أن تعمل في ضجيج الآلات التي تقلب كتل الإسمنت المسلّح المنهارة. هذه الأبنية ليست مصمّمة لمقارعة الزلازل، وأولئك الساكنين فيها هزّتهم زلازل الحياة بما يجعلهم مترنّحين لأبسط هزّة، فكيف بهم بهزّة بكلّ هذا القدر من الشخبطات والارتجافات الريخترية؟
الأرض تميد براكبيها يا هذا، وتتقلقل، كفرسٍ حرون ثارت على فارسها وستقلبه وستجلد به الأرض، لا ليس كذلك فالأرض ستفغر فاها، لا ليس كذلك أيضاً فالأرض ستنشق وستبتلعنا. ما هذا، أنت لا تحسن التعبير، قل إنه الزلزال وكفى، وهو من موجبات الصلاة لأنه من الزلزلة وهي السورة التاسعة والتسعين من المصحف.
كنتُ من الفريق الطبي الذي ينتظر في سيارات الإسعاف، ويومنا الخامس هذا ينذر بانتهاء ما يُسمّى بالإسعاف أو انتشال الأحياء، وقد نقدّم العون أحياناً لأناس كانوا بعيدين عن الزلزال وقت وقوعه، لكنهم جاؤوا لتفقّد بيوتهم أو تفقد أقربائهم فتنهار أعصابهم لهول المصاب الجلل. إنه أكثر من وقوف على الأطلال يا أصمعيّ، إنه أكثر من بداية قصيدة جاهلية، وا خليليّ، قِفا نبكِ، بسقط اللوى بين الدخول فحومَل، يا دار عبلة بالجواء تكلّمي!
ما أكثرهم أولئك الباحثين بين الأنقاض، منهم بلباسٍ يوحي بأنهم من فريق مفوّض بالبحث ومنهم أناسٌ جدّ عاديون، ولكنهم كثر، وبالعشرات في موقعٍ صغير ليس أكثر من عمارة بست طبقات منهارة عن بكرة أبيها، فصارت كهرمٍ فوضويّ مبعثر، هكذا تُبنى الأهرام بضربةٍ واحدة يا خوفو، قل ذلك لأبي الهول مجدوع الأنف!
– وعم تبحث؟
قلتها لرجلٍ خمسينيّ ومعه كيسٌ كبير يجرّه إلى حيث يتحرّك
– مثلي مثلُ غيري، أبحث عن أي شيء يمكن الاستفادة منه، فأنا أعمل بالأساس في جمع الخردوات وأبيعها، وها هو الله يبعث ليَ الرزق من غامض علمه!
قالها لي وكأنه رأى فيّ مزاحماً له، ولم يدرِ أني من الفريق الطبي بلباسي العادي، وجرّ كيسَه مبتعداً عني.
فعلاً، هناك أثاث كثير من محتويات تلك البيوت التي كانت عامرة، وخلاصة ذكريات وبقايا مفروشات وبقايا أجهزة كهربائية وأوعية مطبخ وغيرها. واليوم الخامس يعني أن الأشياء الثمينة قد تكون قد تبخّرت في تلك الفوضى، ووجدتُ نفسي أبحث مثله ومثل الكثيرين، وقد أفوز بلقيا رآها أحدهم ولمّا تعنِ له شيئاً، فتركها للغير يعبث بها. هل تتخيّل بأنّ صورتكَ العائلية التي كانت معلّقة بجدار غرفة نومك سوف يتفرّج عليها الخلق؟ إن كنت حيّا فسوف تسحبَها من بين أيديهم ساخطاً، فهي من خصوصياتك، وأية خصوصيات كنت تقفل عليها باب غرفتك؟ صارت خصوصياتك مشاعاً للعابرين العابثين الباحثين، لأنّ الزلزال ترك غرفتك الآن بلا جدران ولو كان مفتاح بابها في جيبك!
كنت واثقاً أنني سأجد كتاباً ما ولو كان ممزّقاً، أو أي شيء يمكن قراءته، وفعلاً وجدتُ كتاباً مدرسياً واسم التلميذة عليه، إنها في الصف الرابع الابتدائي، ولن أقول لكم اسمها.
لم أصدّق عيني، إنها جديلة شعر مغروسة بين الأنقاض، وكأنها تعوم من غريقة مدفونٌ جسدها تحت الماء، أو أنها شاهدةٌ على قبر حديث!
شددتها فانسحبت كاملة كالشعرة من العجين
ليست مبتورة من رأس لعبة، بل هي شعرٌ حقيقيّ
وكيف تكون الجديلة اليتيمة بلا رأس تتدلى منه؟
أين رأسكِ أيتها الجديلة، وكيف تُقتَطعين لوحدك؟ أم أنّ صاحبتكِ انتشلوها حية من بين الأنقاض في اليوم الأول؟ وحرّروها ممّا كان يثبّتها، وكنتِ أنتِ أيتها الجديلة قيداً لها؟
نفضتُ عنها التراب فانفرط عقدها وصارت كذيل حصانٍ لا حصانَ له، وتساقط قسمٌ منها، ولم يبق منها في يدي إلا خصلة شعرٍ صغيرة.
كم من المرّات وضعت في كتبي القديمة وردة طازجة وتركتها لتجفّ ويتمّ تحنيطها، وكم وضعت من فراشات جميلة ليحتفظ بها الكتاب بين أوراقه. لذلك وضعت خصلتي الصغيرة في الكتاب المدرسي وعدتُ بها، وكانت تلك لقيتي التي لقيتها.
وقال الصديق:
– أبَعْدَ كل هذا الموت، ولا تتأثّر إلا بخصلة شعر لا روح فيها؟
– خصلة الشعر هذه قد تكون بداية لقصة طويلة سأكتبها
– هه هه بدل عن تكتب عن إحصاء الضحايا، أو تطلب استمطار الرحمات على المنكوبين!
– أنا لست صحفياً من وكالة أنباء، أنا شاعرٌ فقط، وقصتي سال لعاب كلماتها بدءاً من خصلة الشعر هذه! فهل
تكون تلك الخصلة لصاحبة الكتاب؟ لست أدري، لكنها خصلة شعر لامرأةٍ ما أو لتلك الطفلة عينها، وهي فقط بداية القصة التي سأكتبها!