الأحد ١٠ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم سيد عبد الحليم الشوربجي

ديوان «بغداد صبرا» حينما ينكسر الحلم

في ديوانه "بغداد صبرا"* يحلق بنا شاعرنا دكتور/ عصمت رضوان في عوالم رحبة مليئة بالحزن والأسى والانكسار على ضياع حاضرة الخلافة الإسلامية التي ظلت ردحا من الزمن منارة يشع نورها على عواصم الدنيا.. إنها بغداد مدينة السلام تلك العاصمة العربية والإسلامية التي تمتد جذورها بطول تاريخ متأثل ومتجذر في ذاكرتنا العربية والإسلامية.
وكان احتلال العراق وسقوطها فريسة في يد الأمريكان ومن حالفهم وسط تواطؤ دولي وتخاذل عربي وإسلامي أمرا في غاية الصعوبة على نفس كل عربي ومسلم، وانكسارا لبقايا حلم طالما راود الكثيرين أن تكون هذه العواصم التاريخية نواة لتجمع عربي إسلامي يلم شمل الأمة لستعصى على المعتدي إن أراد بها سوءا..

وجاء الديوان ليكون شاهد صدق وسجل نفسي ومعنوي لهذه المأساة التي ألمت بمدينة عربية وإسلامية لها وقعها في ضمير كل عربي ومسلم.

يقسم الشاعر ديوانه حسب وقع المأساة... ما قبل الحرب.. أثناء الحرب.. ما بعد الحرب... وفي كل قسم يتجلى التصوير ليعبر عن وقع المأساة سواء في انتظارها وترقبها، أو أثناء مشاهدتها والحسرة على واقع عربي متمزق لا يملك أدوات التعامل معها.. ثم مدى الحسرة واللوعة التي انتابت العراقي بل العربي والمسلم بعد سقوط بغداد..

يصدر الشاعر ديوانه بقصيدة "رسالة إلى عراقي" والقصيدة كتبت قبل أيام من اندلاع الحرب الظالمة... صور الشاعر الحالة النفسية التي عاشها العراقي وسط حالة من الترقب والانتظار لهذا الكابوس المؤلم الذي مهد له المحتل لسنوات من حصار ظالم وتقليم الأظافر أي مقاومة قد تكون.. وحرب نفسية شاركت فيها قوى دولية وإقليمية بهدف كسر الإرادة
يصدر الشاعر قصيدته بقوله:

هموم بصدرك كم تثقل
يدك الروابي ما تحمل
أمور تطير صواب العقول
أطار صوابك أم تعقل؟
فعهد الحصار طويل ثقيل
وعهد الوغى وطؤه أثقل
يحوم ببغداد بوم له
فترنو الرصافة والموصل
نذير بحرب عبوس ضروس
تكاد فتائلها تشعل

ويبرز الشاعر الحيل الكاذبة التي ادعاها المحتل ليشعل حربه المجرمة حينما ادعى وجود أسلحة دمار شامل مستغلا ضعف المؤسسات الدولية كمجلس الأمن وغيره.. وهي مؤسسات يمتلك المحتل فوهتها.. وليس لنا نحن العرب والمسلمين فيها إلا الفرجة والمشاهدة..

لجان تفتش في كل شبر
عسى يظهر المخبأ المقفل
ومجلس أمن له كل يوم
قرار بشأنك لا يعقل
وكف تروم خراب الديار
فكل بنان بها معول

ولكن الشاعر في نهاية القصيدة يفتح باب أمل مذكرا بأن الله عز وجل هازمهم عاجلا أم آجلا فمهما كان مكرهم فإن مكر الله غالب:

إذا رام قتلك كل الجيوش
فرمية ربي لهم أقتل
فمكر الإله أليم شديد
ومكر الأنام هو الأفشل
عسى الله يردي طغاة الأنام
ويدحرهم بالذي نأمل

ثم تقع المأساة ويعيش الشاعر لحظاتها مسجلا ومصورا الأثر النفسي الذي عاشه العرب والمسلمون أثناء هذه الحرب الظالمة ففي اليوم الثالث من اندلاع الحرب يكتب قصيدته " بغداد صبرا " والتي حملت عنوان الديوان يستهلها بقوله:

بغداد صبرا في الخطوب عنيدا
وأري الأعادي عزة وصمودا
وإذا أروك لظى الطغاة شديدة
فأريهم بأس الأباة شديدا
قولي لهم لن تطفئوا منى السنا
ما كان عهد ظلامكم ليعودا
قولي لهم لن تقربوا مني الحمى
ستكون أرضي للغزاة لحودا

ويستمر الشاعر في قصيدته مستحثا بغداد على الصمود وعدم الاستسلام :

يا جارة النهرين لا تستسلمي
لا تقبلي ذلا ولا تهديدا

فتخضبي بدمائهم واستجمعي أشلاء أعداء السماء عقودا
ويذكرها بماضيها الخالد:

بغداد يا أرض البطولة والفدا
كم قد شهدت جحافلا وبنودا

ولا ينسى الشاعر أن يبشرها بالأمل:

بغداد صبرا إن في أثر الدجى
فجرا من النصر المبين جديدا
سيحوم طير النصر فيك مرفرفا
يعلو المدائن والقرى و البيدا

ويستمر الشاعر في قصائده مستحثا الشعب العراقي على الصمود مهما طال أمد الحرب ففي اليوم الثالث عشر للحرب يكتب قصيدته " لا تطأطئ " وجاءت القصيدة على شعر التفعيلة والتي تذكرنا برائعة أمل دنقل" لا تصالح":

يا أخي المذبوح في أرض العراق
لا تطأطئ
وارتفع فوق الطباق
يا أخي المسقي من كاسات بابل
لا تطأطئ للجحافل
والقذائف
والقنابل قم فقاتل

ويسجل لنا الشاعر بعض تفاصيل الصمود ويعطينا نموذجا رائعا لبطولة العراقي الذي يدافع بأبسط الأدوات آلة حربية جبارة فيحكي لنا قصة هذا الفلاح العراقي المسن: علي منقاش. الذي أسقط ببندقيته اليدوية طائرة معادية:

أبصرت طائرة العدو لطيشها
تختال فوق حماكم وتحلق
تعمي العيون سماجة وأزيزها
رعد لرهبته يفر الفيلق
لكن قلبك يا مظفر ما وهى
وكأنه لشهادة متشوق
فهرعت نحو البندقية تبتغي
دفعا لكيد يبتغيه الأحمق
بسملت باسم الحق ثم تصاعدت
الله أكبر بالسما تتعلق
أطلقت في عزم قذيفة ملهم
سلمت يمينك بوركت إذ تطلق
فهوت لضربتك الأباتشي وارتمت
الله أكبر وعد ربي أصدق

وفي قصيدة "صافرة الغارة" والتي كتبها في اليوم السادس عشر للحرب يصور الحالة النفسية التي عاشها العراقي من جراء هذا العدوان الغاشم لكن هذه الحالة النفسية حينما تمتزج بالإيمان والتحدي والصمود تتحول الحياة أمامها إلى طاقة أمل وانفراج:

صافرة الغارة
تبعث رعبا ما أقساه
ودوي المدفع
يعزف لحنا ما أشجاه
وسحاب النار
يساقط موتا لا تخشاه
 
وصفير الغارة
سوف يعود نشيدا حرا ما أحلاه
وخيول النصر
تجيء بيوم ما أدناه
حاملة فرسانا غرا
وسيوفا باركها الله

وفي الجزء الأخير من الديوان بعد انكسار الحلم وسقوط بغداد يستهله الشاعر بقصيدة يشوبها هجاء ولوم وعتاب للأبواق الإعلامية التي طالما استمرأت خداع شعوبها وكان ذلك ممثلا في وزير الإعلام العراقي " الصحاف " الذي ألفته الشاشات في ذلك الوقت يهدد ويتوعد ويدلي بتصريحات يندد فيها بقوات التحالف ويصفهم بالأوغاد والعلوج والمرتزقة، ثم اختفى بعد الاستيلاء على بغداد في 9 أبريل 2003، وكتبها في اليوم الأول للاستيلاء على بغداد وعنوانها : رسالة إلى الصحاف:

قد كان صوتك في التلفاز يحيينا
ويبعث النور يسري في دياجينا
كأنه البلسم السحري نلمسه
ولمسه رغم عمق الجرح يشفينا

ثم يسائله:

أين العهود التي قد كنت تقطعها
أين الوعود التي قد كنت تهدينا
أين المحارق يصلاها العلوج غدا
أين القبور أعدت للمضلينا

ثم يقوله له:

مضى وعيدك لم يعبأ به أحد
وأنفذ القوم ما قد أوعدوا فينا

وفي اليوم الثالث لاستيلاء على بغداد يكتب الشاعر قصيدته "بغداد عذرا" يلوم فيها المتخاذلين ويعاتبهم عتاب المكلوم من الأسى:

بغداد عذرا إن بعثت ملاما
فالقلب قد جمع الهموم ركاما
ما كنت أحسب رغم ما قد حدثوا
أن الأبية تعلن استسلاما

ويختمها بقوله:

بغداد عذرا ضاق صدري بالشجى
هل تعذرين إذا بعثت ملاما

ثم يبعث بـ: رسالة ثانية إلى الصحاف.أوسعتهم سبا وأدوا بالوطن " وهذا هو عنوان قصيدته التي كتبها في اليوم السابع للاستيلاء على العراق:

ما زلت تقسم بالجباه الشامخات
لتحييلن الوغد القبيح إلى رفات
ولتسقين العلج كاسات الممات
صحاف خبرنا بما فعل الغزاة
أوسعتهم سبا وأودوا بالفرات

ثم يلجأ الشاعر إلى السخرية الغاضبة من المحتل في قصيدة "اطرح هاتفك المحمول" وكتبها الشاعر من وحي زيارة الرئيس الأمريكي "بوش" للعراق سرا في 27 نوفمبر 2003، وأمره لمرافقيه بطرح هواتفهم المحمولة ضمانا لسرية الزيارة... يقول فيها:

اطرح هاتفك المحمول
من يضمن لي أن يفي الخل بأوطان
فيها العنقاء وفيها الغول
السحر بساحتها حق واللامعقول
والكل لديها أجناد
ترمي وتصول
فالنخل سيوف مشرعة
والزرع قتول

ثم يتابع الشاعر في سخرية لاذعة على لسان بوش:

يا ويلي لو تدري ميسون
فتفر إلينا ناسفة أطباق الجو
ألا تدرون؟
يا ويلي لو يدري منقاش
فيسدد فينا طلقته
والموت براحته مضمون
يا ويلي لو تدري
أشباح الإرهاب المجنون
فنموت ضحايا لعنته
أو نحيا في ظلمات سجون
فيبيت البيت الأبيض
في حزن وسوار وشجون

ولا ينسى الشاعر أن يوجه رثاء لشهداء الحرب الغاشمة المجرمة من العراقيين الذين استشهدوا دفاعا عن دينهم وأرضهم وعرضهم:

هات المراثي يا قريضي هات
وانظم مطولة من الآهات
واجعل من العبرات حبر قصائدي
والبس حدادا يكتسي أبياتي
واستجمع الأشعار تجثو خشعا
لرثاء شعل عالج السكرات

ثم يفتح الشاعر باب أمل ورجاء أن يفرج الله تعالى كرب الأمة لتعود إلى سالف مجدها عزيزة أبية

رباه قد طال الدجى بربوعنا
والنفس ملت حالك الظلمات
فمتى يشع النور في آفاقنا
ومتى تحين نهاية المأساة
رباه فرج كرب أمة أحمد
وأقل بفضلك هذه العثرات
لنعود من بعد الهوان أعزة
وتكون هذي آخر الأزمات

ويبلغ الشاعر أوج إبداعه حين يتوجه بقصيدة نظمها باللغة الإنجليزية على لسان طفل عراقي إلى " بوش " وكأنه يقول لهم إن كنتم لم تعرفوا قدر جرمكم بحقنا لأنكم لا تفهمون لغتنا فها أنا ذا أحدثكم بلغتكم لعلكم تفهمون وتدركون ما أحدثتم من جرائم بحق شعب أعزل... وهذه بعض أبيات مترجمة من القصيدة:

إني أرى دماء السلام على وجهك
إني أراك في سباق مع الشيطان
سوف يلعنك التاريخ
لأنك حاولت أن تزيف الجغرافيا

وفي نهاية الديوان يذكر الأمة بعروبتها الحقة التي تناستها في خضم الأحداث الجسام بل كانت هذه الحرب الظالمة دليلا على دعاوى واهية.. بعد أن شاركت بعض الأنظمة العربية وتواطأت أخرى في هذه الحرب... ففي قصيدة من وحي العروبة يقول:

ليس العروبة ألفاظا يرددها
من كان في غمرات الهون خزيانا
ولا العروبة أنسابا يعددها
من راح يحفظها بالحرف جذلانا
فرب أعجم ليس العرب تعرفه
ولو دعوناه قحطانا وعدنانا
وكم دعي أساء العرب نسبته
لما بدا من ثياب العرب عريانا
إن العروبة روح في هياكلنا
إذا توارت يصير المرء جثمانا
....
أخا العروبة لو هانت عروبتنا
فكل غال بهذي الأرض قد هانا

وهكذا استطاع الشاعر أن يرصد لنا أصداء هذه الحرب الغاشمة في لغة شعرية موحية ومعبرة وصور بيانية راقية وخيال عبر به عن مكنونات ما تعرض له العراقي من أذى نفسي ومعنوي جراء هذه الحرب الغاشمة.

ولم ينس الشاعر في معظم قصائده أن يبث الأمل في غد مشرق تعود فيه الأمة إلى سابق عهدها، وما هذه الحرب إلا غمة وستنجلي آجلا أم عاجلا بفعل الصمود والتحدي الذي يجب أن يكون عليه ليس العراقي فقط بل العربي والمسلم، لأن هذه الروح التي تشربت معاني الإيمان لا يمكن أن يتسرب إليها يأس..

ديوان بغداد صبرا.. نشر دار الجامعة.. مصر. ذو القعدة 1424هـ - يناير 2004 م.

** دكتور عصمت رضوان.. شاعر مصري.. أستاذ مساعد الأدب والنقد.. جامعة الأزهر


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى