

ذاكرة الموت
كنت جالسًا في مكتبي، صوت المذيع يصدح في الخلفية على القناة المحلية، أتابع أخبار غزة. انفجارات في كل زاوية، أبراج سقطت، والموت يلاحق الجميع دون رحمة. كان قلبي مشدودًا، وعينيّ معلقتين على الشاشة، لكن فجأة رن تليفوني. كان أخي مايكل.
“أيوه؟” رديت وأنا أضغط على يدي على الجبين.
“أحمد مات.”
“مين أحمد؟” سألت، وأنا أحاول أن أستجمع أفكاري وسط الضوضاء.
“أحمد… صديقي من غزة.”
لحظة صمت غريبة، ثم اهتز قلبي. كنت أعرف أنه في غزة، لكن لم أكن أتخيل أن تكون هذه المكالمة هي لحظة الوداع.
دخلت بعدها على صفحة أحمد على الفيس بوك، وقلبي مشغول بألف سؤال. وجدت أصدقائه ينعونه، صورته على الصفحة وكان مكتوب جنبها “الشهيد”. الدموع بدأت تنهمر من عينيّ وأنا أقلب في تعليقاتهم، كل كلمة عن أحمد كانت تقول إنه كان أكثر من مجرد صديق. كان أخًا، ورفيقًا، وصاحب حلم. شعرت أن قلبي توقف للحظة، وكأن كل هذه اللحظات التي شاركناها أصبحت ذكريات بعيدة. يا له من حظ، أن يكون قد رحل بهذه الطريقة، لكن في ذات الوقت، كنت أعلم أنه لا شيء يعوض غيابه في هذا العالم، إلا أنني كنت متأكدًا أنه في مكان أفضل.
“شهيد” كانت الكلمات التي ختم بها الجميع، وأغمضت عيني، شعرت بطمأنينة غريبة.
الدكتور أحمد محمد جربوع خريج جامعه القاهرة في دولة مصر حاصل على معدل جيد جدا تخصص جراحه عظام مواليد 27-3-1994 البالغ من العمر (30) عام، عاد أحمد من مصر بعد أثني عشر عام من الغربة في تاريخ 1 من أكتوبر كزائر في وطنه عاد ليرى عائلته التي حرمته الغربة من رؤيتهم.
قد كان صباح الأول من أكتوبر مختلفًا، مشبعًا برائحة الوطن التي اشتاقها القلب قبل العين. وقف أحمد في معبر رفح البري، يحمل حقيبته بيد، وصورة والدته في عقله لا تفارقه. اثنا عشر عامًا من الغربة لم تُضع ملامحها في ذاكرته.
اقترب منه الموظف في المعبر، وقال بابتسامة متعبة:
— “راجع زيارة؟”
ردّ أحمد وهو ينظر بعيدًا:
— “راجع أعيش شوق أمي، مش بس أزور.”
— اشتقت الي خبز أمك
— والي قهوة أمي
أبتسم الموظف وأبتسم أحمد ومضي عابرا بطريقه بعد تسلم أوراقه المختومة
ركب السيارة المتجهة إلى غزة، وكلما اقترب من الحدود، زادت ضربات قلبه. كان يتخيل كيف ستستقبله والدته، وهل ستبكي فرحًا أم ستخفي دموعها كعادتها؟
عندما وصل أخيرًا إلى البيت، فتحت والدته الباب، وما إن رأته حتى صاحت:
— “يا حبيبي… أحمد! ابني رجع!”
ارتمت في حضنه، وظلت تبكي بصوت مرتجف. مسح على شعرها وهو يهمس:
— “آسف يا أمي، اتأخرت كتير… بس والله ما نسيتك لحظة.”
في ذلك المساء، امتلأ البيت بالفرحة، الأخوة، الجيران، وحتى الأطفال في الشارع كانوا يعرفون أن “الدكتور أحمد رجع من مصر”.
جلس أحمد مع والده في الشرفة، وتبادلوا الأحاديث عن الأيام الماضية. قال والده:
— “والله كبرنا يا أحمد… سنين راحت، بس المهم إنك معنا اليوم.”
ابتسم أحمد وقال:
— “أنا ما رجعت عشان أريح… أنا حاسس إن جاي لهدف.”
لكن لم يعلم أحد أن ذلك الهدف سيكتبه القدر بسرعة تفوق الخيال.
في السابع من أكتوبر، تغير كل شيء. أصوات الانفجارات بدأت تتعالى، والدخان يملأ السماء. وقف أحمد أمام التلفاز يتابع الأخبار، وجسده يرتجف. لم يتردد لحظة. التفت إلى والدته وقال:
— “أمي، في نقص أطباء بمستشفى الشفاء… لازم أروح.”
صرخت أمه:
— “تروح؟! لسه راجع! يا أحمد، خليني أشبع منك.”
أمسك يدها برفق، ونظر في عينيها:
— “لو كل واحد خاف، مين حيعالج الأطفال؟ مين حيوقف جنب الناس؟”
مسحت دموعها وقالت:
— “روح، بس ارجع لي… أنا ما شبعتش منك.”
مضت أيام وأحمد في مستشفى الشفاء، يعمل بلا كلل. الأوضاع كارثية، لا أدوية، لا كهرباء، لا حتى ماء نظيف. ورغم ذلك، لم يكن يفكر في التراجع.
في أحد الأيام، دخلت حالة طارئة… طفلة صغيرة، بالكاد تبلغ الخامسة، وجهها مغبرّ، ملابسها ملطخة بالدم والركام. كانت تصرخ، ليس فقط من الألم، بل من الخوف، من الفقد، من كل شيء.
ركض أحد الأطباء نحوه:
— “أحمد! ما إلها علاج… ما في بنج، ولا أدوات. شو نعمل؟”
اقترب أحمد بهدوء، انخفض على ركبتيه أمام الطفلة، نظر في عينيها المرتعشتين وقال بصوت ناعم:
— “اسمك إيه يا قمر؟”
لم تجب، فقط نظرت إليه ودموعها تنهمر.
مد يده بلطف، وربّت على رأسها. فجأة… سكتت. توقّف البكاء. شيء ما في وجه أحمد طمأنها. ابتسمت، فقط لحظة، لكنها كانت كافية لتزرع بداخله يقينًا.
ومنذ ذلك الحين أصر اصرارًا تامًا على اتمام مهامه فداءً لوطنه ومهنته رغم أن قلب أمه المعتصر وجعًا وخوفًا على أبنها لعدم توفر الامكانيات اللازمه للتواصل ولعدم وجود الآمان لحياته، ومر هذا الحال لمده شهر من استشهاده كان يخرج ويودع عائلته كأنه في يوم من الأيام لن يعود
خرج في نهاية اليوم وقال لأمه:
— “تعرفي، في طفلة اليوم كانت بتبكي وجع وخوف، وسكتت أول ما بصّت في عينيّ… حسّيت وقتها إني مش لازم أتراجع، مهما صار.”
هزّت أمه رأسها، ودمعة انسابت على خدها:
— “الله يحميك يا ملاك.”
داوم أحمد الجلوس مع أفراد أسرته يروي لهم أهوال ما يراه داخل المستشفى وصراخ ما بين مصاب جريح شهيد
اقتربت الأيام، والأوضاع تزداد سوءًا. في أحد الليالي، بعد يوم شاق، عاد أحمد للبيت وجلس طويلاً، صامتًا.
سألته أخته:
— “مالك ساكت؟ مش إنت اللي دايمًا بتحكي لنا عن كل لحظة بتعيشها؟”
ردّ وهو يحدّق في الأرض:
— “حاسس إني تعبت… مش جسديًا، بس قلبي تعبان. يمكن… بدي أقعد معكم شوي، اشتقت لكم.”
وفي صباح اليوم التالي، لم يذهب للمشفى. جلس مع أسرته. قبّل يد والدته، مازح إخوته، صلى معهم، قرأ القرآن كثيرًا، حتى قالت له أخته:
— “ما شاء الله، طول النهار قرآن، حتى بالكشاف عشان مفيش كهربا!”
(قد كان يجلس على انفراد معظم الأوقات ويقرأ القرآن وبشده في النهار والليل رغم عدم توافر الكهرباء في القطاع وكان لا يفوت اي صلاه ولا يفوت الاستغفار والتسبيح في كل دقيقه)
ضحك وقال:
— “يمكن… يكون آخر نور قبل ما أطفي.”
9 نوفمبر، فجرٌ ثقيل. استيقظ أحمد مبكرًا. قال لابن عمه حسن:
— “تعال نجيب بطارية نشحن فيها الجوالات، الكهرباء مش حترجع قريب.”
خرج الدكتور أحمد هو وابن عمه (حسن علي جربوع) ليحضروا طاقة كهربائية توفر لهم شحن الجوالات لقله الامكانيات فما كان لديهم الا ان يخرجوا في الصباح الباكر ويعودوا بسرعه رغم اشتداد الأوضاع في المنطقة وازدياد الاشتباكات وإطلاق النار الكثيف والضرب العشوائي في كل مكان ذهب الدكتور أحمد وحسن وعادو في لمح البصر لأول مره وكان عمه (علي حسن جربوع) معهم في الخارج فدخل حسن وبعده ابيه على وبعد بدقيقه أحمد وعندما أغلق باب العمارة إذ به طائره الاحتلال بدون طيار (الزنانة) تستهدف باب العمارة فهرول أحمد الى الداخل. ولحظة دخولهم العمارة… دوّي انفجار هائل.
طائرة مُسيرة ضربت باب العمارة.
ركض أحمد إلى الداخل… صعد للطابق العلوي،
ذهب (أحمد ووالده وأخوه الصغير وابن عمه وعمه) الى منزله في الطابق العلوي ليتناولو طعام الافطار
جلسوا، وحين وضعوا الطعام… جاءت الضربة الأكبر. انهار البيت فوق رؤوسهم.
صوت أنين.
يوسف، أخو أحمد، يسعل بين الركام. سحب جسده ووجد والده مصابًا. سحبه من بين الحجارة.
صرخ:
— “بابا، اصحى! حسن… حسن بينزف! وين أحمد؟!”
أخرج يوسف ابيه من تحت الركام الذي كان عليه ليخرجو حسن مصاب قبل استشهاده لعدم توافر طواقم طبيه وسيارات اسعاف تصل الى المنطقه واخراج عمه علي مستشهدًا ولم يعثرو على الدكتور أحمد ؛ قد أخبرهم ابن عمه حسن ان أحمد قال له انه سوف يخرج قليلًا الى الخارج لياتي بشيء ويعود على الفور
نظر حوله… لا أثر له.
مرت ساعات.
بحثوا في كل مكان. قالوا: “يمكن خرج، يمكن اختبأ، يمكن…”
وظلت عائلته تبحث عنه لاضطرارهم تصديق قوله لعدم العثور عليه خرجت عائلته من تحت الموت وفي حالة يرثى لها تسابق خطواتها في العثور على مأوى لهم وللعثور على احد ينتشل الشهداء ولعدم توافر اسعاف اخذتهم عربة يجرها الحمار (كاره) لمكان يدعي انه آمن تابع للاونوروا وبعد ذلك اتت سياره وتم نقلهم الى المشفى بعد فوات الاوان واستشهاد حسن وابيه علي وذهبت عائلة الدكتور الى بيت احد من عائلتهم ينتظرون قدوم الدكتور احمد او محادثته ولكن لم يأتي أحمد ولم يتحدث احمد
لكن قلب الأم لم يكذب.
قالت بصوتٍ واثق:
— “ابني وقع في الحديقة الخلفية… بردان… على الأرض.”
وفي صباح الجمعة 10 نوفمبر، جلس الأب يقرأ سورة (يس)، وهو مجروح، مُنهك، وإذا بصوت داخلي، كأنه همس من السماء:
— “تعال يا بّا، خدني…”
نهض الأب، رغم جراحه، وذهب إلى المنزل المدمّر. سار نحو الحديقة الخلفية… وهناك، وجد أحمد، ممددًا على التراب، كما وصفته الأم.
غطاه الغبار، لكن وجهه… كان ساكنًا، مطمئنًا، كأن ابتسامته ما زالت تحمل طمأنينة الطفلة الصغيرة.
في ذلك المساء، خيّم الصمت على بيت عائلة جربوع. لا ضحكة أحمد تملأ المكان، ولا خطواته على الدرج، ولا صوته يقرأ آيات الفجر. فقط وجوه شاحبة، قلوب ممزقة، وأم تجلس على سجادة الصلاة، تهمس:
— “كان ملاك… ما كانش بني آدم.”
رفعت يديها إلى السماء، وقالت:
— “يا رب، أنا ما شُبعت منه… بس راضية، لأنه راح بشرف… راح على سجدته.”
في زاوية الغرفة، جلس والده يحدّق في صورة أحمد. كان يبتسم فيها بثقة وهدوء. نظر إليه وقال:
— “مش رح ننسى يا أحمد. لا صوتك، ولا طيبتك، ولا شجاعتك. إنت حي… حي فينا كلنا.”
في الشارع، المارة ما زالوا يذكرون اسمه. الجيران، المرضى الذين عالجهم، وحتى تلك الطفلة التي ابتسمت له وسط الألم… كلهم يهمسون حين تمر نسمة:
— “مرّ من هنا أحمد… وكان ملاكًا.”
وفي السماء، تكتب النجوم اسمه، وتهمس الريح في أذُن الليل:
“هنا مرّ شهيد، لم يذهب كما يذهب الناس، بل ارتفع كما يعلو الضوء.
هنا سكنَ أحمد، وها هو… ما زال حيًا.”