ذاكرة لا تعرف الدفء
لم تكن أمينة تفكر في النجاة.
النجاة فكرة كبيرة، لا مكان لها في الخيام المنصوبة على عجل فوق أرضٍ لم تُمهّد لشيء.
كل ما كانت تفعله كل صباح هو أن توقظ طفليها قبل أن يوقظهما البرد، وتُعدّ لهما ما يشبه الحياة بأبسط الطرق:
قطعة خبز، ماء فاتر، وكلماتٍ تقولها بثقة لا تشبه ما يشعر به قلبها.
كانت تقول لهما دائمًا:
“الأيام تتغير… فقط اصبرا قليلاً.”
لكن أمينة نفسها لم تكن تعرف إلى أي مدى يمكن للأمومة أن تتسع للاحتمال.
في الليل، يتغيّر المخيم.
تصبح الخيام مثل صدورٍ تتنفس بصعوبة، وتصير الأرض كصوتٍ مكتوم لا يعرف كيف يعترض.
وحين يهبّ الهواء، يشعر الأطفال أن العالم يطرق عليهم الباب بقوة،
بينما تشعر الأم أنها وحدها حارس لشيء أكبر من قدرتها ومن عمرها.
كانت تحاول أن تُخفي خوفها منهما،
لكن الأطفال، بطبيعتهم، يلتقطون الارتجاف قبل أن يسمعوه،
ويعرفون من طريقة اليد كيف يكون القلق.
في ليلة المطر الكبير، لم يكن شيء يوحي بأن الفجر سيكون مختلفًا.
الخيمة تشتمّ رائحة الطين، وأمينة تضمّ الصغيرين وتتنفس ببطء كي لا يسمعا ارتجاف صدرها.
كانت تردد لهما:
“سننام، وغدًا أعدّ لكما قصة جديدة.”
حاولت أن تجعل من صوتها غطاءً إضافيًا،
لكن البرد كان ينساب عبر القماش كأنه يعرف طريقه مسبقًا.
وبين شدّ الخيوط، ورفع الغطاء، ومسح جبينٍ هنا وكفٍ هناك،
لم تنتبه أمينة إلى اللحظة التي توقف فيها كل شيء.
السكون حين يأتي مبكرًا، لا يكون رحمة.
كانت تعرف ذلك.
لكنها لم تكن تريد أن تعرفه تلك الليلة تحديدًا.
حين اقترب الفجر، أدركت الأم ما لم ترد أن تدركه.
لم تكن تحتاج إلى صراخ، ولا إلى أحد يشرح لها.
الأمهات يفهمن النهايات من أول نفسٍ لا يأتي.
جلست بين طفليها، وضمت أيديهما الصغيرة بين يديها،
كأنها تحاول تسجيل آخر ما تبقى من الدفء في ذاكرتها.
ولم تبكِ.
كان البكاء فعلًا لا يغيّر شيئًا.
وكانت تخشى أن تُسقط دموعها على وجهيهما،
فترى فيهما حياةً تعجز عن إعادتها.
حين جاء الناس، وقفوا عند باب الخيمة،
وبدا الصباح فجأة أكبر من قدرة الجميع على تحمّله.
قالت أمينة بصوتٍ منخفض، لكنه أقوى من أي صراخ:
“لم يكن طفلاي يحتاجان إلى معجزة…
كانا يحتاجان إلى غرفة بحائطين فقط،
حائطين يمنعان البرد من الدخول.
هل هذا كثير على طفلين؟”
تحركت كلماتها في الهواء مثل حقيقةٍ مكشوفة لا يريد أحد أن يلمسها.
بعد ذلك، أصبحت الخيمة مكانًا يمرّ به الناس ببطء،
كما لو أنهم يخشون أن تتذكرهم.
لكن أمينة بقيت.
قالت إنها لا تريد أن تختفي القصة،
لأن القصص التي تختفي تعود دائمًا بشكل أقسى.
كانت تجلس أمام الخيمة كل مساء،
وتتلمس التراب بيدها كما لو أنها تبحث عن أثرٍ لخطوات الطفلين.
لم تجد شيئًا بالطبع،
لكنها لم تتوقف.
فالذاكرة، كما تقول، لا تُدفن…
هي فقط تتألم.
وهكذا بقيت الخيمة.
لا تقاوم المطر، ولا تبحث عن بطولة،
بل تقف هناك لتذكّر العالم بشيء واحد:
أن الطفولة لا تحتاج إلى شجاعة،
بل إلى دفءٍ بسيط…
دفءٍ كان يمكن أن يُعطى، ولم يُعطَ.
