رجل رأى موته مرتين
لم ينتبه كثيرا لانفلات الساعة من معصمه إلا بعد أن أحدثت ضجة تليق بحجم أربع وعشرين ساعة محبوسة بين عقربين، داستها أقدام عدة بأحذية متفاوتة الحجم واللون والوقع على الأرض لم يعبأ لاتساخها.. لتحطمها... لضياعها لم يعبأ إلا بعدد الأقدام التي لا تبصر ما تحتها عدد الرؤوس المشرئبة تتابع طابور من الشحاذين الصغار يعبر الطريق مستندة أذرعهم إلى أكتاف بعضهم فيما يشبه القطار المتماوج محدثين صفيرا ً كأجهزة الإنذار العتيقة تخترق بنيانهم قطط ضالة، قطعوا الشارع جيئة وذهاب ألف مرة والساعة مازالت تتهشم تحت أقدام المارة وصفيرهم يزداد علوا ً وتكرارا ً والرؤوس تتابع المشهد، يبدأ نفير محطة القطار لتتوقف الحركة تماما منتظرة قدوم القطار يتجمد المشهد برمته صفير الشحاذين.. خطوات المارة....وكأنما على رؤوسهم الطير، أي طير هذا يصمد أمام الريح الذي يحمله القطار حين توحش واجتاز المسافة ما بين الرصيفين واجتاز جسده نعم اجتازه تماما ً وعبره بخطوتين!
بدأ المشهد يتحرك تدريجيا ما بين الهابطين من القطار ومنتظريهم والأكف تلوح والساعة مازالت تتكسر تحت الأقدام وهولم يبرح مكانه إلى جوارها، تفرق قطار الشحاذين ليتسابقوا في مد أيديهم العارية للمسافرين والعائدين بأتربة الطريق واتساخ الغربة ورائحة الطعام المعبأ بالحقائب وزجاجات المشروبات الغازية المبتلة في أدل الباعة الجائلين وقبلات الاستقبال والتوديع، وهويراقب الساعة وقد تلاشت ملامحها تقريبا..
وسط هذا الزحام تأكد أنه غير مرئي تجتازه كل الأجساد تعبره كغبار تخترقة كوهم برز فجأة، تذكر عجلات القطار حين داسته من قبل تذكر الساعة ذاتها حين انحنى يلتقطها من فوق القضبان الميتة على الأرض تذكر ميتته الأولى نعم هومات من قبل مات هنا وتحت تلك القضبان وفي مثل تلك الأثناء، لم يفكر في التقاط الساعة مرة أخرى،
الساعة كانت هديتها الأولى له وكان موعده معها على شريط المحطة، تكرر الأيام نفسها كما تتكرر هي الآن، الفتاة ذاتها من جديد تنزل من القطار وتقبل بثوبها الأبيض مبتسمة بادلها الابتسامة حاول تحريك أقدامه... فشل وكأنما مغناطيس يشده إلى البقعة ذاتها...لكن فتى آخر تمكن من تحريك أقدامه تمكن من الاقتراب منها تمكن من مصافحتها ومتابعة السير معها... صدمته المفاجأة كعجلات القطار .. تهاوى... مات من جديد، موتا ً مدهشا ً لرجل رأى موته مرتين.