السبت ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد حلمي

رجل من الطنطنورة

عندما أُعلنت دولة الاحتلال في العام 1948، كنت طفلًا لم يتجاوز الخامسة، لكنني كنت أشعر بثقل العالم في قلبي الصغير. لم يكن بيننا مجال للطفولة، لم تُمنح لنا رفاهية اللعب أو الغفلة؛ كأننا وُلدنا من أرحام أمهاتنا إمّا محاربين أو شهداء. هكذا اقتضت الظروف، وهكذا أراد لنا القدر، ولم نكن لنرفض أو نهرب، بل كنا نُسلِّم ونمضي، حاملين في عيوننا غضب الآباء، وفي صدورنا حكايا الأرض المُغتصبة.

كان يومًا عاديًّا... كسائر أيامنا البائسة، التي اتّشحت بالحزن منذ وُلد الكيان الغريب على أرضنا، برضا العالم وصمته. شهدوا، ووقّعوا، على إعدامنا جماعيًا، وعلى إبادةِ عرقٍ كي ينهض آخر.

كان الشاطئ كئيبًا، بخيلًا في عطائه، والسماء واجمةٌ، باكية، كأنها تشهد على مأساتنا وتنوح من علٍ. كلّ ليلة، كانت المدافع تنبح في القرى المجاورة، نسمعها كأنها تطرق أبوابنا، ونسمع بعدها عن التهجير، عن قُرى أصبحت بلا بشر... بلا صوت.

كان بيننا رفضٌ مكتوم، وغضبٌ من فكرة أن يترك الرجال ترابهم تحت وطأة التهديد. لم نكن نراها حكمة، بل هزيمة. ذلك الغضب لم يُضعفنا، بل أشعل فينا الاستعداد. رأيت رجال الطنطَورة يجهّزون ما ملكت أيديهم: فؤوسًا صدئة، بنادق قديمة مرّ عليها الزمن، سكاكين، رماحًا خشبية، ومقاليع حجارة... وكأنهم يُعدّون لعرسٍ من دم، أو لحكايةٍ ستُروى بعد رحيلهم.

كانت النساء يهبن أبناءهن للجهاد، كأنّهن يُرسلن قلوبهن إلى الموت بأقدام ثابتة. ما زلت أذكر حديث أمي، وهي تنحني أمامي، تهمس بحرارةٍ لا تُنسى: ’لا تترك أباك أبدًا، ولا تبرح ساحة القتال... افعل ما استطعت، وكن رجلًا في ساعة العزم’.
ربما لم تدرك، في تلك اللحظة، أنها تخاطب طفلها الذي لم يُكمل عامه الخامس... أو لعلها رأت في عينيّ ما لم أره أنا حينها. شيءٌ يشبه الوعي المبكر، أو الحزن العتيق، أو ملامح الرجال قبل أن تُنبت لحاهم. كنت أستمع، لا كباقي الأطفال، بل كمن يُلقى على عاتقه قدرٌ لا فكاك منه.

ومع غروب الشمس، بدأت وحوش الحديد تزحف على الطنطَورة. مدرعاتٌ، ودباباتٌ، وجنودٌ كأنهم خرجوا من فوهة جهنم، يقتحمون القرية من كل اتجاه. دبّ الهمس بين أهلنا؛ النساء يحضن صغارهن، والرجال يتبادلون النظرات، وكلُّ مجموعة اتخذت لنفسها موقعًا للمواجهة، أو ربما للهروب الأخير.

أما أنا، فقد تعلقت بأبي، كأن نجاتي في أنفاسه. سرت خلفه أينما اتجه، مثلي مثل باقي أطفال الطنطَورة؛ بعضهم هرع نحو والده، وآخر نحو أمه، وآخرون اختبأوا خلف كتلٍ من الصخور، ينتقون منها ما يصلح أن يصير حجرًا يُقذف به.

لكن ما حدث بعدها... لم يكن في حسبان أحد. لم تأتِ الضربات من أمامنا، بل نزلت من السماء كالصاعقة؛ نيرانٌ جعلت الأرض تتفجّر تحت أقدامنا، وألسنة لهبٍ التهمت البيوت والنخل والحجر والبشر. في لمح البصر، تحوّلت الطنطَورة إلى رمادٍ يتناثر على صراخنا. لم تبدأ المعركة التي أعددنا لها، ومع ذلك... خرجت من بين الدخان صيحات لم تكن للموت، بل للحياة، وللثأر.

رأيتهم... رجالنا ونساؤنا، يخرجون من وسط النيران بفؤوسهم وبنادقهم القديمة، وسكاكينهم، يهجمون على جنود العدو كأنهم الريح، لا يهابون الرصاص. رأيت الدماء تُراق، ولكنها لم تكن دماءنا، بل دماؤهم، تسيل على أرض الطنطَورة كأنها الشرارة التي فجّرتني من الداخل.

لا أدري من أين جاءني الغضب، لكني قبضت على حجرٍ بيدي الصغيرة، وصرخت. ركضت نحوهم، نحو دباباتهم، نحو موتٍ أعرفه، وألقيت الحجارة بيدي الضعيفة. لا أدري كيف... لكنها كانت تؤذيهم، تصيبهم كأنها رصاص. كنت أراهم يصرخون... وكنت أصرخ أكثر.

كن الوضع لم يدم طويلًا...

ما هي إلا لحظات، حتى أحكمت قوى الاحتلال قبضتها على الطنطَورة، وسيطروا على كلّ شيء. رأيتهم يداهمون الرجال، يقيدونهم بالحبال، ويطرحونهم أرضًا كالقطعان، والرصاص يلمع في عيونهم أكثر من فوهات البنادق.

كنت أرى أبي بين أولئك، مُمدّدًا على التراب، وجهه إلى السماء، وعيناه تبحثان عني... كان فيهما قهرٌ لم أفهمه، وخوفٌ لم أعرفه منه من قبل. ثم شعرت بذراعي أمي ترفعانني عن الأرض، تحتضنني بعنفٍ يشبه الموت، وتعدو بي بعيدًا، كما فعلت باقي النساء ممن بقين على قيد الحياة، وكنّ يحملن أطفالًا بالكاد تجاوزوا الرضاعة أو خطواتهم الأولى.

أما أولئك الأطفال الذين كبروا قليلًا، تجاوزوا السابعة من أعمارهم، فكان مصيرهم مختلفًا. لم يرحموهم، لم يرأفوا بهم، بل قيدوهم مع الرجال، كأنهم يخافون حتى من براءة صبيّ أو من نظرة بنت. ظننا أنهم سيُعتقلون، لكن الحقيقة... كانت أفظع مما خطر ببالنا.

وغادرت بي أمي الطنطَورة... وأنا أصرخ، لا أريد الرحيل! كنت أركل الهواء، وأبكي بكل ما فيّ من صوت:

’دعيني، أريد أن أقاتل! أريد أن أرميهم بالحجارة... حتى أُحرر أبي!’"

ركضَت بي أمي، كما فعلت باقي النساء، مذعورة بين دويِّ القصف وصرخات الناجين، وضياع الطريق. وفي خضمّ الفوضى، افترقت هي ومجموعة صغيرة من النساء عن ركب اللاجئين الذين سلكوا طريق وادي عارة، واختارت طريقًا ساحليًّا محفوفًا بالخطر، ظنًا منها أنه الأقصر والأقرب إلى قيسارية.

لم تكن تعلم أن ذلك الطريق كان على خط النار بين المقاومة وجيش الاحتلال. وسط زخّات الرصاص والنار المتناثرة، كانت تحاول بكل ما فيها من قلق أن تحميني، أن تبلغ بي مأمنًا... كانت تخشى عليَّ أكثر مما تخشى على نفسها. ما عادت تراني طفلاً، بل روحًا غالية عليها، تحاول أن تحميها من الفناء.

نسينا أعمارنا... نسينا أننا بشر. ليلٌ بلا نوم، أيام بلا طعام. عبرنا الطريق الساحلي إلى أن بلغنا قيسارية، نجرّ أقدامنا المنهكة خلف أمل واهن. لكن ما وجدناه هناك لم يكن خلاصًا. كانت جنود الاحتلال مصطفة على الجانبين، وأهالي قيسارية يخرجون من بيوتهم خافضي الرؤوس، رجالا ونساء وأطفالا، تُغتال في أعينهم الكرامة.

ظننا، لوهلة، أن مصير رجال الطنطَورة لن يختلف عنهم، فربما... هُجّروا كما هُجّر سواهم. تمسّكنا بأملٍ ضئيل، وأكملنا الطريق نحو التلال، نرجو الوصول إلى وادي عارة. وهناك التقينا بأهالي القرى الساحلية، رجالاً ونساءً، ما عدا أهل قريتنا... لم نرَ منهم سوى النساء.

كنت أسمع أمي تسأل المارّة:

’أين رجال الطنطَورة؟ أية طريقٍ سلكوا؟’

لكن لم يكن لديها من يُجيب. لا أحد يعلم. لا أحد يريد أن يعلم.

تابعنا السير... من قيسارية إلى جسر الزرقاء، ثم الفرديس، والنار تلتهم القرى من خلفنا، والرصاص يتساقط على رؤوسنا. سقط منا من سقط، وواصل الباقون كالأشباح، لا يأبهون لحياتهم، فقد سُلبت منهم المعاني.

وحين بلغنا كفر قرع وأم الفحم، تفرّق الجمع، وعاد من بقي له أهلٌ يلجأ إليهم، أما نحن القلّة، فتابعنا الطريق منهكين إلى أن وصلنا إلى المخيم الجبلي، الذي سيُعرف لاحقًا بـ’مخيم جنين’.

وهناك... وصلنا النبأ.

رجال الطنطَورة لم يُهجّروا، ولم يُعتقلوا.

بل أُعدموا جميعًا، بدمٍ بارد، ودُفنوا في أرضهم.

وقع الخبر علينا كالماء البارد على جسد محترق، شعرت وأمي بالاطمئنان... نعم، الاطمئنان! فلا نعيم في الدنيا يعدل شرف الشهادة في سبيل الله. ومع ذلك، كان في قلبنا غضبٌ لو خرج لأحرق الأرض بمن عليها.

لكن لم يُمهلنا الزمن طويلاً...

فبعد أشهر، استشهدت أمي إثر قصف جوي على مخيماتنا.

وبقيتُ وحدي، يتيمًا من وطنٍ وأمٍ وطفولة.

حينها... انضممت إلى صفوف المقاومة.ومع مرور السنوات تدربت على حمل السلاح، على حفر الأنفاق، على صناعة الصواريخ، وغذّيت روحي بالحكاية التي لن تُنسى.

كنت أكثر الشباب حميّة وغضبًا... أطلقوا عليّ لقبًا ظلّ يلاحقني كوسام: رجل من الطنطَورة.

من عام 1987 حتى 1993، كنت في الصفوف الأولى، أواجه جنود الاحتلال وجهًا لوجه، لا أهاب الموت، بل أُشعل فيه الرغبة ليحصدهم قبلي. طعنت، وأضرمت النيران، وقاتلت كيفما استطعت. في كل مواجهة، كانت النار تشتعل في صدري، غضبًا لا يُطفئه إلا دمُ الغاصب.

كان رفاق المقاومة ينظرون إليّ بدهشة وفخر، يتناقلون اسمي بينهم، ويهمسون: "هذا رجل من الطنطورة، فكيف لو قام رجالها جميعًا؟"

لكنهم لم يعلموا أني ما كنتُ أقاتل وحدي، بل كان في ظهري أرواح رجال قريتي المدفونين تحت ترابها، وكان غضب أمي يُلهب سواعدي، ودموعها تسيل نارًا في دمي، وصرخاتها تعوي في رأسي كريح ثائرة.

كنت أنا الطنطورة... كلها."

لقّبنا العالم في جنين بـ"عشّ الدبابير"، لكنهم لم يعلموا أننا كنا وكرًا للأسود.

تأسست كتائب المقاومة، وانتميتُ لها جميعًا. لم أطمع في منصب، ولا رغبت بقيادة، كنت فقط مقاتلًا، لا يهمني إلا الانتقام من عدوّ غادر.

ثم جاءت ملحمة جنين في نيسان عام 2002... حيث سطّرنا، نحن رجال المقاومة، سطورًا من المجد والعزة والفداء.
كنا أقل من مئة رجل، نقف في وجه حملة عسكرية ضخمة أطلق عليها الاحتلال "السور الواقي"، آلاف الجنود بعتادهم وآلياتهم وطائراتهم، هدفهم إذلال جنين، وسفك دماء شيوخها ونسائها وأطفالها.

لكنهم لم يعرفوا من يواجهون.

كنت في طليعة الصفوف، نقاتل من النقطة صفر، بصدورٍ عاريةٍ وأرواح لا تخشى الموت.

قتلنا منهم المئات، وكسرنا جبروتهم، حتى صاروا يفرّون منّا كالخراف، رغم أن طائراتهم حوّلت جنين إلى رماد.

استُشهد الأبرياء، لكنهم ذاقوا على أيدينا هزيمةً مذلّة، جعلتهم يغادرون جنين منكسي الرؤوس، يجرّون جراحهم وآلياتهم المحترقة خلفهم."

نسي الجميع اسمي، ولم يعد أحد يذكرني إلا بلقبٍ واحد: رجلٌ من الطنطُورة.

وكان ذلك يكفيني، بل يزيدني فخرًا.

سِرتُ بين الرجال مثالًا يُحتذى به في الفداء والشجاعة، وكأنني ظلٌّ لأرواح أولئك الذين رحلوا دون وداع.

ومن جنين، كانت البداية نحو هجرة أخرى... إلى أرضٍ لم تكن تعلم أن جذوة المقاومة ستشتعل في ترابها، إلى غزة.
هناك، بدأنا ننهض من جديد، تحت أيدي قادةٍ يعرفون معنى القتال، ويملكون من الكفاءة ما يُبنى به جيش من الأمل.

طورنا أنفسنا، طوّرنا أسلحتنا، وصنعنا من الألم درعًا، ومن اليأس رصاصًا، ومن الشهادة طريقًا للنصر.

شاركنا في حروبٍ كثيرة، أذقنا فيها العدو مرارة الهزيمة، ورفعنا راية النصر فوق جثث جنودهم المحترقة.

لم أتزوج، ولم أنجب...

فقد كانت حياتي كلها وقفًا على هذه الأرض، كل نبضة في قلبي تهتف بالثأر لرجال الطنطُورة، ولدم أمي، لصرخاتها حين حملتني وركضت وسط النار والموت.

واليوم، وقد قاربت الثمانين، ما زلت هنا في غزة، بين الرجال، أقاوم بما تبقّى فيّ من حياة، ولن أرضى إلا بأرضٍ طاهرةٍ من دنسهم، أو بشهادةٍ تليق برجلٍ من الطنطُورة.

أنا ياسين قاسم آل حمدان... أحد أبناء الطنطُورة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى