الاثنين ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

رشاد أبو شاور… الحارس الذي لم يترك البوابة وحيدَة

في مثل هذا اليوم، ٢٨ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤، رحل رشاد أبو شاور. رحل جسدًا، لكن صوته سيبقى حاضرًا في الحبر والذاكرة. في عمّان أغمض عينيه للمرة الأخيرة، بعيدًا عن قريته الأولى ذكرين في قضاء الخليل، القرية التي صارت، منذ أن أُبعد عنها طفلًا، جرحًا مفتوحًا وبوصلةً لا تخطئ الاتجاه.

رشاد لم يكن مجرد كاتب فلسطيني كبير، بل كان حارسًا للبوابة؛ البوابة التي تُفضي إلى فلسطين. ظلّ واقفًا هناك، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، يكتب كي لا يغلقها النسيان، ويزرع الكلمات على عتبتها كي لا يمرّ منها الغياب.

أدب مشبع بالحياة رغم الموت

من يقرأ مجموعاته القصصية والروائية، من ذكرى الأيام الماضية (١٩٧٠) إلى الموت غناء (٢٠٠٣)، يلمس أن الكتابة عنده لم تكن ترفًا ولا هواية. كانت مقاومة، وسلاحًا، ونافذة هواء في مناخ مكدّس بالدخان.

كتب عن الفقد، لكنه أصرّ أن يترك في قلب النص بذرة حياة. كتب عن الحرب والموت، لكن لغته كانت مشبعة بالضحك في آخر الليل، بالحبّ، وبالدهشة. كان يعرف أن القصة لا تكتمل إلا إذا قاومت، وأن الرواية ليست فقط سردًا للحزن، بل معركة صغيرة ضد الاستسلام.

المنفى الذي تحوّل إلى وطن لغوي

ما عاشه رشاد أبو شاور لم يكن منفى جغرافيًا وحسب؛ لقد حوّل غربته إلى منفى لغوي خصب. كتب من عمان ودمشق وبيروت، لكنه ظلّ يكتب كمن يعيش في الخليل، ويستيقظ على أصوات أزقة “ذكرين”.

في آه يا بيروت (١٩٨٣)، يومياته في حصار بيروت، بدا كمن يكتب ليس فقط لتوثيق الحصار، بل ليتحدى فكرة أن يُحاصر الإنسان داخله. في كل نصوصه، كان يمدّ جسرًا من اللغة فوق الجغرافيا الممزقة، ليقول: “الوطن حين يُسرق يُستردّ بالذاكرة”.

شاهد على زمن الخيبات… ومبشّر بالحرية

منذ النكبة إلى الكورونا، ظلّ رشاد شاهدًا على أزمنة ممتلئة بالخيبات. لكنه كان يعرف كيف يواجه الخيبة بالكتابة، وكيف يحوّل الهزيمة إلى نصّ يعاندها.

في آخر كتبه هكذا واجهت كورونا (٢٠٢٢)، لم يتوقف عن الحكي، حتى وهو يشيّع سنواته الأخيرة. كتب عن الوباء كما كتب عن الحصار: بروح تقول لنا إن الحياة، حتى وهي جريحة، تستحق أن تُروى.

غياب لا يليق بالغياب

اليوم، ونحن نقف أمام غيابه، نشعر أننا لا نفقد كاتبًا وحسب، بل نفقد جزءًا من وعينا الجمعي.

رشاد أبو شاور هو الكاتب الذي عاش منفىً طويلًا، لكنه رفض أن يعيش منفيًّا عن قضيته. بقي وفيًّا لفلسطين، قريبًا من بسطاء الناس، ناقدًا بجرأة، محبًّا بلا قيد، ومؤمنًا أن الحرية ليست حلمًا مؤجلًا، بل قدرًا محتومًا.

ختامًا

سلام عليك يا رشاد، وأنت تغادر إلينا بغيابك.

سلام عليك وأنت تترك وراءك مكتبةً من العناد والأمل.

سلام عليك، أيها الحارس الذي ظلّ واقفًا على بوابة فلسطين حتى آخر سطر.

ستبقى حيًّا في ذاكرة القرّاء، وفي قلوب الذين لم يروا “ذكرين” يومًا، لكنهم أحبّوها من خلالك.

وها نحن، في زمن تتكاثر فيه الخسارات، نتمسّك بكاتب علّمنا أن الكتابة نفسها فعل مقاومة، وأن الذاكرة وطن لا يُحتلّ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى