رقصة التواصل
عندنا في شمال المغرب عادة استشفائية طريفة . مفاد تلك العادة أن أم المريض أو المريضة تختار فقيها بعينه تميل إليه نفسها وتؤمل أن يكون سببا في تحقق العلاج. وحينما يتم الاختيار تسلم له قطعة من ثياب ابنها أو ابنتها أوشيئاً من أشيائهما الحميمة مثل منديل.وبعد أن يتسلم الفقيه القطعة " يبيتها " تحت وسادته وينام . وفي ضوء ما توحي إليه به القطعة من "رؤى " و "تصورات" يكتب بالصمغ رقيته أو حجابه على قطعة ورقية صغيرة شديدة البياض، يطويها بعناية ، ويسلمها إلى المرأة في وقار مهيب . بذلك يغدو " التبييت "خطة مشتركة ورئيسة في طلب العلاج المؤمل.
كذلك أتصور القارئ الناقد المطالب بكتابة تقرير عن الرواية المعاصرة أو عموم روايات ما بعد الحداثة. فالسائد أن هذا النمط من الروايات لا يسلم لقارئه "مضمونه " و إنما يوحي إليه به ،ويجعل نومه متقطعا مثل التقطع السائد فيما بين فقرات وحكايات هذا النمط .لذلك فأنت حين تقرأ نصا من هذا القبيل تراك لا تطلب من ورائه فهما مباشرا أو استحواذا شاملا على محتواه ،وإنما تضطر إلى الاستعانة بأحلام اليقظة والإلماعات التي تسنح في ذهنك إثر القراءة كالبوارق تتأملها بما يشبه الحدس ،ثم لا تطمع في أن تنتهي إلى حسم دلالاتها وحدودها.
ولقد أتيحت لي في الأيام الماضية فرصة أن أعيش مايشبه خطة " التبييت "خلال قراءة الرواية الأخيرة التي نشرها جميل عطية إبراهيم بعنوان "شهرزاد على بحيرة جنيف " . ومن حسن حظي أني كنت قد تمرست في مناسبات سابقة بقراءة ومعالجة مختلف أساليب التصوير الروائي لدى هذا الأديب المصري ، وسجلت جوانب من ذلك التمرس في مقال نشرته عن روايته "نخلة على الحا فة".
يقيم جميل عطية إبراهيم منذ سنوات طويلة في سويسرا ،وهو من مواليد الجيزةسنة
1937 ، مما يعني أنه يكمل خلال السنة الحالية عامه السبعين . ينتمي إلى جيل الستينات في مجال الكتابة السردية المتميزة بريادتها وتجريبيتها وبحثها عن أشكال تعبيرية جديدة في
القصة القصيرة أولاً ثم في الرواية ثانياً . واللافت للنظر النقدي في رواد هذا الجيل اجتهاده الكبير من أجل مواكبة أساليب الكتابة السردية الراهنة من منطلق التمكن من ناصيةالتعبير، والتدرج الواعي في مدارج الممارسة السردية وليس من منطلق المتابعة المتهافتة والتكوين الناقص،عكس ما يدعيه رؤوف مسعد من أن « بهاء طاهر وجميل عطيه إبراهيم وهذه الأجيال القديمة كلها لا تزال تكتب بعقلية الستينات » . ويكفي للكشف عن عدم دقة هذا الادعاء النظر المتأني في التكوين الجمالي للصور الروائية في أعمال جميل عطية إبراهيم وبهاء طاهر ، وتحليل نصوصهما ، واستشراف طبيعة البلاغة التي يصدران عنها .
ومن المصادفات الطريفة أني قرأت معظم فصول "شهرزاد على بحيرة جنيف " في عز الليل.يصيبني الأرق حوالي الفجر ، ثم أتطلع إثره إلى العودة إلى النوم عن طريق قراءة صفحات من الرواية قراءة فيها من المشاركة الوجدانية الناعمة أكثر مما فيها من الحسم الفكري. وحتى طريقة القراءة الألفية لم تكن متيسرة . ذلك أن التكوين الجمالي للرواية يغري بالقراءة المتقطعة، أو على الأصح القراءة على مراحل . فالرواية تتشكل من ثلاثين فصلا كل منها يحمل عنوانا ، ولا توحي العناوين بأية روابط متسلسلة . كما أ ن الفصول نفسها تشتمل على حكايات متأرجحة بين الانقطاع و التواصل . وكنت حينما أقرأ أدرك دلالات الأسطر في ذاتها ، وكذا دلالات الحكايات الجزئية القصيرة و الطويلة ، المعنونة وغير المعنونة ،لكن كان يصعب علي إثر ذلك أن أ ربط منطقيا فيما بين الفقرات ما دا م الراوي قد تعمد الانتقال بكل حرية من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال ، ثم العودة من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة ، مع القفز من موضوع إلى آخر، والضرب بالروابط السبببية عرض الحائط في كثير من المواقف، واستلهام الأساطير والعجائب والغرائب والتاريخ والمعلومات والأسمار والحكايات الألفية . وفي اللحظات التي يستعصي علي الفهم الشامل، تراودني من جديد مخايل النوم فأرجع ثانية إليه ،وأستسلم إلى أحلامه.آنئذ تفعل الوقائع المقروءة فعلها في لاشعوري ،فتنشط الرؤى والإيحاءات المستلهمة من الرواية ، وأغدو كالفقيه الذي كلف بمهمة "التبييت " . والطريف بعد ذلك أن تنجلي في الأحلام وأحلام اليقظة كثير من مستغلقات السرد المقروء ، ويتحقق نمط آخر من " الفهم " غير ذاك الذي أطلبه في ساعات الصحو، أوذاك الذي توحي به الروايات الواقعية ذات القصد المباشر . آنذاك أ ستسيغ الرحلة الغامضة التي قامت بها شهرزاد من أدغال الزمن ومن أقاصي بغداد لكي تستقر على ضفاف بحيرة جنيف الشاسعة، ربما من أجل سرقة منشار الزمن من أهل الغرب ،والطموح إلى معرفة السر في طول العمر لدى أهالي تلك الدول. خلال أحلام اليقظة أستسيغ رحلة شهرزاد صحبة شهريار و أختها دنيازاد وانخراطهم جميعا في مغامرات عصرية في الألفية الثالثة ، وأعاين كيف اختلطت حيواتهم بحياة الراوي المصري القادم من أعماق الصعيد وقد استوطن العاصمة السويسرية الوديعة ، واشتغل بها موظفا في هيئة الأمم المتحدة ،وأبدى انشغاله بما يجتاح الدنيا من مظاهر العولمة الماحقة ،وبما يمزق العراق وفلسطين ولبنان من فتن ، وكيف تعرف إلى كريستينا المترجمة البريطانية الشابة التي غدت صدى مناجاته الغريبة ،وطرفا حيويا في متابعة وقائع شهرزاد، وعاشت معه وقائع أخرى معقولة وغير معقولة . وإضافة إلى ما سبق تعرف الراوي العجوز في العاصمة السويسرية إلى بعض المهاجرين العرب ودخل معهم في مغامرات كابوسية متوترة، خاصة ا لأمير ميتراس الذي انتحر لأنه لم يتعلم الطبيخ .كما تعرف إلى المسيح الدجال الرجل الغريب الذي يسب الناس في الطرقات ويحب العظمة والحكي والغناء والرقص والانسطال، وإلى الآنسة "ش "الشاهدة الرئيسة في القضية التي حبس من أجلها شهريار في جنيف إثر اتهامه في حادثة انتحار الفتيات السبع في اليوم السابع من اكتوبر ،وإلى الفتاة ريتا ش راقصة الباليه التي أنقذت حياة الراوي ذات مرة ،لكنها تحولت بعد ذلك إلى مجرمة إثر اختطافها الطفلة كارينا في خاتمة الرواية . ومن أجل أن يظل الراوي منسجما مع مبادئه وسماته التي ميزته طوال صفحات هذا الكتاب سيضطر إلى التنكر في ملابس مهرج ويتقدم الموكب الذي سيحرر الطفلة المختطفة قي الصفحات الأخيرة من هذا العمل.
وإلى جانب هذه الشخصيات والوقائع المتقطعة ينخرط الراوي في مغامرات مع شخصيات حقيقية ستمارس هي الأخرى وظائف خيالية وحتى عجائبية . من تلك الشخصيات شكسبير و إبراهيم أصلان وبورخيس وفاطمة المرنيسي وفوزية أسعد وبهاء طاهر وأمل دنقل وعفيفي مطر وغابرييل غارثيا ماركيث وكوندوليسا رايس ونجيب محفوظ وتشومسكي وإدوار سعيد وغيرهم كثير.
خطة التصوير إذن في رواية "شهرزاد على بحيرة جنيف "تقوم على تداخل الحقيقة بالخيال،وعلى الانقطاعات في السرد ،وعدم تماسك عناصر الحدوتة طبقا للتماسك السائد في الروايات الواقعية المباشرة .لذا يصبح من البين أننا إزاء نمط من روايات الأفكار الهلامية أكثر مما نحن إزاء رواية الحدث المتسلسل .بيد أن الأمر لايصل برواية جميل عطية إبراهيم إلى حد التصوير السريالي الذي يلغز الجملة ويفجر اللغة ويوجه الدلالات إلى السديمية أو التشتت التام. وكأني بهذا النمط من التصوير الروائي يستلهم روح الواقعية ثم يمضي بها في سراديب ما هو عجيب حتى يصل بها إلى مشارف مايعرف بالواقعية السحرية . من ذلك تلك الصورة التي ترصد جانبا من العلاقة الغامضة بين العجوز العربي المقيم في جنيف والطفلة كارينا التي سيسهم في إنقاذها في خاتمة الرواية. جاء في تلك الصورة:
«قالت السيدة في أدب بالغ:صباح الخير يا سيدي . وسحبت الطفلةَ ناحية المصعد ،لكن الطفلة جذبتها إلى الخلف . وبدأتِ الرقص والتصفيق في إيقاعات متناسقة. أخرجتُ الرق من حقيبتي و صاحبتها بالدق وهز الشخاليل ،وشجعتها بصوتي الأجش.
رقصت الطفلة في حمية على دقات الرق . تطير وتحط وتدور وتلف وتنحني وتنتصب وعلاقة سحرية تجمع بين حركة ساقيها ويديها وهزات رأسها ،وطوال الوقت لم أنظر إلى والدتها التي أظن أنها كانت خجلة من أعمال و أقوال الطفلة .
توقف الخارجون من المصعد والقادمون من جحيم الجو السيئ في الخارج حولنا ،ودوائر الرقص التي ترسمها الطفلة بجسدها تضيئ بير السلم.
بدأت الطفلة تستعد لتختم رقصتها ،أبطأت في الدوران ، وبعدها انحنت لتحيةالواقفين، وصاحبتُها بهز الشخاليل .
انتهت الرقصة وابتسمت والدتها . قالت شكرا . اقتربت مني الطفلة ، قالت :
شكرا سيدي المهرج . صرخت فيها والدتها ، قالت :عيب .
ابتسمتُ ، قالت لي السيدة معتذرة مرة أخرى:
البنت لاتدرك معنى الكلمات»
أصف هذه العلاقة بالغامضة نظرا إلى عدم وضوح حوافزها الإنسانية الدفينة في الصورة و في الرواية كلها . وبالمقابل يصف الراوي نفسه العلاقة بين حركات الطفلة الراقصة ب "السحرية " ، ويثير الانتباه إلى قدرة دوائرها على إضاءة بير السلم ، مما يثبت أن المشهد المصور يتم في ظروف غير عادية . إن الطفلة كارينا وأمها جارتان للراوي الشيخ المهووس بحب الموسيقى والإيقاعات . يسكن معهما نفس العمارة منذ عشر سنوات ، ومع ذلك لم تتح له قط قبل هذا اللقاء فرصة الكلام مع الجيران والتخلص من وحدته في هذه البيئة الغربية الغريبة عنه . هي إذن رغبة عارمة في تحقيق التواصل الإنساني بين مصري صعيدي مسكون بهوى الشرق (الرقص والغناء والحكايات الألفية والكائنات المسحورة والتطلع إلى تغيير العالم ) ،وبين مخلوق غربي مفعم بالبراءة والتلقائية . والملاحظ أن هذا التواصل الحار قد تحقق بين الراوي والطفلة وليس بين الراوي وأمها . وحتى الرقص نفسه ما كان ليغدو وسيلة ناجعة لتحقيق التواصل السحري المضئ ما لم يكن متسما بالتلقاقية والبراءة . كأنه حفلة زار . وفي صفحات لاحقة من الرواية سيتعرف الراوي المطلع على الموسيقى الكلاسية الغربية إلى ريتا راقصة الباليه السامقة الطول ، المفتولة العضلات وسيستثمر تينك السمتين (التلقائية و البراءة ) من أجل السخرية من هذه المرأة الغريبة ا لأطوار والتي لم يتحقق معها أي تواصل إيجابي . هي إذن بلاغة المقابلات . المرأة في مقابل الطفلة. والصلابة في مقابل النعومة . والتلقائية في مقابل الجريمة المبيتة . والباليه في مقابل مايشبه الزار . والشرقي في مقابل الغربي . والقدرة على بث السحر المضئ في مقابل الانطفاء.والواقع أن النساء الغربيات التي سيتعرفهن الراوي في كل الرواية لن يحقق معهن التواصل الإنساني المتوخى باستثناء الطفلة كارينا . حتى الصديقة كريستينا نفسها ظهرت في البداية منشغلة بنفس هموم الراوي وتهويماته وانسجمت معه في مطاردة شهرزاد ، وإذا بها بعد ذلك تمل وتنسحب من دائرة اهتماماته .وثمة أيضا السيدة العجوز التي حلمت بشنق شهريار بسبب جرائم قتل العذارى في زمن قديم وصرخت قائلة : كيف يجوز إدانة إسرائيل بجرائم حرب وشهريار حر طليق ؟ وحتى الآنسة ش التي استقبلت الراوي في بداية الأمر بترحاب شديد غيرت أقوالها ضد شهريار ، وشك العجوز المصري إن كانت المرأة تنتمي إلى منظمة سرية من تلك الجماعات الجديدة التي تبشر بالموت . وفي المحصلة تظل ثمة شهزاد من حيث هي رمز شرقي آت من غياهب الزمن والتاريخ ، يتماهى معه الراوي ويسايره في " تحولاته "حسب صيغ التحولات"في الحكايات العجيبة ، ويستثمره أداة طيعة لتحديد مواقفه من غول العولمة والمصير الإنساني والسلام المنشود . كما تظل ثمة الطفلة الغربية كارينا القادرة ، رغم فتوتها وعدم إدراكها معنى الكلمات، على اختراق الحواجز و تحقيق التواصل التام . لذلك لم يغضب الراوي حينما وصفته الطفلة ب " المهرج " نظرا إلى إدراكه الدلالة العميقة لتلك اللفظة البعيدة في جوهرها عن القدح والسب . وكأن التهريج في هذه اللغة التواصلية مرادف للوظيفة المتعالية التي يتميز بها خلال الاحتفالات الشعبية والكرنفالية حيث يتساوى سائر البشر وتتم التعرية وتزول الحواجز .فهل حقا ذاك هو السبيل الوحيد من أجل تحقيق التواصل الإنساني في زمننا المعاصر؟ سبيل الرقص التلقائي الساحر، القادر على بث الدوائر المضيئة ، وتجاوز معاني الكلمات الجوفاء ؟ ذاك سؤال متعال تجيب عنه رواية جميل عطية إبراهيم بطريقتها التصويرية الخاصة المستندة إلى الخيال الحرالطليق عوض طريقة الحسم الفكري.
تأسيسا على كل ذلك لم يكن من المستبعد أن يقبل الراوي المشاركة في تخليص كارينا ،الطفلة الغربية التي تتكلم نفس لغته الانسانية .تم ذلك في خاتمة الرواية وفق خطة بوليسية تذكرنا بالخطة الواردة في خاتمة رواية "نخلة على الحافة " لجميل عطية إبراهيم نفسه.
تلك هي ، حسب تصوري ،البنية العميقة لرواية " شهرزاد على بحيرة جنيف ": البحث الجمالي المتأني عن السبيل الكفيل لتحقيق التواصل الدافئ ليس بين الشرق والغرب فحسب ، بل بين البشر جميعا . أ ما شهرزاد وباقي الشخصيات الألفية ، والحكايات القصيره المتناثرة ، و أنماط الخوارق فليست سوى أدوات توصيلية تتمتع بسمات جمالية موغلة في الانطلاق والتحرر. الفكرة النبيلة هي الأساس إذن ، وربما انسياقا وراء ذلك لم يعمق الراوي تصوير تفاصيل الخاتمة حتى يزيدها إقناعا . إن وقائع صفحة 173 على سبيل المثال تصور اللحظة الحاسمة التي اهتدى فيها الراوي والجماعة المصاحبة إلى مخبإ الطفلة المختطفة . يعزف ويدق الرق ويهز الشخاليل ثم يصمت منتظرا صوت الطفلة . وبالفعل يأتيه في ذات لحظة نداء الطفلة صادرا من عمارة ، نداء جعلني أتساءل إن كانت المرأة المختطفة قد تغابت إلى هذا الحد ولم تتخذ كل الحيطة من تكميم فم الطفلة أومنعها من النداء بمختلف الوسائل ، وهي المرأة القوية المتمكنة؟
من الواضح أن جميل عطية إبراهيم مشغول كعادته بالاستعارات الكبرى وتصوير التيه الإنساني المعاصر في مواجهة آفات الحروب والعولمة والمسخ . ومن أجل التشخيص الروائي لتلك الغايات لم يتقاعس الرجل عن إطلاق عنان خياله الجامح يطارد به الكليات ويشرح الأسئلة المعضلة . وفي تلك المطاردة تكمن موهبته ويتجلى لونه البلاغي المتفرد في مجال الرواية العربية المعاصرة . ولقد ذكرني هذا الصنيع بلون آخر متفرد صاغه محمود تيمور قبل جميل عطية إبراهيم بحوالي ستين سنة حينما نشر روايته الخالدة "كليوباتره في خان الخليلي"، وعالج فيها آفات الحروب ، واندحار القيم ،والاستعمار من خلال شكل تصويري ساخر يمزج الواقعي بالعجيب ، ويستحضر الشخصيات من بطن التاريخ ويجعلها تمشي وتحب وتعاند وتتآمر في الزمن الحديث كأنها تنتمي إليه. لكن على الرغم من تشابه الغايات النبيلة ،وتقارب الشكلين ظلت كل من التجربتين متميزة بلونها البلاغي الخاص.