الاثنين ٤ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم فراس حج محمد

رواية كورونيّة في المطبعة!

أعلن قبل أيام أحد الكتاب الروائيين الفلسطينيين أنه أنهى كتابة رواية عن "كورونا"، وأنها الآن في المطبعة، وستكون جاهزة بعد أيام قليلة. هذا خبرٌ تلقاه أصدقاؤه الفيسبوكيون كالعادة بالترحيب والتهليل وكثير من عبارات المباركة، ومدح العمل وكل تلك اللغة التي تبعث على "القرف"، لما فيها من انجرار وراء شهوة نرجسية لدى الطرفين، ولأننا "مجتمع ثقافي" بالمجمل أبعد ما نكون عن الثقافة لم يقف أحد عند هذه الحادثة التي سبقتها إرهاصات كثيرة، ودعاوٍ كثيرة للكتابة، وإعداد مسابقات وكتب حول جائحة، حبست ثلاثة أرباع العالم في بيوتهم، وهددت حياتهم بالموت.

هذا الكاتب الذي أعلن عن "روايته" العظيمة بالكثير من الفرح والحماس، وهو يبث الخبر السعيد، ذكّرني بالمثل الشعبي الفلسطيني: "ناس في عزاها، وناس في هناها"، مع العلم أنه لن يكون في هناءة عندما تصدر روايته؛ لأنها ستكون في أغلب الأحيان مستندة إلى الشكليات والأخبار الصحفية، وما سمع وما قرأ وما شاهد. إن كثيرا من الحقائق المؤلمة التي سيخلفها الفايروس ستكون صادمة للضمير الإنساني، فكيف ستكون الرواية إذن وهي أشبه بجرد سردي لغوي شكلي، ليس له أي سند من عمق أو فلسفة؟

لم يمضِ على أزمة كورونا الوقت الطويل ليجعلها موضوعا روائيا ناجحا، فالأزمة ما زالت في بدايتها، والعالم ما زال يتلقى المفاجآت الواحدة تلو الأخرى بفعل طبيعة الفايروس وخطورته وانتشاره، والألغاز والأحاجي التي أحاطت فيه، عدا ما خلفه من ضحايا ومآسٍ إنسانية وصحية واقتصادية وسياسية وثقافية. لقد أوقف هذا "الشبح الصغير" العالم الذي لم يتوقف عن الدوران منذ وجد وحتى الآن.

ربما علينا أن نعي أن مدة شهرين ونصف ليست كافية لإنتاج رواية جيدة، حسب ما دافع الكاتب عن نفسه عندما اعترضتُ على هذه الرواية من حيث هي رواية كورونية وصلت المطبعة، وتتهيأ أن تلبس غلافها لتلطمنا بجمالها الأنيق، ولو قمنا بعملية حسابية بسيطة لهذه المدة، الشهرين ونصف، فكم هي المدة التي قضاها الكاتب في تأمل الحدث أولا؟ ومتى فكّر بكتابة روايته هذه؟ وهل فكّر بالشكل الروائي والتقنيات السردية التي سيوظفها في الرواية؟ وكم استغرقته الكتابة؟ وهل تمت مراجعة مسودة الرواية؟ وكم مرة أعاد كتابة بعض الفقرات أو بعض الجمل على الأقل؟ مع أنه من المهم هو تأمل الكتابة ذاتها وربما احتاج لإعادة كتابة الرواية بمسودات متعددة كسيناريوهات محتملة للحبكة والشخوص وما إلى ذلك. وهل استند إلى مخطط روائيّ كما يفعل كتاب الرواية في العادة؟ هذه أسئلة متعلقة بالوقت لدى الكاتب، ناهيك عن الأسئلة المتعلقة بدار النشر، فهل تم تدقيق الرواية لغويا مثلا وعرضها على محرر أدبي؟ إن دور النشر في فلسطين لا تفعل ذلك، إذن فلنتجاوز عن هذه النقطة. ألم يقرأ الناشر الرواية؟ ألم تعرض على لجنة إجازة للأعمال التي تنشر؟ ربما عليّ أيضا أن أتجاوز هذه الأسئلة أيضا، ففي فلسطين لا مكان لهذه الأسئلة بالنسبة لصناعة النشر التي لها أمراضها المعدية الكثيرة. يبدو أن صنعة الرواية في فلسطين ينطبق عليها المثل الشعبي: "من الشجر للحجر"، بمعنى من حاسوب الكاتب مباشرة للمطبعة، وخير البر عاجله أيها المثقفون!

لا شك في أن ثمة كتابا متعجلين، ليس في فلسطين وحدها، يسابقون الزمن، ويريدون تسجيل سبق روائي، كأول روائي وأول رواية كتبت عن "كورونا"، إن هذا المنطق الأدبي الساذج جدا يجعل الأدب تحت رحمة الكارثة التي لم تنته بعد. أنهم يوقعون رواياتهم غير الناضجة في شرك الرداءة قطعا، لاسيما أولئك الكتاب الذين لم يعيشوا الأزمة في أشد بؤرها ألما وجنونا، أما أولئك الكتاب الروائيون الذين عايشوا الأزمة وما زالوا يعايشونها فإنهم قلقون إلى حد الخوف على حياتهم، فليس بمقدورهم وهم بين الحياة والموت أن يكتبوا مقالا، عدا أن يكتبوا رواية. إن هؤلاء الروائيين في بؤرة العاصفة، فكيف سيكتب روائي متعجل نيابة عنهم يجهل صنعة الرواية رواية عن كورونا؟ إن الأمر يحمل كثيرا من مشاعر الشفقة على الطرفين.

أظن أننا ما زلنا في رحلة توهان وضياع رؤى لم تصل إلى حد إتاحة الفرصة للتأمل العميق لإخراج رواية. فالرواية حتى تكون عملا ناجحا يلزمها تأمل التجربة ذاتها والعيش معها، تجربة بهذا العمق وهذا الأثر، لن يفلح كاتب في الكتابة عنها مهما أوتي من قوة في الأدوات، ومن خصب في الخيال، ومن ثراء في اللغة. وهذا ليس حكم قيمة على رواية في علم الغيب، ولكن منطق الأشياء يقول مثل هذه الحقائق التي ربما لا يختلف عليها منصفان، لو أرادا أن يقولا الحقيقة بعيدا عن المجاملات والخوف.

وأخيرا بدأت كثير من الأصوات النقدية والأدبية تضيق ذرعا من زج الأدب في عاصفة كورونا القاتلة، شعرا ورواية، وثمة كتابات ناقدة وبحق لهذا السيل "المجنون" من الكتابة الكورونية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ثمة اختلافا بين الرواية من جهة، وبين الخاطرة والمقالة بأنواعها والقصيدة من جهة أخرى، بل إن القصائد الملحمية الكبرى تحتاج إلى وقت كالرواية، لما تحتاجه القصيدة من رؤى فلسفية مجازية التصوير والعرض واستحضار الخيال المنبثق عن الواقع والمفضي إليه. والرواية أيضا تحتاج إلى الوقت لاستخراج الفكرة المناسبة، فهي ليست مجرد حكاية، وجمع أقاصيص من هنا وهناك. وتوليفها على شكل "حاوية سردية" يطلق عليها صاحبها لقب رواية. ولنعلم أن ثمة روايات استغرق كتابها عشر سنوات بل أكثر وهم يكتبون ويتأملون ويضيفون ويحذفون ويعدلون، فالروايات العظيمة ليست بنت العجلة والتقارير الصحفية والتأثر العاطفي، ولا تخضع كذلك لشروط السبق الصحفي. إننا وضعنا الأدب كله اليوم في مأزق كبير لن يتعافى منه سريعا، وقد لا يتعافى منه أبدا، لتضاف تلك الأزمة إلى أزماتنا الإبداعية التي لا تكفّ عن التفريخ في عالم مهووس بالرواية والروائيين، وإخضاع الأزمات للفعل الروائي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى