

زياد الرحباني: صوت الضمير والحنين والثورة
في رحيله، شعرت كأن جزءًا من وجداني الثقافي غاب فجأة، لم يكن زياد الرحباني مجرّد فنان، بل كان مرآة لأسئلتنا الصامتة، رفيقًا للفقراء في سهراتهم، ولمثقفي الهامش في عزلتهم، في زمنٍ خذلتنا فيه الخطابات، ظلّ صوته صادقًا كوجع أمّ، وساخراً كمن فقد الإيمان بكل شيء إلا الموسيقا.
لا أكتب الآن كرثاءٍ للفقد، بل امتنانًا لحضوره الذي لن يغيب، لأنه كما قال: لا أبكيك بل أودّعك بوجع من يودّع رفيقًا في الخندق لا يُعوّض. "ما في شي بينّسي..."
زياد يا زياد، أيها العابر بين نغمةٍ ولعنة، أيها المترنّح بين شايكوفسكي والمخيم، بين الحبّ الفوضوي والمسرح المعبّأ بالرصاصات والسخرية "كيفك إنت؟... ملّا إنت؟"
ها أنت ترحل فجأةً، كما يفعل الشعراء الذين تعبوا من شرح الحبّ والحرب للعالم، فهل صار السؤال كيفك أنت بلا جواب! نردّده على بعضنا ونحن نعلم أن أحدًا لن يجيب لا بطريقتك، لا بنغمتك، ولا بنصف ابتسامتك الساخرة، تلك التي تسخر من الوجع وتحتويه في آن!
كنتَ تشبه بيروت في أقصى حالات صدقها: متعبة، ساخرة، مشتهاة، وأحيانًا قاسية، كنتَ أكثر من فنان عبقري، كنتَ "أنا مش كافر، بس الجوع كافر"
في زمنٍ صارت فيه الثقافة مجاملة والمسرح إعلانًا، كنت وحدك تصرخ: "بالنسبة لبكرا شو؟
نحن لا نعرف، ونعرف أنك تعرف الجواب، لكنك كنت تُصرّ على أن نسأله نحن. والآن... الآن نعرف أنّ صوتك كان البوصلة، وأن الحقيقة لا تُقال في الصحف، بل في جملةٍ عابرة في مسرحية، في نغمة بيانو تنزل كدمعةٍ لا تُقال، في صرخة رجل بسيط يقول: " ليش هيك صار فينا؟ لأنو نحنا ناس منحب الحياة... وما تعودنا عالوجع" ، "ما خلّونا نعيش بكرامتنا، بس بدّن يانا نموت بأدب"
كنت المثقف الذي لم يساوم، فيك التقت جدّية الفكر الماركسي مع عبثية عازف جاز في ملهى ليلي.
.فيك اجتمع وجع الطبقة المسحوقة ومرارة العاشق الذي لم يستقر يومًا على قلبٍ واحد أو وطنٍ واحد وكنت الشيوعي الذي أحبّ أمه، فغنّى لفيروز لا للوطن، والعاشق الذي كتب أغانيه كمن يحفر قبرًا أو يشعل ثورة.
لم تكن فنانًا فقط، كنت المقاوم الذي قاوم القبح بالفنّ، كنت مشروعًا وجوديًا بأكمله.
كلماتك كانت تسعفنا حين خاننا السياسيّ، وألحانك كانت وطنًا حين ضاقت بنا الأوطان.
في زمن التصفيق الأجوف، كنتَ الصفعَ. في زمن الوطنية المعلّبة، كنتَ الفضيحة الجميلة.
علّمتنا أن السياسة ليست مؤتمرات، بل وجع وغضب وقهقهة في وجه الفشل.
علّمتنا أن الفن ليس تسلية، بل خيانةً للخرس العام، وأن الرومانسية ليست عيونًا سوداً فقط، بل وجع وطنٍ يُحبّك رغمًا عنه.
سنفتقدك ليس فقط في الحفلات أو على خشبة مسرح، بل في المقاهي، في السجالات الفكرية، في الحنين إلى أمّهاتنا، وفي الخوف من بكرا
كنت ابن بيروت الأكثر صدقًا، وصوتك كان سلاحًا، وبيانًا سياسيًا، ورائحة حبّ في فنجان قهوة،
والعاشق الذي كتب عن النساء كما يُكتب عن الثورة: بلا تنميق... وبلا ندم.
كلماتك علّمتنا أن الحب لا يأتي "بلا ولا شي"وأن الفن ليس ترفًا، بل شهادة، شهادة على زمنٍ سقط، "وما حدا راح يسأل"، لكنك بقيت تسأل، وأن بيروت ليست عاصمة فقط، بل امرأة نائمة على كتف الحنين. علّمتنا أن نحبّ الوطن دون أن نكذّب عليه، أن نحبّ الأمّ دون أن نعبدها، أن نحبّ المرأة حتى لو كانت “رافضة تعيش متل ما بدها" .
غادرتنا الآن، لكننا لن نُطفئ المسارح، ولن نخفض صوت البيانو، ولن نتوقف عن ترديدك كلّما صار العالم ضيقًا، لأنك كنتَ تقول "ما في شي بينسي"
ونحن لن ننساك، لا نقدر أن ننساك، لأنك ببساطة تسكن قهوتنا الصباحية كما صوت فيروز أمك.
رحل زياد الذي يقول الحقيقة كما رآها، وعاشها، وغنّاها. رحل الجسد، لكن الصوت... ما زال بيننا.
فمن منّا لم يختبئ في أغنيةٍ منه ليصمد؟ وكم من مقطعٍ من زياد عشناه كأنه كُتب لأجلنا؟ وكم من جملة منه بقيت في ذاكرتنا مثل نبض لا يسكت؟
#زياد_الرحباني
#وداعًا_يا_زياد
#صوت_الغضب_والحنين
صوت الضمير حين خرسَ الجميع#
مشاركة منتدى
٥ آب (أغسطس), ١١:٥٩, بقلم محمد احمد داوود
شكرا على النشر.
٧ آب (أغسطس), ٠١:٤٣, بقلم محمود عطا الله
كان متمردا (مترف)، يمكن فيه نفس ثورجي، لكنه وقف ضد السوريين في ثورتهم، كما أن ليس لهم الحق في ذلك. انا لا أؤيد ولست ضد لكن ما رأيناه في 14 سنة كان قاسيا بل مهولا ولا يمكن لزياد تبريره.