الأربعاء ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم الهادي عرجون

«سرقتُ وجه القمر» لبسمة الحاج يحيى

أن تكون أنثى محملة بثقل الواقع ومرهونة بجملة من الاعتبارات الاجتماعية، وما تعانيه من مرارة وانكسارات تحطم ارادتها وتقيد حركتها، لتنتفض في حركة عفوية لا إرادية، ليولد من رحم الوجع والظلم الإنساني ذلك الأمل، حين تبني من الوجع هويتها وكيانها الأنثوي، وهي تتذوق ثمرة الأمل المحاط بحالة الفوضى والسكون، فوضى صنعها القدر، تحاول ترتيبها وتتأقلم معها، ولكن هناك من ينكر هذا الترتيب وتأسره الفوضى، ليولد من رحم الصّراع والفوضى شكل إبداعيّ جديد- إن صح التعبير- يختلف اختلافا كبيرا عن المصطلحات المألوفة وبنمطيّة جديدة اختارت لها من الأسماء (سرقت وجه القمر) التي صدرت عن مطبعة نور سنة 2022.

وهو عبارة عن أحداث واقعية أرادت الكاتبة من خلالها طرحها بطريقة تعتمد على أساليب التّلميح والإيحاء في القص، لتجد الحرية والانعتاق وتطفئ حرائق الذات حين تعالج واقعا اجتماعيا تحكمه العادات والتقاليد وتأسره الحكايات لتتحدث من خلال واقعها المعيش عن الشرائح الاجتماعية المعاصرة للأحداث، وتعكس من خلال مجموعتها القصصية بمرآة أفكارها الحياة بكل تفصيلاتها.

كما تعكس روح الكاتبة وعمق وجدانها وثقافاتها وفلسفتها الحياتية الخاصة، وما أفرزه قلمها من خلال الحديث عن مجتمع تحكمه العادات والتقاليد وتأسره حكايات الناس وأحاديثهم لتكون هذه النصوص عبارة عن رسائل الحاضر للماضي ورسائل الحاضر للمستقبل وهي تقلب ذاكرة الماضي وتخط خطوطه على مرآة تعكس الواقع الاجتماعي، ليكون التحدي محاولة للانطلاق والانعتاق.

فتختار الكاتبة في كثير من الأحيان، من خلال نصوص المجموعة الانطواء والانزواء، والصمت، ولكنها تتمرد عندما تسنح الفرصة على كل هذه المسلمات فتكون المواجهة والوقوف في وجه التيار. لتفتح نوافذ نصوصها على عوالم أخرى، نوافذ تحيل على انزياح اللفظ نحو جملة من الإحالات المرجعية من خلال اليومي والملموس من واقعها المعيش لتوظفه كأحسن ما يكون التوظيف، لتترك للقارئ والناقد في آن، محاولة فهم المعاني قبل إصدار الآراء المسبقة حول عملها البكر (سرقت وجه القمر) والأحكام النقدية التي يمكن أن يبثها رغم ما في بعض نصوصها من الغموض، هذا الغموض الذي يذكرنا بمقولة لجبرا إبراهيم جبرا "إن كل عمل فني ذي أبعاد و غوامض يعرضه هذا للخطر " فالكاتبة تكشف واقعها وتفضح اليومي والمعيش من حياة أبطالها لتكتب نصها دون خوف أو صدام لأفكارها مع الواقع فهي تتبع مقولة ارنست همنقواي "أكتب نصك و ألزم الصمت …".

ولكن رغم ما تحمله هذه النصوص من صمت إلا أنه بوح تفضحه المعاني والمفردات لتغزل لنا بنول كلماتها نسيجا من خلال مجاز اللغة حينما يمضي بنا النص إلى مفارقات و مشاهد تجتهد الكاتبة في تأسيس أبنيتها و قد أحسنت في ذلك وتمكنت من اللعب على أوتار النص بحنكة قادتنا إلى جمالية النص و خصوبته الفنية المطلقة.

وفي خضم هذا الصراع الذي تعانيه شخصيات أقاصيصها تظهر شخصية المرأة الباحثة عن سكون الحياة، المرأة التي سرق منها الزمن السعادة، وتفنن في قضم تفاحة الأمل الباقية والمرهونة بطبيعة المجتمع من خلال اعتمادها على السرد الواقعي المحض وهو ما يجعل الكاتبة تعمد إلى القارئ توجهه وتنير له مسالك وتشعبات أقاصيصها كما ترسم جغرافية مروره عبر ثنايا النّصّ من خلال جملة من التعليقات والإضافات على سبيل التعريف والتقديم، من خلال اطلالة شعرية أو فلسفية تتميز بفلسفتها في تفسير الأحداث، كما في قولها:

"أتحسس يده، فلا تشعرني بالأمام. ضاع الأمان بقبضة يده. ضاع الأمان، وأنا أحاول، في وسط الظلمة الحالكة، أن أتبين ملمس هذه اليد، علي أهتدي عبرها إلى قبس من نور...)"(ص29)، قبل أن يلج إليها القارئ، لتقديم أو لشرح وضعية معينة أو تثبيتا لرأي أو استهجان لفكرة أو ثناء على شخصية من شخصيات القصة، وقد وشحت بها جل أقاصيص المجموعة لتزيد من متعة القراءة تارة لتثري نصها بجملة من الأفكار ظاهريا وتوهم القارئ أنها مجرد ناقل للأحداث والآراء بوصفها القارئ الأول لأقاصيصها.

فمن المعروف لدى المتتبع أن النص الأدبي أنواع. فهناك النص الرئيس، والنص المحيط، والنص الفوقي. فالنص الرئيس هو الذي يتعلق بالنص الإبداعي الذي يوجد بين دفتي الكتاب، ويتسم بخاصيات دلالية وفنية ووظيفية، ويرتبط بلحظة الإبداع. في حين، يتعلق النص المحيط بالعتبات التي تحيط بالنص، مثل: العنوان، والإهداء، والمقدمة، والمقتبس... في حين، يتعلق النص الفوقي بالقراءات النقدية، والتعليقات، والشهادات، والرسائل، والحوارات، والمذكرات...

والعتبات التي تهمنا في هذا النص هي المقدمات التي وشحت بها أغلب أقاصيصها والتي كانت بمثابة عبارات تعبر عن (التعريف أو التلخيص لمحتوى القصة أو بعض الأحاسيس) ويمكن اعتبار هذه التعليقات مهمة في مجال تحليل النص الأدبي؛ لأنها تسعف الباحث، أو الناقد، أو المحلل، في فهم النص الأدبي وتفسيره وتأويله، أو تفكيكه وتركيبه. والتي في النهاية هي التي تبين وتحدد العلاقة بين النصين (الموازي والرئيس) والتي يمكن اعتبارها علاقة جدلية قائمة على المساعدة في إنارة خبايا النص الداخلي لاستيعابه وتأويله، والإحاطة به من جميع الجوانب.

والتي يعرفها الدكتور سعيد يقطين: بأنها عبارة عن تلك " البنية النصية التي تشترك وبنية نصية أصلية في مقام وسياق معينين، وتجاورها محافظة على بنيتها كاملة ومستقلة، وهذه البنية النصية قد تكون شعرا أو نثرا، وقد تنتمي إلى خطابات عديدة، كما أنها قد تأتي هامشا أو تعليقا على مقطع سردي أو حواري وما شابه".

أما بخصوص شخصياتها القصصية فتظهر تارة تباعا وتارة أخرى حسب صيرورة الزمن المطلق الذي يسهم في خلخلة الأحداث فالمكان والزمن في العمل القصصي أو الروائي يساعد على خلق حركة في الشخصيات وبالتالي تنامي الأحداث ومع هذا، فالشخصية تعتبر من المقومات الرئيسية للخطاب السردي بصفة عامة فهي التي تقوم بتحريك الحدث القصصي وتفعيله وتؤكد حضوره في جسد القصة.

فالشخصيات القصصية بأسمائها التي في الأغلب وليدة البيئة التي ولد فيها، (البشيرة، منى، نادية، سعاد، حليمة، عز الدين ، درويش، الجيلاني، محمود، ...) قد تحضر داخل النصوص والخطابات، وهي محملة بالإرث الثقافي في شكل علامات مرجعية ورموز نصية وسيميائية، تستوجب من المتلقي أثناء التعامل معها أن ينطلق من خلفية معرفية مزودة بمعلومات تعكس البيئة التي تعيش بها الشخصية ليتحقق اتساق النص وانسجامه مع اليومي والواقعي والمتخيل كما هو الحال أثناء التعامل مع الروايات الواقعية التي تعتمد المزج بين سردية فنية تخييلية وبين الحياة المعيشية اليومية كمعطى واقعي معيش.

وهو ما يجعل بناء نصوص بسمة الحاج يحيى بناء مخصوصا يشبه لعبة المرايا مرآة الواقع المنظور الذي يفرضه مسار اليومي والمعيش ومرآة المتخيل المحتمل الذي تحكمه الغيبيات والأحلام والماورائيات والإبحار في الخيال "فالواقع له قوانين وحدود، يسير وفقها كل من يتمتع بالواقعية أو كل من يتمتع بمنطق العقل الواقعي العقلاني، أما الخيال فمسموح لنا أن نسبح خلاله بكل الاتجاهات بهدوء، مسموح لنا أن نطير عبره بالأعالي..."(ص94).

كما تستعمل الكاتبة أسلوب المونولوج الذي يجعل الشخصية أكثر حيوية، وأوفر إحساسا تجاه الشخصيات التي تجتمع معها في المكان والزمان والأحداث "فهراء ما يقولون، لو ذاقوا لوعة الفراق لادخروا نصائحهم، ولما ألقوها بوجهي مجانا"(ص91)، مما جعل مشاعر الشخصيات تتدفق تدفقا عفويا يتعاطف مع بعض الشخصيات، يثير الكثير من الاستفهامات التي تستند الى جدلية واحدة هي جدلية الأسئلة الغامضة "أتراها تفهمني؟ هل تراها تعي حنيني؟ هل تراها ستبكيني، أم تراها لو فارقتني ستنعيني؟"(ص79)، وينقم على البعض الآخر دون قناع أو تصنع، وهذا ما جعل المسافة بين القارئ والسارد تتقلص من جهة وبين الشخصيات فيما بينها من جهة أخرى مما جعل تصوير المؤلف للأحداث أكثر مصداقية وأكثر واقعية.

بالإضافة إلى توظيف الكاتبة اللهجة المحكية (الدارجة) والتي جاءت لإثراء النص بما أن توظيف العامية في النص الأدبي، إنَّما هو ترجمة للواقع نفسه، حيث إن اللهجة المحكية (الدارجة) هي في الغالب أداة التواصل في البيت، والشارع، والعمل، وهي لغة الحياة تعبر عن البيئة التي تسكنها وتعبر عن ساكنيها بما أنها مرهونة بالتواصل ضمن فضائها الاجتماعي.

ولكن الملفت للانتباه هو اعتماد الكاتبة على حيز كبير من حياة الناس البسطاء والمهمشين الذين يعتبرون لسان حال المجتمع من خلال تشبثهم بالغيبيات لإثارة ذهن المتقبل لقبول أو رفض هذه الماورائيات والعادات والتقاليد، مع العلم أنه لو لم تكن تلك الحكايات تحتوي على مقومات البقاء لما استطاعت الصمود أمام الزمن، والتي بقيت راسخة في أذهان البشر لتؤدي دورها الاجتماعي والفكري والعقائدي الذي من أجله أنشئت، وهو ما يجعل نصوصها رهين تلك العادات وما يصاحبها من بحث عن الخلاص من خلال دخول الكاتبة إلى عمق المجتمع بشكل تخييلي تظهر العادات والتقاليد، وتدخل عالم الأحلام والأمنيات لتنطرق من خلال كل هذا إلى معاناة كبار السن مع قسوة الأبناء وتنصلهم من مسؤولياتهم وعقوقهم في بعض الأحيان وفي الآن ذاته تعكس بمرآتها قسوة الآباء على أبنائهم، كما تطرقت الكاتبة إلى مشكلة ترمل الزوجة في شبابها، المرأة التي سرق منها الزمن السعادة، وتفنن في قضم تفاحة الأمل الباقية والمرهونة بطبيعة المجتمع، وأحاديث الناس، والعادات والتقاليد،وما تعنيه هذه الصفة (الأرملة)، بكونها الضلع الحسّاس بالمجتمع، الذي يرفض المواجهة، خوفا من الأحكام المسبقة أساسا، فهي المسكينة، والضعيفة، غير الحكيمة، والمُخطئة، وغيرها من الأحكام التي سبق تجهيزها من قبل الآخر.

وفي النهاية يمكن أن نقول بأن هذه النصوص نجحت في شد القارئ إليها، وهذا ما جعلني أنجذب وأتصفح مجموعة (سرقت وجه القمر) من رؤى مختلفة (قارئ وناقد) ولقد لمست فيها خصوصيات جمالية و دلالية تعكس ثراء تجربة كاتبتها بسمة الحاج يحيى، وقفت خلالها على جمالية القص وسحر المعنى وجمالية الطرح للقضايا التي تناولتها، فقد جذبتني إليها بأسلوبها المتميز والساحر الذي يستميل القارئ ليعيش الأحداث مع شخصيات قصصها التي تُبسط له الأحداث وترتبها له بعيدا عن التهويم والتغريب، غايتها معانقة القارئ لتفاصيل الواقع ليتماهى مع الأحداث ويتفاعل مع شخصياتها القصصية في أسلوب قصصي مميّز. بلغة بسيطة وعميقة مع سهولة وتلقائية في معالجة وتناول الأحداث، لجلب القارىء نحو خيوط النهاية وتتبع مسار النص دون أن تخذل القارىء بمطبات تفقده لذة القراءة ومتعة السير في دروب نصوصها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى