

سلمى
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
الرصاصات تُغرق السماءَ بزمجرةٍ متوحشة، تنهش السكونَ بنابٍ حديديّ لا يعرف الرحمة، تُشبه انهيارَ جبلٍ عتيقٍ تحطم تحت وطأة الغضب.
الأفقُ يبدو هش يتفتت تحت ضربات الحديد والنار، شظاياه تتناثر كحبات رملٍ محمومة في عاصفةٍ لا تهدأ، تحمل في طياتها رائحة الدمار والخوف.
الدخانُ الكثيفُ يتصاعدُ كستارٍ أسودَ ثقيل، يُغطي عينَ الشمسِ بغطاءٍ من الحزنِ المُطبق، معلناً نهاية يومٍ لم يبدأ بعدُ.
أنفاسي تتصارعُ مع الهواءِ الخانق، المُشبعٌ برائحةِ البارودِ الحادةِ والموتِ المُتربص، أنفاسٌ متقطعةٌ كأنها تُحاول أن تتشبثَ بما تبقى من أملٍ في صدري المُنهك.
كل نفسٍ أتنشقه يحمل طعماً مراً، أبتلع غبار الأرض التي أُحرقت مراتٍ ومرات، وهي تُقاوم الموت بصمتٍ عنيد.
فجأة، سقطَ جسدُهُ أمامي كشجرةٍ عتيقةٍ ضخمةٍ اقتلعتْ جذورَها يدٌ غاشمةٌ بلا شفقة.
الرمال تشربت ما تدفق من دمه، كأنها تُحاول أن تحتفظ بآخر ذكرى حية منه، لتصنع لوحةً مرسومةً بيد القدر، لونها بلون الحنطةِ المحروقةِ في أرضنا الطيبة، ممزوجةً برائحة الياسمينِ الذابلِ الذي قتله العطشُ وأهملته الأيامُ الجافة.
صرخَ بصوتٍ مكسورٍ كزجاجٍ هشٍّ تطأهُ قدمٌ ثقيلةٌ: "انجو أنت، دعك مني، أنا أعرف طريقي!" صوتَهُ لم يكنْ سوى صدىً بعيدٍ يترددُ في أذني، عاجزًا عن طمسِ صورةٍ اندفعتْ إلى ذاكرتي كالسيلِ الجارف: يدُهُ القويةُ تمسكُ بيدي بثباتٍ حديديّ يومَ أنقذني من تحتِ الأنقاضِ في تلكَ الليلةِ المشؤومةِ التي بدتْ كأنها نهايةُ العالمِ منذ عشر سنوات.
كانت الطائراتُ تُلقي بحممها على بيتنا القديم، و الغبارُ الأبيضُ يملأُ رئتينا ويُعمي أعيننا، لكنه لم يتركني. قالَ لي حينها بصوتٍ يقاوم الانهيار: "الأصدقاءُ يعيشون معًا ويموتون معًا."
لم أستمعْ إلى توسلاتِهِ، لم أستطعْ أن أتركهُ وحيدًا يواجهُ الموتَ.
حملتُهُ على كتفي، ولا أدري من أين أتت كل هذه القوة لجسدي المنهك.
الطائراتُ تُلقي بنارِها، تتنفّسُ غضبًا أسودَ لا ينضبُ ، صوتُ محركاتِها يُشبهُ عواءَ ذئابٍ جائعةٍ تطاردُ فريسةً منهكةً لا مفرَّ لها.
الدباباتُ خلفنا تزحفُ ببطءٍ مخيفٍ كوحوشٍ من أساطيرِ الجحيمِ القديمة، عجلاتُها تُطلقُ صريراً معدنياً يُشبهُ صوتَ الموتِ وهو يقتربُ بخطىً ثابتةٍ وبصبرٍ قاتلٍ لا يرحم.
كلُّ خطوةٍ أخطوها تُعيدُني إلى ذكرى أمّي العجوز، وهي تجرُّ أقدامَها المُتعبةَ من حقلِ القمحِ إلى بيتنا القديمِ الذي يقاومُ الزمنَ بصمتٍ صلب. تتحركُ كظلٍّ صامتٍ تحتَ الشمسِ الحارقةِ، أسمعُ أنفاسَها المتقطعةَ وهي تُرددُ بصوتٍ خافتٍ كالنسيم: "الأرض تُعطي الحياةَ معنىً، يا ولدي، والمعنى يُبقينا أحياء." أمي تؤمنُ أن الحياةَ لا تُقاسُ بطولِ الأيام، بل بما نتركهُ فيها من أثرٍ، وها أنا أحملُ صديقي كما حملتني ذكراها، أحاولُ أن أجدَ معنىً وسطَ كل هذا الخراب.
أشعرُ بثقلِ جسدهِ على كتفي، ثقلَ السنواتِ التي عشناها معًا، ثقلَ الضحكاتِ التي تقاسمناها، والدموعِ التي أخفيناها عن بعضنا.
كل خطوةٍ تُعيدني إلى تلكَ اللحظاتِ التي كنا فيها أطفالاً لا نعرفُ من العالمِ سوى ما نراهُ في عيونِ آبائنا وأمهاتنا.
أتذكرُ كيفَ كنا نجلسُ تحتَ شجرةِ الزيتون العجوزِ، نستمعُ إلى حكاياتِ الجدّاتِ عن الأبطالِ الذين قاتلوا في يافا و حيفا .
أصواتهنَّ ترتجف شوقا، غرست فينا حب أرضنا وجعلونا نؤمنُ أن الأرضَ التي نحبها تستحقُ أن نُضحي من أجلها.
وصلنا أخيرًا إلى كهفٍ صغيرٍ منحوتٍ في حضنِ الجبلِ الصلب، كأنهُ فمٌ أرضيٌّ مفتوحٌ يبتلعُنا بعيدًا عن عيونِ الموتِ المتلصصة.
دخلنا إلى رحمِ الأرضِ، بحثًا عن أمانٍ وسطَ عاصفةِ الحربِ التي لا تهدأ.
الظلامُ في الكهفِ حالكًا، يُحيطُنا بغطاءٍ باردٍ يُخفينا عن العالمَ الخارجيّ، يحملُ رائحةَ أرضنا الطيبة التي منحتني شعورًا غريبًا بالحياةِ وسطَ كلِّ هذا الموت.
رائحةُ الترابِ الرطبِ تختلطُ برائحةِ الدمِ الذي جفَّ على ملابسي، تُذكرني بأيامِ الحصادِ حينَ نجمعُ القمحَ، نغني أغانيَ قديمةً كأننا نُحيي الأرضَ بأصواتنا.
أخرجتُ قنينةَ الماءِ الأخيرةَ من جيبي الممزق، بضعُ قطراتٍ فقط تبقّتْ فيها كأثرٍ أخيرٍ للحياةِ التي كنا نعرفُها. بللتُ شفتيهِ المُتشققتينِ، لكنه، بإصبعٍ مرتعشةٍ، دفعَ القنينةَ نحوي بضعفٍ وعنادٍ معًا.
حاولتُ أن أتظاهرَ بالشربِ لأُطمئنَه، فابتسمَ ابتسامةً باهتةً كضوءِ قمرٍ يختبئُ خلفَ غيمةٍ سوداء ينتظر رحيلها.
همستُ بأذنهِ بصوتٍ مختنقٍ، "لا تمت، لا تمت!"، فأنتَ كل ما تبقى لي من إيمانٍ؛ منذُ أن رأيتُ الأطفالَ يموتونَ بلا ذنبٍ تحتَ القصفٍ العشوائيٍّ، قصفٍ يُسقطُ البيوتَ كأوراقِ شجرٍ يابسةٍ في خريفٍ لا ينتهي.
أمسكَ بيدي بقوةٍ، وقالَ بصوتٍ ضعيفٍ كالريحِ التي تتلاشى بينَ الجبال: "أكمل أنت الطريقَ."
تذكرتُ يومَ ودّعنا سلمى "ابنة العم" عندَ حدودِ مدينتنا، كيف وقفَ أمامها تحتَ شجرةِ زيتون عجوزٍ كانتْ تُظللُ المكانَ بأغصانها الملتويةِ كأيدي جدةٍ حنون، وأسرَّ لها بصوتٍ خافتٍ: "سأعودُ حاملاً زهرةَ لوزٍ بيضاءَ نقيةَ من تلالِ الشمال لأضعَها في شعركِ الطويلِ كتاجٍ يليقُ بكِ" لكنّني رأيتُ دمعةً صغيرةً يُخفيها حينَ التقت عيوننا.
انتظرنا حتى غطى الظلامُ الأرضَ كعباءةٍ سوداءَ ممزقةٍ مليئةٍ بالثقوبِ التي تُظهرُ نجومًا باهتةً لا تُضيءُ سوى الحزنَ في قلوبنا. خرجنا من الكهفِ بحذرٍ كالظلالِ التي تخافُ أن تُمسكَها أضواءُ القناصينَ المتربصينَ في كلِّ زاوية.
البحرُ كانَ يصيحُ من بعيدٍ كأمٍّ تنتظرُ أولادَها الغرقى عندَ الشاطئ، موجُهُ يُرددُ أغنيةً قديمةً كنتُ أسمعُها من جدتي وهي تجلسُ على عتبةِ بيتنا القديم تُرقِّعُ ثوبًا باليًا بإبرةٍ ترتعشُ في يدها المجعدة.
تغني بصوتٍ خافتٍ كالريحِ التي تهمسُ بينَ الأشجار: "يا بحرُ يا عالي، احملْ سلامي للغالي..." كان صوتُها يحملُ شوقاً لأيامٍ مضت، وكنتُ أظنُّ أنها تُغني لأجدادي الذين رحلوا، لكنني أدركتُ الآنَ أنها كانت تُغني لنا جميعًا، نحنُ الذين ستواجهنا الحربُ يومًا ما.
حملتُهُ مرةً أخرى على كتفي، جسدَهُ بدا كظلٍّ خفيفٍ يتلاشى، كأنّ روحهُ بدأتْ تتسربُ بعيدًا تاركةً الجسدَ خلفها قشرةً فارغة.
بينما أمشي على الرمالِ الباردةِ التي تُقرصُ قدميَّ الحافيتين، بدأَ يتكلمُ بصوتٍ متقطعٍ كندى يتساقطُ في آخرِ الليلِ الهادئ: "هل تذكرُ يومَ جمعنا الخوخَ من بستانِ أبو أحمد؟ كنتَ تصعدُ الشجرةَ كسنجابِ صغيرِ وترمي لي الثمارَ بضحكةٍ تملأُ الدنيا فرحًا."
تذكرتُ تلكَ الأيامَ حينَ كنا نركضُ في الحقولِ حُفاةً كالغزلانِ الصغيرة، والشمسُ تُطاردُنا بأشعتها الذهبيةِ الدافئة، كنا صغارًا وحلمنا بأن تبقى الحياةُ هكذا إلى الأبد، بلا حربٍ ولا دمٍ ولا فقدان.
كانت الأرضُ تُعانقُ أقدامنا بحنانٍ، والريحُ تُغني لنا أناشيدَ السلام، لكن ذلكَ كلهُ تلاشى كحلمٍ لم يكن سوى سرابٍ في صحراءِ الحربِ القاحلة.
عندَ الفجر، وصلنا إلى الشاطئٍ حيثُ كانَ البحرُ يلمعُ كسيفٍ مُذوّبٍ تحتَ ضوءِ الشمسِ الأولى التي بدأتْ تُطلُّ من خلفِ الأفقِ كعينٍ خجولة.
طلبَ مني أن أنزلَهُ بهدوءٍ كأنّهُ يخشى أن يُزعجَ سكونَ المكان، فجلسنا على الرمالِ الباردةِ التي كانتْ تشربُ نورَ الصباحِ كأنّها عطشى للحياةِ بعدَ ليلٍ طويلٍ من الظلام.
نظرَ إلى الأمواجِ بعينينِ غائمتينِ كسماءٍ مُلبدةٍ بالغيوم، وقالَ بصوتٍ أخفتَهُ الأمواجُ المتكسرة: "أولُ مرةٍ رأيتُ البحرَ كانَ عمري ثماني سنين... جاءوا بأبي مقطوعَ الساقينِ، كانَ محمولاً على نقالةٍ خشبيةٍ بسيطةٍ صُنعتْ على عجل، لكنّهُ كانَ يبتسمُ وهو يقولُ لي: ’هذا ثمنُ قليلُ لأرضٍ لا تُشترى بأيِّ ثمنٍ في العالم.’ كنتُ أظنُّ أنّهُ يهذي من الألمِ الذي كانَ يعتصرُه، لكنّني الآنَ أفهمُ ما كانَ يعنيهِ بكلِّ كلمة." كان صوتُهُ يحملُ حنيناً عميقاً إلى أبيهِ، وإلى تلكَ اللحظةِ التي ربما غيرتْ حياتَهُ إلى الأبد.
أمسكَ يدي بقوةٍ، نظرتُ إلى وجههِ الشاحبِ كورقةٍ جافة، الشمسُ تنسجُ خيوطًا ذهبيةً حولَ جفنيهِ المُتعبينِ كتاجٍ من نورٍ لملكٍ مهزومٍ في معركةٍ ظالمة.
"لا تنسَ سلمى..." همسَ بصوتٍ كانَ أضعفَ من حفيفِ الريحِ بينَ أوراقِ الأشجارِ اليابسة، ثمّ سكتَ إلى الأبد.
كنتُ أنظرُ إليهِ وأنا أشعرُ بأن جزءًا من روحي غادرَ معهُ، لكنني كنتُ أعرفُ أنني يجبُ أن أستمرَّ، لأجلهِ، ولأجلِ سلمى، ولأجلِ كلِّ ما كنا نحلمُ بهِ يومًا.
عدتُ إلى الديار بعدَ أيامٍ طويلةٍ، أحملُ في قلبي ثقلاً لم أشعرْ بهِ من قبلُ، كأنّني أحملُ أرواحَ كلِّ من فقدتُهم على كتفيَّ المُتعبين.
كانت الطرقاتُ التي كنتُ أعرفُها قد اختفت ، الأشجارُ التي كانت تُظللُ دروبَنا صارتْ جذوعاً محترقةً تُشبهُ أصابعَ عملاقٍ يتوسلُ السماءَ بلا جدوى.
وجدتُ سلمى واقفةً عندَ التلةِ ذاتها التي ودعناها عندها قبلَ شهور، تحملُ زهرةَ لوزٍ جفّتْ منذُ سنواتٍ حتى صارتْ كقطعةٍ من الورقِ المحروقِ تتفتتُ بينَ أصابعها. عيناها كانتا تبحثانِ في الأفقِ البعيدِ عن ظلٍّ لن يعودَ أبدًا، كأنّها تنتظرُ معجزةً رفضَ الزمنُ القاسي أن يمنحَها إياها. كانت تقفُ كتمثالٍ منحوتٍ من الحزن، شعرُها الأسودُ الطويلُ يتطايرُ مع الريحِ كأنهُ يحملُ أسرارَ السنينِ التي مرتْ بنا جميعًا.
اقتربتُ منها بخطواتٍ ثقيلةٍ كأنّ الأرضَ تُعانقُ قدميَّ وتُحاولُ أن تُبقيني مكاني، وجلستُ بجانبها على صخرةٍ باردةٍ كانتْ شاهدةً على أحاديثنا القديمةِ في أيامِ السلمِ المنسية.
كنتُ أتذكرُ كيفَ كنا نجلسُ هنا معًا، نحنُ الثلاثة، نتحدثُ عن أحلامٍ كبيرةٍ كانت تبدو قريبةَ المنالِ يومها.
" البحرُ جميلاً ذلكَ الصباح،" قلتُ لها بصوتٍ خافتٍ وأنا أنظرُ إلى الأرضِ الجافةِ تحتَ قدميَّ، "وشروقُ الشمسِ من مياههِ كانَ يشبهُ عينيكِ حينَ تبتسمينَ في أيامِ الربيع." كنتُ أحاولُ أن أمنحَها شيئًا من الجمالِ الذي رأيتهُ في تلكَ اللحظةِ الأخيرةِ معهُ، لكن الكلماتُ بدتْ كحباتِ رملٍ تتساقطُ بلا وزنٍ أمامَ حزنها.
رفعتْ عينيها إليَّ ببطءٍ كأنّها تحملُ جبلًا من الحزن، ولم تقلْ شيئًا، لكنّ دمعةً صامتةً انزلقتْ على خدِّها.
أشعرُ بأنني يجبُ أن أحكيَ لها كلَّ شيءٍ، عن الطريقِ الطويلِ، عن الكهفِ الذي احتضنَنا، عن البحرِ الذي شهدَ رحيلهِ، لكنني لم أجدَ الكلمات.
كانت سلمى تعرفُ، ربما من نظرةِ عينيَّ، أو من الصمتِ الذي حملتُهُ معي.
أمسكتُ بيدها، وشعرتُ ببرودةِ أصابعها كأنها لم تعرفْ الدفءَ منذُ زمنٍ بعيد. "وعدني أن يعودَ بزهرةِ اللوزِ،" قالتْ أخيرًا بصوتٍ مكسورٍ كأنهُ يخرجُ من أعماقِ بئرٍ جافة، لم أستطعْ أن أجيبَها، لكنني ضممتُ يدها بقوةٍ أكبر، كأنني أحاولُ أن أنقلَ إليها بعضًا من القوةِ التي كان يمنحُني إياها يومًا.
في تلكَ اللحظةِ، وعدتُ نفسي أن أحملَ أحلامَهُ وأحلامَها معي، أن أواصلَ الطريقَ الذي بدأناهُ معًا، حتى لو كان ذلكَ يعني أن أمشيَ وحيدًا تحتَ سماءٍ لا تعرفُ الرحمة.
كانت الشمسُ قد بدأتْ ترتفعُ في الأفقِ، ترسمُ خيوطًا ذهبيةً على الأرضِ المحروقة و تُحاولُ أن تُعيدَ الحياةَ إلى ما تبقى منا.