

سندويش الجبنة الأخير
“سندويش الجبنة هو جواز سفري الحقيقي إلى أميركا!” كان رائد يتندّر على هذه القصة دومًا،أمام أصدقائه وأقاربه والدته ما كانت لتسمح له بالسفر، لولا أنها تأكدت من أنه أصبح يجيد، على الأقل، تحضير سندويش الجبنة لنفسه. صار رائد يتفنّن في إعداده، حتى أصبح معروفًا بين أصدقائه بلقب “ملك سندويشات الجبنة”.
في البيت، كان مدلّلًا من الجميع، وخصوصًا من والدته، رائد، الابن الوحيد بين أختين، ابنًا لعائلة ميسورة الحال من جنوب لبنان. كان متفوقًا في دراسته إلى حدّ جعله يُرشّح لنيل منحة دراسية لدراسة الهندسة الميكانيكية في إحدى الجامعات المرموقة في ولاية أتلانتا، في الولايات المتحدة الأميركية. لم يكن طالبًا عاديًا؛ بل كان شغوفًا ومنضبطًا، على نحوٍ جعل جميع أساتذته يعقدون عليه الآمال.
قضى إجازة رأس السنة في قريته الجنوبية، قرب الصّوبا (مدفأة على الحطب يستخدمها أهل القرى في فصل الشتاء)، حيث شواء الكستناء والبطاطا الحلوة، وطبعًا سندويش الجبنة بخبز المرقوق الساخن، وضحكات الأهل في المساء، وأحاديثهم التي لا تنتهي. لم يعكّر صفو هذه الإجازة سوى صوت المسيّرات الإسرائيلية وأصوات القصف على القرى الحدودية، والذي أصبح، منذ بدء “طوفان الأقصى”، روتينًا مريرًا في حياة الجنوبيين.
وفي يوم العودة إلى أميركا، وبعد وداع ثقيل في المطار، وبينما كان والداه في طريق عودتهم إلى قريتهم، وعند بداية الطريق السريع في منطقة خلدة (مدينة قريبة من مطار بيروت الدولي)، اكتشفت أمّ رائد أن الشنطة الصغيرة التي تحتوي على علب البقلاوة لا تزال على المقعد الخلفي للسيارة. صرخت طالبةً من أبو رائد أن يعود أدراجه إلى المطار.
رنّ هاتف رائد. كانت أمه تتصل.
– “رائد، نسيت شنطة البقلاوة!”
– “ليس ضروريًّا يا ماما، لا داعي لأن تعودوا، لقد أهديتهم بقلاوة في الإجازة الماضية.”
– “عيب يا ماما! أصدقاؤك أهدوك في عيد الميلاد، واجب أن ترد لهم الهدية. من يراني بعين، أراه باثنتين! ثم الأجانب ليسوا أهل واجب ولياقة أكثر منا، فشروا! نحن أهل الواجبات، وليس هم.”
– “ماما…” قال رائد متأففًا.
– “لا تسجّل دخولك، انتظرنا، نحن على طريق العودة.”
لم تكن أمّ رائد تساوم على القيم، ولا تقبل أن يتخلّى ابنها عن واجباته مهما صغرت. كانت علاقته بوالدته مميّزة، لطالما ذكّرته بأداء واجباته الاجتماعية مع أصدقائه في أتلانتا على أكمل وجه. كانت تقول له عبارتها الشهيرة:
“من يراك منهم بعين، تراه باثنتين!
ولطالما ردّدت أيضًا:
“لا يترك الواجب إلا قليل الأصل، ونحن أولاد الأصول.”
في أميركا، استأنف رائد دراسته بنجاح، وكان من الطلاب المتميّزين في الجامعة. تشارك مع صديقته الأميركية المقرّبة اهتمامات رياضية، ومشاركة خفيفة في بعض النشاطات الثقافية. السياسة لم تكن تعنيه، ولا كان يُبدي حماسة لأي نقاش حزبي أو جدلي.
ومع ذلك، وبعد توالي مقاطع مجازر الإبادة الجماعية في غزة، بدأ التغير يظهر عليه. كان يتابع الأخبار من بعيد، متألمًا، مرتبكًا. ثم رأى فيديو للناشط الأميركي “آرون بوشنيل” الذي أحرق نفسه احتجاجًا على ما يحدث في فلسطين. لم ينم تلك الليلة.
في صباح أحد أيام شهر آذار، أرسل لوالدته مقطع فيديو صغيرًا وهو في مخيم أكاديمي للجامعة:
– “ماما، أعرف أنك تتصلين ولا أرد في وقتها، ولكن كما ترين، نحن في مخيم تدريبي، وغير مسموح لنا باستخدام التلفون إلا في أوقات محددة. أنا بخير. لا تشغلي بالك.”
لكن والدته كانت قد بدأت تلاحظ شيئًا تغيّر في نبرة صوته. ظلّ يرسل لوالدته يوميًّا رسائل مصورة صغيرة يطمئنها فيها عنه ويخبرها ببعض تفاصيل المخيم.
في السادس من حزيران، وقبل أذان الظهر بقليل، تلقّى والد رائد اتصالًا من رقم غريب.
– “السلام عليكم، أبو رائد؟ أنا المختار..”
– “وعليكم السلام مختار..”
– “أنا والشباب في الطريق إلى بيتك.”
– “أهلًا وسهلًا، لكن من تقصد بالشباب؟”
– “أبو رائد، نحن على الطريق، نتحدث حين نصل.”
دخل المختار برفقة رئيس البلدية، ورجل خمسيني يُدعى “أبو ياسر”، وشاب في مقتبل الثلاثينات. استقبلتهم أم رائد، التي ارتبكت لكنها ابتسمت كعادتها وقالت: “تفضلوا، أهلًا وسهلًا.”
دخل أبو رائد إلى الصالون، وسلّم على الجميع. لحظة ثقيلة مرّت، قبل أن يقول لزوجته:
– “قومي يا أم رائد، حضّري قهوة للرجال.”
لكن المختار استوقفها:
– “اقعدي يا أم رائد… نريد أن نحكي معك أيضًا.”
نظرت أم رائد إلى زوجها في قلق، ثم إلى وجوه الضيوف الغريبة.
قال الحاج ياسر بعد أن تنحنح:
– “يا أبو رائد، يا أم رائد… نحمل رسالة من ابنكم رائد.”
تجمّدت ملامح الزوجين.
– “حضرتك كنت في أميركا؟” سألت الأم.
– “لا.”
– “أحد من أولادك هناك؟”
– “لا.”
– “طيب حضرتك؟” سألت الشاب الذي لم ينطق بعد.
– “لا، يا خالتي.” أجاب بصوت خافت.
صرخ أبو رائد بصوت فيه رجاء وغضب:
– “قولوا ما الموضوع! ما هي الرسالة؟ من أتى من عند رائد؟”
نظر المختار في عينيه، وقال بنبرة مؤثرة:
– “أبو رائد… أعظم الله أجرك برائد. شهيد لبنان وفلسطين.”
ثم أضاف أبو ياسر:
– “هنيئًا لك، أم الشهيد.”
اختنق صوت أبو رائد:
– “عما تتكلم يا مختار؟”
شحب وجه أم رائد كما لو انطفأ نوره، وابيضّ كقطعة ثلج، وازرقت شفتيها، دارت الأرض بها وتداخلت وجوه الحاضرين ببعضها، غطت عينيها المتسعتين من هول الخبر غشاوة سوداء. في هذه اللحظات، صدح مئذنة مسجد القرية بأذان الظهر.. “الله أكبر.. الله أكبر”.. كان هذا آخر ما سمعته قبل أن تهب واقفة، ثم تسقط على الأرض مغشيًا عليها.
بعد مراسم العزاء، اجتمعت العائلة في غرفة الجلوس للاستماع إلى رسالة رائد. لم يكن رائد قد ترك رسالة مكتوبة، بل فيديو مسجل بصوته وصورته.
ظهر رائد في التسجيل، بوجهه البيضاوي وعينيه الزرقاوين. استغرب أهله مظهره، فهم لم يعتادوه بزي عسكري. كان يبتسم ابتسامته الهادئة التي أظهرت أسنانه البيضاء المتراصة، ثم قال بصوته الهادئ:
– “ماما، بابا، أعرف أنكم مصدومون… تقولون: ما لرائد والجهاد؟ كيف وصل إلى هناك وهو لا يجيد حتى استخدام بارودة صيد!!”
ضحك، ثم استأنف حديثه:
– “هل تريدون أن تعرفوا كيف وصلت إلى ساحة الجهاد؟”
توقّف قليلًا، كمن ينتظر فعلاً أن يسمع جوابًا لسؤاله. ثم أكمل مجيبًا بنفسه:
– “كلامك يا ماما!.. نعم، كلامك.”
– “ألستِ أنتِ من كان يردّد دائمًا:
‘فشروا الأجانب يعملوا واجباتهم أفضل منّا؟ نحن أهل الواجب، وأولاد الأصول’؟
أجيبي يا ماما، كنتِ تقولي ذلك، صحيح أم لا يا أم رائد؟”
ردّت وسط شهقات بكائها:
– “صحيح، يا قلب ماما وروحها… أنا أقول ذلك…”
– “طيب، يا ماما، آرون بوشنيل حرق نفسه لأجل ماذا؟ كي يهز ضمير العالم الصامت والساكت عن نصرة شعب مظلوم، أعزل، سُرقت منه أرضه وحريته، لكنه رفض أن يساوم على كرامته… العالم كله متواطئ، متخاذل، إلا قلّة قليلة كآرون بوشنيل. هل ترضين أن لا أكون من القلّة الأصيلة التي تقوم بواجباتها؟ ألستُ أنا ابن الجنوب… ابن لبنان… ابن الأصول؟ وابن الأصول لا يترك واجبًا… هكذا ربيتموني أنتِ وأبي.”
صدح أبوه باكيًا:
– “ونِعمَ التربية، يا حبيب أبيك… ونِعمَ الابن أنت، يا قُرّة عيني…”
تابع رائد في التسجيل، بصوت فيه ثقة وهدوء:
– “بابا، أعرف أنك تقول: ما دخل رائد بهذه الأمور؟ رائد يهتم فقط بدراسته. ولكن، والله، والله، لم أكن لأستطيع الصمت أكثر… كان الصمت ثقيلاً على قلبي وضميري. حتى عقلي لم يكن ليتقبل أن لا أفعل شيئًا. كان لزامًا أن أفعل شيئًا… أي شيء… حتى ولو أعددت الطعام للمجاهدين… يعني سندويشات الجبنة!”
قهقه، وأضاف:
– “تعرف يا بابا، لما وصلت إلى هنا وسألني الشباب إن كنت خضعت لتدريب ما، أجبتهم: أنا لم أحمل سلاحًا في حياتي قط، ولا حتى بارودة صيد، لكني مهندس، وأجيد تحضير أطيب سندويش جبنة. اسمحوا لي بالتطوع، لربما أفيدكم بشيء…”
ضحكت أم رائد وسط دموعها وبكائها، حين سمعت ابنها يلقي نُكته المعهودة عن مهارته في إعداد سندويش الجبنة، حتى في وصيته، ومن قلب الميدان
تنفّس رائد بعمق، واعتلت وجهه مسحة حزن، ثم قال بصوت حنون:
– “الآن دور الصبايا الحسناوات أختي نايا، ، وأختي مايا أتكّل عليكم أن تقفا قرب ماما وبابا، وتكونا لهما عونًا وسندًا، كما كنتما دائمًا خلال سفري… أنا الآن في سفرٍ أيضًا، سفرٍ طويل، بدون غربة ولا عناء فيه. سأكون راضيًا، هذا الرضا الذي يولد من إحساسك بأنك صنعت فرقًا، ولو صغيرًا… بأنك لم تقف مكتوف اليدين، أخرسًا وسط هذه الهمجية المبثوثة مباشرة، على منصّات العالم بأسره. لا عذر للساكتين… لا عذر للمتخاذلين… لا عذر.”
كفكفت الأختان دموعهما، وهما يهززن برأسهن موافقات على حديثه.
تمتمت أخته نايا:
– “ما أثقل ما حمّلتني، يا حبيب قلبي… سفرك هذا، الذي لا غربة ولا عناء فيه لك، فيه ثقل غيابك، وجمر الشوق لرؤياك، يا أخي…”
آخر لقطة في التسجيل كانت لرائد، وهو يضحك ضحكة عريضة، غرقت فيها عيناه في محجريهما، وهو يقول:
– “على فكرة، يا ماما، هل تعرفين أنّ صديقتي كاثرين، الشقراء، التي كنتِ تخافين عليّ منها، وتقولين لي: لا تتقرب منها كثيرًا، لأنها تريد أن ‘تتصيّدك’ عريسًا لها… هل تذكرين كلامك؟ حسناً… كاثرين هي من تركتُ معها هاتفي، وهي من كانت ترسل لكم الفيديوهات لتطمئنوا عليّ. كنت قد اتفقت معها على ذلك، وصورت العديد منها قبل سفري. ولكن، هل تدرين، يا أم رائد، يا بنت الأصول، ماذا قالت لي كاثرين حين أخبرتها بنيّتي بالذهاب والالتحاق بالمقاومة؟ لقد قالت لي إنها فخورة بي فخورة بإنسانيتي، وقالت إنها تراني إنسانًا بحقّ.”
فهل ستتركين الأجنبيات يقمن بواجبهن وحدهن؟ أم ستقومين بواجبكِ، يا أم رائد، وتفخرين بي؟”
احتضنت أمه صورته الكبيرة في زيه العسكري، المُزيّلة باسمه الفعلي واسمه الجهادي. كان لزامًا على كل مجاهد أو متطوّع أن يختار لنفسه اسمًا جهاديًا يُعرف به في ساحات الجهاد. وكان المجاهدون غالبًا ما يختارون أسماء أبطال تاريخيين من عهد الأئمّة والصحابة الأجلاء، أو ثوارٍ مُلهَمين حقّقت ثورتهم وجهادهم انتصاراتٍ وإنجازاتٍ وصنعت تاريخًا يُحتذى به.
قرأت أم رائد اسم ابنها بصوت متهدّج:
“الشهيد السعيد،
المهندس رائد عون
(آرون بوشنيل).”
مسحت بيدها على وجهه، وظلت تقبل صورته حتى بلل دمعها زجاج الإطار كله.