الاثنين ٢٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

شاعرةٌ... وموقف..!

عندما وُضِعَتْ مخطوطاتها في ميزان النّقد...سألها الناقد عن فحوى ما كتبَتْ..

قالت:

 كتاباتي رجعُ أصداء لصُراخي في مغاراتِ اليأس...تيهٌ وظلامٌ وخفافيش...وصرخاتٌ موجعة في سراديب البحثِ عن الذات..سبرُ أغوارٍ..وكشفُ أسرار..ولاصوتَ إلا لأجنحة ِ الخفافيش الكفيفة تلطمكَ أنّى اتّجهت..عمياءَ ولكنها قادرة على الطيران..تحومُ وتحومْ..تجرحكَ وتسعد بجراحاتها..لماذا؟... لأنها ستدلكَ حتماً إلى النور..وإلى المخرج من تلك المغارة الرّهيبة...أصيحُ الآن في مغارتي ولا أحدَ يسمعُني..وأخاف أن أخرجَ إلى النور فيصبح صوتي مسموعاً..ومكاني معروفاً.

قال:

 كلامٌ جميل منتقى بعناية!..لكنّي أرى كتاباتك ِ رصفُ كلماتٍ لا معنى لها...خربشاتُ فنانٍ تشكيليّ مخمور...يدّعي أنه يصطنعُ لوحةً..ويتعثر عندما يبحث عن عنوانٍ للوحته..فيخلط الحابلَ بالنابل وتضيعُ عندَه حدودُ اللون..في امتزاجٍ سوريالي فريدٍ من نوعه..أعطني – لو سمحتِ - عنواناً لما تكتبين..أظنك ستعجزين عن وضع ملخّص أو خلاصةٍ لموضوعكِ..أنتِ تمتلكين ناصية اللغة بحقّ..ولكن يحار جوادكِ في أي اتجاه يسلك...تنهزينه يميناً تارة..وترهزينه يساراً طوراً..حتى يحار في أمره..فيستطيب له الجمود في مكانه منتظراً أوامرَ أكثرَ وضوحاً.....حار جوادكِ في تخبّطكِ الغريب.. وضاع قارئكِ في تطيّركِ المُريب.

قالت:

 أفكاري تتهطّل عليّ كتهطالِ المطر فوق أرضٍ مجعّدةِ السّطح...ولا ميولَ لها..لذلك يتجمّعُ مطري بركاً ولا يسيل كجدول ولا يأخذ شكل السيل..فكلماتي تأبى أن تجري في اتجاهٍ ما...لأن صاحبتها تخشى أن تحدّدَ اتجاهها يميناً أو يساراً..فكلّ اتجاهٍ عندنا محسوبٌ علينا وثمنهُ مدفوعٌ سلفاً...وأنا مستقلّة ولا اتجاهَ لي..ولا أقبل دفعا أو جذباً..فأرصفُ كلماتي القادمة من اللاوعي..وتأخذ منحى اللااتجاه..فينتج موضوعٌ في اللامعنى..ويكون عنوانه بلا عنوان.
يبتسمُ الناقد..ويقول:

 وأنا سيكون جوابي..لا تعليق!..أنتِ خائفةٌ من وقعِ أقوالك..وتهابينَ الاصطفاف خلفَ تيارٍ ما..فتلبَسُ كتاباتكِ قناعاً مزيفاً لن يحميكِ في النهاية..لماذا؟... أظنك ستسألين..وها أنا أجيب...من كان منا بلا اتجاه يسهلُ نعته بأية صفة...وتلبيسه أي لبوس..وتلوينه كما يشاء الغير..فيلصقونَ به أية تهمة..ولا من أحد سيبكي عليه...وفي النهاية ستبقى كتاباتكِ على قارعة الطريق..فلا محبّذَ ينشرها ولا مستنكر يدحضها...فيجفّ حبرها وتتطاير أوراقكِ في مهبّ الريح...فالكاتب يا بنيتي بحاجة لجمهورٍ يصفّقُ له ولو لم يقرأ..بحاجة لقبيلة يتكنّى بها..فيغزو إذا غزت...يتغنى بسجاياها..ويندب سباياها...يكفي أن تكوني من بني طي فتصبحين كريمة..أو يكون جدّكِ الجاحظ فتصبحين بخيلة.. اختاري نهراً جارفاً وصبّي كلماتكِ فيه وسيري مع التيار ولا تغرّدي خارجَ السرب..أنا سأعطفُ عليكِ وأصفكِ بالحياد الإيجابي..فلا تكوني من مجموعة عدم الانحياز.

 لماذا وهل أنت ناقدٌ منحازٌ الى طرفٍ ما؟

 لو لم أكن منحازاً لما بقيتُ ناقداً..

قالت بتوسّل:

 أرجوك..دُلّني على النهر الجارف لأسيرَ في سياقه وبين ضفّتيه..لأجري مع التيار..فيجرفني النهر العاتي..وتظهر إلى النور كتاباتي..كم أشتاق إلى رفع صوتي عالياً بين الجموع على وقع المياه الهادرة.

مضت أيام وأشهر وسنوات..كانت الشاعرة خلالها تكتب وترمي أوراقها في النهر العظيم..نهرٌ لا تقوى عليه السّدود..ولا ينتقده ناقدٌ ولا حسود...ولم تفارق ضفته..تكتب وتصغي علّها تسمع صوتها مدوياَ في سياق التيار..حتى ضاق ذرعها وملّتْ..وفاض صبرها وطار صوابها..على الأقل كانت تستمتعْ برجع الصدى لصرخاتها عندما كانت محبوسة في المغارة..أما الآن وقد أصبحت كتاباتها في سياق النهر العظيم..فلا تسمع إلا صوت الخرير.

قالت موجّهة كلامها إلى النهر:

 نصحني الناقد بأن أدلي بدلوي في تياركَ أيها النهر الخالد..وها قد مضت سنوات ولم أسمع صوتي يهدر بين طيّات أمواجك..فبالله عليك إلامَ الانتظار؟

فاض النهر قليلاً..وأرغى وأزبد... واضطرب سكون وجهه وقال:

 ذلك الناقد أوحى إليك أن تذوبي مع التيار الجارف..طلب إليك الانصياع والالتزام بالسير بين الضفتين..ومع التيار...فلا يبقَ لكِ صوتٌ ولا صورة.. شعرائي اليوم صوتهم كصوت السّمك السابح في حوضي...أي لا صوتَ لهم..يسبحون ويتخبّطون وينزلقون..وشعرهم منحلّ في مياهي...وكبيرهم يأكل الصغير..وبعضهم يقع في شبكة الصياد لو رفع رأسه قليلاً...وبعضهم يتخفّى تحت الطمي المتراكم عند الضفاف..ومن جدّف ووصل الى المنتهى..سيصل الى البحر..وهناك إما أن يلتزم بشرع البحر الواسع..أو يتلقفه الحوت الجائع....فلا صوت يُسمع في تياري إلا صوت السمك..

 ولكن أين ذهبت أوراقي وكتاباتي الكثيرة التي اعتصرتُ فيها أفكاري؟...أودّ استعادتها لو سمحتم.

قال النهر:

 نحن نحلّلها كما قلت..نزيل منها الرواسب..نُقصي منها الروائح غير المناسبة..نعيد صياغتها لتصبح صالحة للشرب..فتسري عندها مع التيار..أما الصوت فلا صوت عندي إلا صوت السمك...مهما كبر حجمكِ أوتصلبت حراشفك ِ...شعرائي لا موقفَ لهم لأنني لن أتوقف عن سيري..ومن أراد الظهور أوالتوقف أو الوقوف.. سألفظه من مياهي..جيفة عند الضفاف الموحلة...استمتعي بالخريروالهدير....فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى