السبت ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٢٥

شخصيات «أموات في متحف الأحياء»

زهير ياسين شليبه

حكايات نبال عن مآسيها!

بعد أن سلّطنا الضوء في القسم الأول من دراستنا عن هذه الرواية على البنية والسرد، نكرس مقالنا الحالي عن شخصياتها المنكوبة كحال بلدانها التي تركوها مضطرّين!

هذه الرواية مكرّسة لبعض الأبطال الحقيقيين (بروتوتايب (prototype يعرفهم قسم من القراء، لكنهم يصبحون مجرد مصائر أدبية واقعية، وهنا تكمن قوّة إلهامها وجاذبيّتها!

عند مرور العائلة السورية بمعيّة الراوي أمام تمثال غريب لامرأة بملابس بالقماش المزركش ينتصب على قاعدة بلاستيكية" في مطعم مكسيكي، قالت نبال وكأنها تتنبّأ بمصيرها لتشرح لنا "أليغوريّتَها" ولتؤكد موضوعة الرواية الواضح من عنوانها "ها هي المرأة تشبهني أنا مثلها ميتة، هيكل عظمي يعيش في هذه الحياة..."، ليعلّق الراوي قائلاً "ما أثار عجبي أنني تذكرت ذلك الكابوس المرعب الذي رأيته في بيت مرتضى، وها هي نبال تعيده على مسامعي". ص 150-151
في فصل "لوفان تغني في رأسي" يُصوّر الكاتبُ الناسَ في أجواءَ جميلة، غناء وموسيقى "وكؤوس البيرة"، و"سيقان بيض" ويقول الراوي "في ليلة يختلط فيها الماضي بالحاضر... تجمّعنا في الأخير على دكّةٍ تطلُّ على الساحة، وصادف أن جلست نبال جنبي... قالت لي هامسةً فجأةً، بعض جماعتنا يتهمون الغربيين بالعنصرية لكنني أرى الأمر عكس ذلك". ص 152
وتسردُ نبال على مهلها وطريقتها، أحياناً على شكل دفعات أو دفقات، تبدأ بالمكان والزمان، هنا يختلطان في البار، والمقهى. نحن في فترة انتقال الزمان من وجودها في مصر وسوريا.

تتبيّن بنية سردية نبال بوضوح من ملخّص الراوي أو "جديلته" السردية المفتولة بإتقان وبلا افتعال عن "حكاية" تهريبها من سالونيك إلى بلجيكا، كأنها شهرزاد، قالت طلبت منها الفتيات الإسبانيات، بنات الأندلس صوراً شخصيةً، لتزوير الجواز، من سالونيك إلى مطار شارل رواه البلجيكي، حيث حصلت على صورة واضحة، كان المفروض أن يدفعوا للمهرب 5000€ لكن البنات اللاتي يشتغلن في هذا المجال ساعدنها!

تنظر نبال لهن نظرةً إيجابيةً ولا تفكر بالعنصرية، ولن تنسى موقفهن النبيل تجاهها! ص158-154

وهذه مجازفة خطيرة جدا على مصيرهن كونهن موظفات يشتغلن في هذا المجال!

الراوي، هنا أيضاً، هو الذي يسرد عملية تهريب نبال، أو يلخصها كما ذكرتُ، "وهكذا حملن حقائبها ودخلن المطار"، ليس هناك حوار كونها انتحلت شخصية فتاة خرساء (نورا)، وعليها نسيان اسمها الحقيقي، ولهذا اتجهن مباشرة إلى الطائرة، ونبال لا تزال تحت تأثير الصدمة. أنظر ص 157-154

لكن في منتصف الحديث، يقول الراوي "فكرتُ وأنا أصغي إلى حكايتها، ودموعها العاكسة لأضواء الشوارع والواجهات الزجاجية. ولم تصدق بكل ما جرى إلا حين عانقت أختها لميس في مطار شارل رواه". 157

لاحظ هنا موضوعة الحنين (أبناء شرق واحد) في الغربة الدائمة، تجمعهم معاناتهم دوماً ويحملون على أكتافهم "صليبا ثقيلا لعشرين سنة من الدمار". ص158

نبال تجسيد لحال المرأة المضطهدة في البلدان العربية!

نقرأ عن تفصيلات معاناة نبال في تركيا، فهي امرأة عربية في الغربة المجهولة بالنسبة لها، كيف ستحصل على عمل وكيف يحاولون استغلالها جنسيا وتبعات رفضها ذلك. ص 64

بدأت تشتغل عند أحد أصحاب المطاعم ويملك شققا يؤجرها، بدأ، كالعادة، يتحرش بها جنسيا واقترح عليها خلال ذلك ونتيجة لشحة الراتب ومعاناة الوصول والرجوع مساءً، تأمين سكنٍ لها في غرفة بإحدى الشقق، لكنه كان يريد ابتزازها وتحويلها إلى عاهرة.

من المؤسف أن هذه الجرائم لا تزال مستمرةً، بل ازدادت، وصارت تشمل القاصرات رغم كثرة الحكايات والقصص وسيناريوهات الأفلام الوثائقية في القنوات التلفزيونية العالمية التي تفضح استعباد النساء!

إذن هنا هو أيضاً موقف الراوي المناصر للمرأة، فهو ليس سارداً عليماً عادياً يتطلبه تكنيك السرد فحسب، بل إنه راوٍ متوائم ومتماهٍ أحياناً مع الكاتب، ولهذا وكما اشرت سابقاً أنه هنا "صورة الكاتب" فيقول "ونتيجة لخبرتي رحت استوعب ذلك ...". ص 65

مرتضى:

تتميز هذه الرواية بتنقلات الأبطال مكانياً وزمانياً، يتحرك الراوي مسافراً إلى بلاد غريبة أخرى حيث يقيم صديقه الفنان التشكيلي مرتضى المقيم في مدينة لوفان ويزوره هذه الأيام، ويشعر القارئ أن لسان حالهما يقول إنّا غريبان ها هنا وكلّ غريب للغريب نسيب! فالراوي عند تنقله مع مرتضى يصف طريقة تجوال مرافقه في الدروب الجبلية، يمرُّ "مرتضى بعد الغداء على الغابات القريبة بدروبها الضيقة ورطوبة حشائش البرية وتأمل في الكنيسة المقابلة لبيته وتلك الزخارف التي يراها كل صباح بلونها النابض وهيئة مختلفة كما أكد لي". ص 29

يقصُّ الراوي حكايته عن مرتضى، يقول إنه حدّثه عن اليأس الذي صار جزءًا مهما من حياته، وقال إنه لم يعد "يؤمن بالوطن، والعلاقات الاجتماعية والهدف من هذه الحياة الجرداء". ص 34

يصفُ الراوي الفنان التشكيلي مرتضى "إنه يختزن ألوان البضاعة والفواكه والأعشاب والورود ووجوه النساء" ويتحدث في هذه الصفحات عنه أثناء إقامته في دمشق حيث يختلط المكان بالزمان، ويسرد عن نفسه وحياته حيث يعود إلى مستقرّه "السابق في كوبنهاجن". ص 13-14

يعاني مرتضى، كأكثر المبدعين من اللاجئين العراقيين بالذات، من الصدمات النفسية، التي أشرنا إليها، ويبحث عن وطنه الذي فقده وصارت لوحاته ملاذَه هرباً من انكساراته وإحباطاته ومطبّاته وحنينه لوالدته التي فقدها منذ طفولته.
يقول الراوي عن مرتضى بأنه "يعرف المدينة بشكل جيد ... أمام المحطة ... وتأمل لحظات عند المحطة التي قال لي "إنهم دونوا عليها أسماء القتلى الذين سقطوا من بين أبناء مدينة لوفان في الحرب العالمية الثانية". ص 40 وكأنه يشير إلى مصير المغتربين هو الرحيل والغياب بأي شكل بغض النظر عن الطريقة وسيبقون أغراباً أو حتى مجرد "قتلى" في مماتهم.
نصير:

يتركُ الشهيد العراقي المغترب نصير، "وطنَه" الثاني بلجيكا وزوجته البلجيكية في لوفان مع ابنه عائداً إلى بلده ليعمل مستشاراً ثقافياً، لكنه يُقتل فيه على طريق محمد القاسم السريع بسبب نشاطاته الثقافية العلمانية التي لا تعجب القوى المتطرفة، فقتلوه وراحت سنين عمره وعلمه وشهادته العليا هباءً منثوراً. ومن يدري؟ فقد يعدّه قتلَتُه خائناً متعاوناً مع المحتلين!

نصير: باصات المعرفة!

عُيّنَ نصير مستشاراً في وزارة الثقافة والتقى الراوي به هناك في فصل "باصات المعرفة". ص 142

‏هنا في "باصات المعرفة" يصور الراوي شخصية الشهيد نصير محاولاً تحقيق حلمه مستلهماً رواية الإسباني كارلوس زافون "مقبرة الكتب المنسية" بأربعة أجزاء، لبناء مقبرة من حروف خاصة بالمثقفين الراحلين بعيدا عن بلاد النهرين. تتميز لغة الروائي هنا بالأسى والحزن والألم، والإحباط بسبب الوضع الثقافي البائس. ص 143

يسخر الكاتب من السياسيين الفاسدين، حيث سيتنافسون على مكان بارز في مقبرة المثقفين منذ حضارة سومر حتى الألفية الثالثة، والمفترض أن توفر وزارة الثقافة الباصات ليزورها السيّاح. ومن سخرية القدر أن الروائي يقول "لكن من شبه المؤكد أن معظم البرلمانيين، والوزراء لم يسمعوا برموز الثقافة. ...وإن سمعوا فلم يطلعوا على موجز ... فهم يتمنون لهم رقدة أبدية في المقابر الباردة حيث هم. لم لا، كانوا منزعجين لهم أثناء حياتهم، سيكونون منزعجين لهم بعد الممات، ...". ص 145

مرة ثانية يسخر الراوي، يقول هناك ناس مثل لميس ونبال وسام يهربون من بلدهم وهناك شخص مثل نصير يعود إليها لكنه عندما يُقتل!

والسارد العليم، الراوي اللاجئ، يقصُّ علينا بحزن وألم وإحباط حكاياتِ أبطاله المنفيين بلا ذنب اقترفوه غير رفضهم أن يكونوا جزءاً من ماكينة الحروب وسلب الإرادات!

ويصف الراوي هنا مرتضى، محاولاً الدخول إلى عالمه، وطريقته بالرسم والتعامل مع الوقت، ينام نهاراً، يرسم في الليل، يدخن باستمرار سيجارته المطفأة دوماً. ثم يدخل إلى عالم اللوحات والألوان، وبالذات موضوعة "الهوس بالنساء"! لنقرأ ما يحكيه لنا "...وصديقي مرتضى لا ينام في الليل ... يقضيه في الرسم... يريد أن ينهي رسالته قبل الموت...السيجارة الصغيرة لا تفارق شفتيه...ذلك النوع المسمّى توسكانو الإيطالي. ص 46

وعالم مرتضى الداخلي متقلب، يقول الراوي "رأيته أكثر من مرة عند دخوله إلى الصالون ممدداً على الأرض مقابل لوحاته". ص 52

هل يعبّر الفنان عن معاناته الفنية وقلقه تجاه بلده، وبالذات المرأة الوطن فلا يجد ملاذاً له غير الرسم؟

يشرحها لنا الراوي من زاويةٍ لها أهميتها في فهم عالم مرتضى الداخلي، قائلاً "المرأة حالة تعبيرية، معاناة مرتضى من الطفولة ولهذا هو يبحث عن الأنثى، فهمتُ من صديقي مرتضى انه يفتقد إلى حنان أمه". ص 51

ويعود الراوي إلى مرتضى، الذي كان يحلم بالإقامة في سوريا ليؤسّس متحفاً، لكن حلمه لم يتحقق، ظلّ يراوده مثل أغلب المبدعين اللاجئين الذين خذلتهم حكوماتهم وعاقبتهم بشتّى الوسائل لأنهم بنظرها منشقّون.

يهتم الراوي بشخصية صديقه مرتضى، يصفه بدقّةٍ منتقداً تعامل السلطة مع المثقفين غير المنتمين لحزبها "الرافضين":
طفولة وبراءة وجه، لكنه في النهاية مصدومين، يذكر جانبا معينا من حياته عندما تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة، أرسلته حكومته إلى جبهة الحرب مع إيران كي يعيش مع المقاتلين ويرسم بطولاتهم. "هل يمكن أن يتحول مبدع كبير مثل مرتضى إلى رسام جثث وأشلاء؟ وأسلاك شائكة؟ تلك التجربة هي التي دفعته للهروب من البلد كله". ص 111
سيكون من غير الطبيعي أن يخرج الفنان أيّاً كان من هذه التجربة القاسية المريرة، بدون صدماتٍ وأن هناك لاجئين فنانين كثيرين مصدومين نفسياً بسبب قسوة طفولتهم وصباهم وشبابهم، بالذات في ظل الحكومات الدموية، لا يمكن أن تمر بدون أن تؤثر على نفسياتهم. ‏

لدى مرتضى الفنان والإنسان المعذب أيضاً ما يبوح به من حكاياته عن حياته الخاصة، ومعاناته كغريب في مجتمع كان جديداً عليه، لكنه يواجه أيضاً حتى الآن تصرفات عنصرية، في الشارع يعرفها المغتربون، يتذكر الفترة الأولى وصعوبة حصوله على سكن، لولا مساعدة ماريانا وجو، وتجمعه حتى الآن علاقة خاصة بها. ص 115

يقول مرتضى "أنا قريب من المرأة، أدعو إلى تحررها ... لأنها تمثّل لي الوطن، الأم، الرقّة، الخلق المتجليّة في جسدها". ص 113 يقول الراوي عن هذه الموضوعة " لوحات مرتضى النسائية لا تخرج عن إطار تلك التي عرفها صغيراً...أمّه، وذلك الهوس برسم المرأة يؤكد تلك الحقيقة". 122

ويكرر الراوي أحاديثه عن هوس مرتضى برسم المرأة تعبيراً عن شوقه إلى أمه. ص 122

صار الراوي يمزج حواراته التي تجسد أفكارا شخصية مستخدماً الحوار المباشر أحياناً طارحاً الأسئلة بعض المرّات كأنه صحفي، يسألُ بطلَه (إيقونتَه) الحاضر الغائب في عالم المنسيين المهمّشين بعيداً عن وطنه: "تقول إنك تعيش عزلة شبه مطلقة حتى المدينة لم تعد تتواصل معها فكيف تشحن خيالك الفني؟ ص 160

زهير ياسين شليبه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى