شياطين الشعر

كثيرا مانسمع عن شياطين الشعر، ذلك ان الشعراء لا يقولون الشعر من تلقاء انفسهم او من قريحتهم الخاصة، بل يدخل جني او شيطان هو الذي يلهم الشاعر الشعر والقصائد، فيصبح عندها المتلقن مسحورا، فهو من ناحية بشري /انسي لكنه من ناحية اخرى جني/ساحر، وطالما اعتبر التراث العربي الشاعر مسكون من قبل الجن بل من قبل جنية الشعر، ولا يزال الى الان يقال عن المجنون بانه "مسكون".

ان ما يسكن الشاعر هو الجنية او الجني المؤنثة .فهي تتجسد في الشاعر الإنسان وتقيم فيه، والسؤال هو: هل ان منع المرأة من قول الشعر هو الذي حولها الى جنية، تلقن الشاعر الرجل الشعر خفية حيث من غير المسموح لها العلانية؟، ام ان المرأة هي الوحي الدائم للشاعر، وقد تحولت الى ملهمة جنية له؟

ان الجنية او "الحليلة" هي التي تنشد الشعر على لسان الشاعر، لكن الناس يحيلونها له، ذلك ان الجنية تحول الشاعر إلى مسحور يردد ما تمليه عليه، لكن الشاعر ايضا يستحثها على تزويده بالمطلوب خصوصا في المناسبات.

الجنية الحمراء أكثر شيطنة من غيرها. والجنية هي غير الشيطان. شياطين الشعر هم شياطين الجنة لا النار، الحب لا الحقد، الحرية لا الاستعباد حين ادعى المتنبي النبوة، لم يفعل ذلك طواعية، بل استجابة لشيطان أو جنية كانت تسكنه باستمرار .

وقوة الشاعر من قوة حليلته، انها تقيم فيه، وهو وحده يعرف شكلها وصوتها وملامحها، وتتميز بالاخلاص له فلا تخونه مع غيره من الشعراء. لكن عمر الجنية وسنها لا تقاس بسن الشاعر، فقد يكبر الشاعر في السن وتظل جنيته صغيرة، هي خارج تعداد السنون البشرية، انها خارج الزمان وخارج المكان، لا تسكن الا في قلب الشاعر الذي اختارته من بين جميع الناس، لكن لا يمكن البوح عنها باي سر والا فارقته دون رجعة.

اما "وادي عبقر" الذي اشتقت منه كلمة عبقري، فهو مسكن جنيات الشعر، حتى يقال ان من امسى ليلة واحدة في هذا الوادي، جاءته جنية الشعر تلقنه الاشعار، واذا كان اهلا لها تحل فيه فتنتقل معه الى حيث يقيم.

ومن حكايات الشعراء مع الجنية التي توحي لهم بالشعر قصص عديدة لا تزال اثارها الى الان في المعتقدات الشعبية، ولا شك ان براري ورهبة الطبيعة في الجزيرة العربية هي التي شحذت الفكر والقريحة التي نسبها الانسان الى شيطان الشعر.

تروي قصة للفرزدق الذي كان عليه ان يرد على احد خصومه...لكن، كانت ساعة جمود قريحته فاضطر الى شحذها على الشكل التالي قال: "اتيت منزلي فأقبلت اصعد واصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم او لم أقل شعرا قط، حتى نادى المنادي بالفجر فرحلت مع ناقتي، وقد فقدت زمامها حتى اتيت ريانا وهو جبل بالمدينة، ثم ناديت باعلى صوتي: اخاكم اخاكم ابا لبنى يعني شيطانه، فجاش صدري كما يجيش المرجل ..ثم عقلت ناقتي وتوسدت ذراعها فما قمت حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتا"، على انه كان في كل مرة تخونه قريحته وصعب عليه الشعر ركب ناقته وطاف خاليا منفردا وحده في شعاب الجبال وبطون الاودية والاماكن الخربة الخالية فيهبط عليه وحي الشعر.

وللشعر شيطانيين يدعى احدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، بل اكثر من ذلك انه سمي شيطان كل شاعر باسم خاص فكان شيطان الاعشى مثلا يسمى"مسحل" وقد قال فيه: دعوت خليلي مسحلا ودعوا له جُهُنَّام جَدْعا للهجين المذمم.

و ذكره مرة أخرى فقال:

وما كنت ذا خوف ولكن حسبتني

إذا مسحل يسدي لي القول أنطق

شريكان في ما بيننا من هوادة

صفيان إنسي وجني موفق

وهنا لا نستطيع التمييز اذا ماكان شيطانه انثى، لان العرب درجت على تذكير المؤنث في الادب.

ومن الاخبار الطريفة التي اعتقدها البعض ان مصدرها شياطين الشعر، من ذلك ان رسولا من بشر بن مروان جاء جريرا فدفع اليه كتابا وقال له: "انه قد امرني ان اوصله اليك ولا ابرح حتى تجيب عن الشعر في يومك ان لقيتك نهارا او ليلتك ان لقيتك ليلا". واخرج اليه كتاب بشر وقد نسخ له القصيدة وامره ان يجيب عنها.

فاخذها ومكث ليلته يجتهد ان يقول شيئا فلا يمكنه –قالوا- فهتف به صاحبه من الجن من زاوية البيت فقال له: "ازعمت انك تقول الشعر ما هو الا ان غبت عنك ليلة حتى لم تحسن ان تقول شيئا فهلا قلت:

يابشر حقًّ لوجهك التبشير هلا قضيت لنا وانت أمير"

فقال له جرير :" حسبك، كفيتك" وما زال حتى اتم القصيدة .

ذكر عن كثير عزة انه قال: ماقلت الشعر حتى قولته، قيل له وكيف ذلك؟ قال بينما انا يوما منتصف النهار اسير على بعير لي بالغميم او بقاع حمدان اذا راكب قد دنا مني حتى صار الى جنبي فتأملته فاذا هو من صفر وهو يجر نفسه في الارض جرا، فقال لي: قل الشعر، والقاه علي، قلت من انت ؟ قال انا قرينك من الجن، فقلت الشعر...

ومما يروى من الاساطير المرتبطة بقصص الجنية أن أحد المسافرين مر ببحر ووجد امرأتان تغترفان من ماءه وحين سألهن عن سبب اغترافهن للماء قالتا له أن فلانا يرتجل قصيدة في موقف معين ونحن نغترف له الكلمات من هذا البحر المتلاطم الأمواج، وفور عودة ذلك المسافر حدد اليوم والوقت وتم تأكيد صحة الحدث من ان المعني كان يقول قصيدة مرتجلة في مناسبة من المناسبات.

لذلك لن نعجب اليوم ان نرى الشعراء يفخرون بجنيتهم وملهمتهم في قول الشعر فليس الامر محل خجل ابدا بل على العكس.