الثلاثاء ٨ آب (أغسطس) ٢٠١٧
(الجزء الثاني)
بقلم هاتف بشبوش

صادق الزعيري حين يكتبُ على الأرض

يظل القلب يحب ويتماهى في الحب لأرضه أو لحبيبته و لا يعرف متى يتوقف كما نقرأ أدناه من نفس النصوص القصيرة:

سيدي القلب
الى أي زمنٍ
تظلّ تحب

الشاعر صادق هنا عاشق في حالة نفاذ الصبر وإمتحان الإنتظار، ولكن أي نوع من العشق هذه المرة، هو عشق الناس والنضال في سبيل نيل الجميع لحياتهم الحرة الكريمة في المأكل والملبس ولذة الإشتراك في كل شيء حتى تحقيق الإشتراكية التي ينشدها الشاعر في أبياته المطرية الهاطلة:

أيتها الغمامة البيضاء
إذا لم تمطري على الجميع
غادري سمائي فورا

في الفيلم العالمي الشهير يوم الحساب من تمثيل الممثل الذي دخل عالم السياسة وأصبح حاكماعلى ولاية كالفورنيا والذي يدعى (آرنولد شواردزيغر). الفيلم في أحد أجزائه تدور فكرته في كوكب المريخ حيث يمتلك الهواء أحد الرأسماليين الجشعين فيقوم بالتحكم بأرواح الناس عن طريق بث الهواء لهم أو قطعه وحبس أنفاسهم، وبهذه الطريقة تتجلى لنا معاني الإحتكار وكره الناس بأبشعِ صوره. بينما الحب الذي ينشده صادق هو تلك الغاية التي لايدركها الا الذين عافوا الدنيا وغنائمها وهذه نراها واضحة في قلب الشاعر صادق لافي قلوب الملوك والطغاة كماهارون الرشيد الذي قال(أمطري أينما شئت فسوف يأتيني خراجك). حب الناس هو العقيدة التي يتزيّن بها الشاعر صادق ولذلك راح يرثي صديقه الدكتور ناجي كاشي الغرائبي المسرحي والشاعر المنكوب لما في رحيله من تراجيديا أحزنت الكثيرين ولما في قلب الشاعر صادق من حبٍ عظيم لهذا المسرحي. لنر الشاعر بخصوص هذه الفجيعة في نص (ياناجي...لماذا لم تخبرنا عن رحيلك):

ياناجي...نحنُ المفجوعينَ بخطفكَ
سنجيء اليكَ واحداً بعد واحد
قلْ لي
هل في الأرضِ متسعُّ
أم ترانا نموت بدون قبور
.................
أنت شهيدُ
سيقيمُ المغدورُ صديقك
كاظم وروار وليمة موتك
.....................
ياناجي..أحزاني ذات خمسة نجوم
آلامي بحجم البحرِ الميت
آه
من دكتاتورية هذا الموت

حين يأتي الموت على حين فجأة فهو جميل، لأن الميت لايدري ولايشعر بما خلفه، أي سيصبح عدماً بعد ماجاء من العدم، ولكن حين يكون الموت قرارا كما اتخذه الروائي الشهير همنغواي حين وضع البندقية في حلقه فهو صعب للغاية، وحين أتخذه يسنين وهو يودع امه منتحرا فهو الأصعب أيضا، وآنا كارنينا في رائعة تولستوي التي أتخذت من سكة القطار خلاصا أبديا فهو الأصعب مرات ومرات، ولكن موت غادة الكاميليا بطلة الكسندر ديوماس التي نخر بها المرض نخرا عشقياً مميتا، فكان الموت لها راحما وخلاصا من كل عذابات الحب وإرهاصاته. ويبقى المرء معذبا على الدوام في التعبير الهوميروسي أما التعبير الديني فالإنسان من بلاء الى بلاء، وبين هذا وذاك يبقى المرء في شقائه ضعيفاً وما من معين.

الحياة تمضي بنا دون ان نعرف حتى اذا عرفنا نجد انفسنا كما الناي الذي يطرب ويقسّم اللحن ويُبكي الآخرين و يريح النفس الحزينة والعليلة. لكن من يعرفه عند الإنكسار والتحطيم والهلاك والموت ؟... هكذا نحن بني البشر المتمارد حين تجف أوصالنا بعد ان كانت تدق، نموت مجهولين وسط زحمة هذا الموت المليوني الذي لاحصر له ولاعد... فمن اين جئنا والى اين نمضي... وماذا كنا نفعل هنا في هذه الارض اذا كنا سنرحل غير مأسوفٍ علينا عدا من قلة قليلة ضئيلة تنحصر في العائلة والصديق ان وجدوا. أما موت ناجي كاشي فينتظر وليمته التي ستقام له من قبل صديقه الشيوعي الشهيد كاظم وروار المذكور في بيت القصيد أعلاه الذي شبع موتا منذ أكثر من ثلاثين عاما وهو يدافع عن وطنه في شمال العراق والذي بصق في وجه جلاده قبل موته فكان تحديا صارخا وشجاعا أصبح مثلا يضرب في قوّة الشهادة والصمود.
ناجي كاشي كتب عنه الكثيرون ومنهم أنا صاحب المقال الذي قال بحقه:

ياسيّد الصداقةِ المؤججِ بطهرِ دماه
لقد بنيتَ مزاركَ فينا
يا أيها المسرحي المُحب
شيّدنا أمارةَ الدمعِ في المنفى
قربَ كنائسهِ القديمة

الشاعر صادق بكى على صديقه ناجي كاشي بكاءً توثيقياً كي يبقَى إسمه مسافراً في محطات التأريخ. موت ناجي خلق البكاء بين محبيه وناسه لمافيه من الإبداع وحب الآخرين، بكينا عليه وهذا ديدن العراقيين في البكاءِ منذ سومر وبابل، فلاغرابة أن نرىَ الدمع يترقرق من عيني صادق في نصه الموسوم (البكاء بين يدي الوطن):

بإسم الله
نذبحُ يوميا هذا الوطن
الواقفَ كالنخلة
والخانعَ كالإسفلت
........
وطني إمراة تصرخُ
في صوتٍ عال
قدامَ العالم
لا أستثني احدا
الكلّ يرومُ مضاجعتي
..................
وطني..... هل صارَ شجيرة موز
الكلّ يبغي تسلقها
...........
وطني....قميصهُ
قُدّ
من قُبُلٍ ومن دُّبرٍ

(كل جراحةٍ فلها دواءٌ... وسوء الخلق ليس له دواءُ....... علي بن أبي طالب)
بنى لينين الإتحاد السوفيتي من العدم ورحل ووجدوا في جيبة ستة روبلات فقط. هزم ستالين النازية ورحل بلا بيت وبقيت إبنتة (سفتلانا) تعيش في بيوت الإيجار بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي.

جوهر الموضوع هو أن هؤلاء لم يتربوا فكريا ومعرفيا وثقافيا واجتماعيا على فكرة أخلاق الغنيمة كما سياسيونا الذين تعلّموا من أسلافهم فيما مضى في تقاسم الغنائم. حتى النساء كانت توزع على المحاربين بإعتبارها غنائم ولذلك اليوم ماحصل من سبي للأيزيديات من قبل داعش لهو الفكرة ذاتها التي تبنوها من الفكر السلفي الذي في أدمغتهم. بينما عنتر بن شداد العبسي الأبي الجاهل كان يقول (يسألكِ من شهدَ الوقيعة إنني...أخشى الوغى وأعفّ عند المغنمِ). إذن هي ألأخلاق التي تردع المرء وتعلّمه في أن يحيد عن السرقة مهما كانت بينما اليوم في عراقنا السليب وكما قال الشاعر صادق اصبح مثل شجيرة موز حتى القرود تتسلّقها كي تحصل على موزها المجاني. فما الذي قدمه المسلم المؤمن لبلاده غير القتل والجهل والتخريب. فهل هذا وطنُّ أم مبغى؟.

الشاعر صادق شبه الوطن مثل إمرأةٍ تصرخ والكل يريد مضاجعتها وهذه تشبه ما أخبرتنا به رواية الإخوة كارامازوف الشهيرة وما حصل (ليزافيتا سمردياشا) البنت المعتوهة الخرساء التي تجوب الشوارع و التي يجدونها حبلى فتولد وهي تصرخ وتموت ووليدها بالقرب منها ولم يعرف أحد من إغتصب هذه المجنونة المسكينة فتذهب ضحية المجتمع وتصرّف الرجال البشعين.
يستمر الشاعر في الحديث عن الوطن القتيل وعما حصل من إنفجار في شارع المتنبي من قبل أعداءالكلمة في نصه المدور والمفتوح (المتنبي يقتل ثانية):

(في سوق الوراقين يغتالون الكلَمَ الطيب حتى لانرث لسان ابن السكيت البغدادي...حتى لانولد من رحمِ أفكار ابن الرشد..حتى نصلب مراتٍ اخرى فوق صليب الحلاج..حتى يصدأ سيف حسين بن علي...)

ثم يقول:

أسألُ كم قاتلُّ في هذا الزمن الأردأ
يطعنُ فكراً مغدوراً
انّ الحرفَ لايقتلُ سهواً في وطني

لا ليس سهوا يُقطع لسان إبن السكيت من قبل الخليفة المتوكل في قصة شهيرة نظرا لدفاعه عن الحسن والحسين وهم أطفال ومفاضلته لهم على أبناء المتوكل في جلسة سكرٍ جمعت الخليفة المتوكل مع صديقه الحميم اللغوي ابن السكيت. ثم المجرم صلاح الدين الأيوبي وحرقه لكل كتب الفاطميين عند إفتتاحه مصر وسقوط الدولة الفاطمية. بل عزلَ الرجال عن النساء لكي لايتناسلوا. ولهذا لم نجد اليوم من نسل الفاطميين في مصر بعد إن كانوا أمة بحالها، فأينها هذه الأمة.....هل تبخرت؟.

يستمر الشاعر في بوحه الشعري وهذه المرة يصف لنا الشعر نفسه وكيف يتأتى له دون أن يطرق بابه بل يأتيه على حين غرّة. لنقرأ بصدد ذلك أدناه من نص (إنه لص):

الشعرُ لايخجلُ مني
يضاجعُ ورقي دون إستئذان
يأمرُ قلمي أن يكتبه
......
حتى ان أغلقت الأبوابَ لامهربَ منه
يكسرُ نافذة الفكرة
ويدلق محبرتي قسرا فوق سرير الطرس

الشعر بشكل عام هو الرغبة في حياة بلاموت وبما انه ليس أكيداً من أنّ هناك حياة اخرى، فالشعر أخبرنا بأنها حياة رائعة.في الشعر نستطيع انْ نجد كيف انّ اللغة واللسان هما عضوان فعالان. أنه كلام الشاعر النابع من نهر خياله والذي يصب في محكمة العقل أنه الأسمى من الآيديولوجية أنه الإنفعال المنبعث من الروح القلقة أنه الجنون الإبداعي و الباكي حرقة ًوألماَ على المصير المفقود والضائع لبني الإنسان. في الشعر نتساءل ولم نتوقف عن السؤال حتى لو لم نحصل على إجاباتنا ولأن البوح ينبع كالنهر فانه لايتوقف عند مصب بل سيظل جاريا متحركا بأمواجه العاتية ولذلك الشاعر صادق يستمر في التساؤل دون توقف مثلما نقرؤهُ في الفلقة الرائعة أدناه التي كان فيها مسؤولاً وليس ساءلاً في نص (سؤال):

سألتني...في المطار
ياتُرى من أين جئت؟
إنني أقرأ في عينيكَ حزن الإنتظار
......
هل أقولُ إنني من بلدٍ يُجلدُ فيه
المرءُ في وضح النهار
حسنا....سأجيبك أنتِ ياسائلة َ العينين
إنني اُصلبُ مراتٍ على لوح المنافي
ومراتٍ على لوح الجدار......

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى