الجمعة ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم أحمد نور الدين

صحاري الأحلام

بصحبة الأولاد تسعى نحو الجسر كل صباح. طفلة في العام السادس من عمر ناشف بارد، لا يحمل في أحواضه غير شتائل الأحلام، أحلام بألوان الطيف..

تحفر بقدميها الصغيرتين في أديم الأرض بصمات خفية تذروها الشمس العابرة كل يوم فوق ذات الجسر. وهي تسير خلف أخيها الذي يؤمن لها حماية معنوية وسط زمرة الصيادين الصغار. صيادون لرزق يعبر في شبابيك السيارات. والسيارات متنوعة كالغيوم: قاتمة، ناصعة، مدرارة أو عقيمة... والرزق يأتي مغلفاً بالذل أحياناً، وأحياناً يمضي مسرعاً، يفر ويبتعد، ثم يذوب في عمق اللوحة المحترقة بألوان النهار، ويعبر تحت الجسر حيث يفنى كما تفنى سرائب العيون.
الفتاة ذات الستة أعوام تمد يدها الصغيرة نحو شبابيك السيارات حاملة علبة علكة صفراء. صفارها يتجاوب مع صفار الوجوه ذات الأعين التي تنظر إلى جانب الطريق ولا ترى شيئاً. تمد الفتاة السمراء يدها بالعلبة وتستجدي الشراة بصوت نحيف هزيل يضيع وسط زوابع الضوضاء. ثم تقبض ثمن الصفقة الزهيدة بيدها الأخرى وتدسه في حقيبة صغيرة ترتبط بجيدها ارتباط المتعانقين.

حين تتوالى الصفقات الناجحة تفور في داخلها خميرة الفرح، ويكتسب وجهها الأسمر الصغير بهاء من الدفئ والزهو. تصبح الحياة حلوة بكل تفصيلاتها: أسفلتها اللاهب، لافتات حوانيتها المحرمة، وحتى وجوه السائقين والركاب بما تحمله من عبوس وإعراض. وتنظر نحو أخيها لتسرق من وجهه نظرات حذرة، وفي قلبها تقرع أجراس الابتهال كي يكون أخوها في غفلة عما جنته يداها من رزق مهدد بالسلب لحوائج لا نهاية لها.

وفي بعض الأحيان السعيدة يجود عليها العابرون ببقايا طعام أو شراب تتلقفها بروح جائعة لمسرات الحياة الضخمة المتوارية خلف الجدران الحجرية، وستائر الشرفات.

كل نهار جديد يحمل في صحراءه أرزاقاً جديدة، وما عليها فعله هو المثابرة. وحين تمر مواكب السيارات المحصنة العقيمة، تسترخي الفتاة وتسرح ببصرها فوق ظهور السيارات حيث ترى التماع الضوء الشمسي في الصفحات المعدنية. في تلك الالتماعات كانت تستشعر شيئاً مريحاً، كأنه ضوء الأمل يداعب مقلتيها الحالمتين. وذات مرة عزيزة حمل إليها الضوء أحد ملائكة الأمل. في الواقع كانت سيارة وبداخلها أكثر من ملاك. ملاك يقود السيارة، وملاكة تفترش المقعد الخلفي في هالة تشع سلاماً ناصعاً تسكن به آلام القلوب الجريحة. لون السيارة أبيض أيضاً، أحست الفتاة حين رأت سائقها بذلك الإحساس الذي لا يمكن لعاشق أن يخطأه، إحساس بالطمأنينة والسلام لا تعيشه إلا قلوب الواصلين. ثم نظرت خلال زجاج السيارة الخلفي، فرأت فيه ما أرسل الطمأنينة تصدح في حنايا قلبها الصغير فتذيب ما فيه من أوجاع وأدران. ولقيت من هذا اللقاء ما فطنت روحه إليه منذ اللحظة التي شهدت بشائر الرؤية الأولى.

لكن كان لا بد لتلك الفسحة أن تنقضي كما تنقضي الأحلام العزيزة غير عابئة بما تخلفه في القلوب من مشاعر غالية سرعان ما تنقلب حسرة وحزناً حين يدرك الحالمون أنهم عادوا، من جديد، إلى عالم الصحو والهموم.

ما أعجب الأيام... تبدو في كثير من الأحيان قاسية، غليظة، لا تملك شيئاً من الرحمة لمن يحتاجها. ثم فجأة يبتسم في قلب الظلمة قبس من نور الأنس. شعرت الفتاة بأن ساعات العمل المضنية تستحق عناءها، لأن بها أوقات فريدة تسخو بأطايب الجنة. ومثال ذلك فاكهة، وشراب، وشطائر محشية بأسرار اللذة الخالصة.

في غمرة من عرق الحرارة والتعب، رفعت الفتاة يدها الواهنة لتمسح بلل الجبين. ثم أخذت من الهواء المحدق بها نفساً طويلاً، وأطلقته ممزوجاً بحسرة التنهد. وطافت بروحها أطياف ملائكة السلام، فاشتعلت فيها نار الشوق، والتمعت في عينيها أنوار الأمل تبرق مع كل سيارة تعبر. ثم جاء وقت الغداء فتجمع الرفاق فوق رصيف شاغر، وراح كل شخص يأكل مما تيسر له في هذا اليوم. فكان الطعام متنوعاً تنوع الأرزاق والأحوال. أما هي فدست يدها في حقيبتها وأخرجت منها لفافة رغيف تحوي بداخلها طعاماً نادراً، فأكلت بشيهة وجالت بعينيها في الشارع متنقلة بين السيارات، وهي تحاول ان تحسب ما يفوتها من صفقات رابحة أثناء تناولها الطعام. وفي نفس الوقت لم تكن نفسها تكف عن البحث. دائماً تبحث عن مشرق أمل بديع يغمر روحها بالسلام فتتخلص من كل آلامها وتذوب في الراحة الدائمة.

لماذا لا تكون مثل غيرها من أولاد هذه المدينة؟ لماذا لا ترتدي ثياباً نظيفة، وترتاد مدرسة كتلك التي تصادف أحياناً خروج تلاميذها الصغار في ضجيج فرح يشعل في داخلها نيران حسرة غامضة على حياة بعيدة جداً رغم المجاورة الأليمة؟ حين فرغت من الطعام نفضت الفتاة عن كتفيها أثقال تلك الأسئلة المحرقة، ونهضت لتلتحق من جديد يتيار السيارات الذي لا ينقطع، ومدت يدها بعلبة العلكة الصفراء.

توالت السيارات والأيام، وانسحقت في الطريق بعض الآلام والمسرات.

ثم جاء اليوم الذي انتظرته بشوق أضنى جفنيها بسهر طويل وخيال. فتحينت من أخيها لحظة الغفلة لتبتعد راكضة صوب طريق فرعي تقوم في وسطه مدرسة ذات بوابة زرقاء كبيرة، وتابعت ركضها فمرت ببوابة المدرسة ولاحقتها ضوضاء آتية من خلفها فاصطدم قلبها فجأة بإحساس قوي بالحنين إلى شيء ما، وبلغ بها التأثر مرتفعاً بعيداً فكادت تبكي حين تقاطع ذلك الحنين مع إثارة الموقف، إضافة إلى إحساس حارق بالندم على ما شرعت فيه. وتخيلت وهي تجد في ركضها متجاوزة المدرسة صورة أخيها الذي سيكتشف غيبتها في أية لحظة، فشكها الألم، لكنها كانت مصممة. ونجح تصميمها في تحصين نفسها من كل المشاعر الأخرى التي تتهدد نشاط قلبها المشرئب لعالم الخلاص والأمل.

ظلت تركض مخترقة عدة ممرات فرعية حتى وصلت إلى المكان المقصود: مساحة ترابية صغيرة تحيط بها البنايات من كل جانب، قد اصطفت بها عدة سيارات. ومن بين تلك السيارات عرفت الفتاة الصغيرة أي واحدة تريد أن تركب. هي تلك السيارة البيضاء التي شعت أول مرة بنور الأمل الباهر. وها هي تنتظرها الآن بذراعين مفتوحتين وحضن حنون. انتهت من الركض عند باب السيارة الخلفي الذي فتح فور وصولها. التفتت الفتاة إلى الوراء فأبصرت عمود كهرباء أصفر ووجوه بعض الأشجار الشاهدة بصمت الحفيف على هذا الحدث السعيد، ثم عادت تنظر أمامها، ووفق الخطة المرسومة، دست جسمها الصغير داخل باب السيارة وجلست مقرفصة على الأرض بين المقعد الخلفي والمقعد المجاول للسائق. نظرت إلى "الملاكة" الجالسة في المقعد الخلفي وتبادلت معها ابتسامة المعرفة والترحاب. ثم ارتفع هدير السيارة وتحركت من مكانها فتحركت معها أشواق القلب الصغير. ودفق نور النهار إلى الداخل عبر الشبابيك فأبصرت الفتاة الصغيرة آخر ما أبصرت من نور الدنيا بقلب يخفق شوقاً إلى مسرات الحياة الواعدة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى