صورة الإنسان في «الريح الشتوية» لمبارك ربيع
الإشكال النظري الذي يكتنف «صورة الإنسان»:
إن هذا الموضوع يضعنا أمام إشكال نقدي عبر عنه الدكتور محمد أنقار بقوله: «إن الإشكال الأساس، في رأينا، ينحصر في محاولات النقد لضبط المنطق والقوانين المورفولوجية للشخصية الروائية في فضائها الإنساني، أي ما يسميه (ميخائيل باخثين) ب(صورة الإنسان) في اتصاله بالحدث الآني غير التام»(1).
ومرد هذا الإشكال، أن صورة الإنسان يتداخل فيها ما هو فكري وما هو جمالي في إطار وحدة تخييلية، فالإنسان من حيث هو موضوع تناوله الفكر عبر التاريخ، خضع لوجهات نظر عديدة ورؤى متباينة، في سياق التحولات الاجتماعية والتاريخية والثقافية المتراكمة. وهذا بالضبط ما يفرز الجانب الفكري للإشكال. خصوصا وأن الأديب في تصويره للبطل يعبر عن فلسفة معينة تكمن وراء رسمه لملامح الشخصية(2). مما يفرض على المتلقي استحضار المرجعيات الفكرية التي أطرت رؤيته وتصويره للشخصية الروائية.
وتجدر الإشارة إلى أننا لا نرجح الجانب الفكري في الصورة على الجانب الجمالي. لأننا، مبدئيا، لا نتصور الصورة الروائية إلا جماليا. إنما نشير إلى حضور هذا الجانب الفكري في التصوير إلى جانب عناصر أخرى جمالية تدخل جميعها في نسيج الصورة؛ إذ أن جمالية الصورة تتحقق وفق شروط نصية وأخرى غير نصية. الشيء الذي يجعل صورة الإنسان خاضعة في معظم حدودها لذهن المتلقي، للكشف عن خطط تشغيل المكونات والسمات ووظائفها، على اعتبار أن لكل نص طبيعته المتفردة التي تحددها الاختيارات الجمالية والمرجعيات الفكرية والفلسفية التي يتشكل في حضنها. وهذا ما تؤكده هوية الرواية غير الثابتة.
إن الهوية غير الثابثة للرواية سبب أساس في افتقار النظرية الأدبية - راهنا- إلى نظرية روائية. فما هو متراكم حول الرواية لا يعدو كونه نقدا روائيا بادي القصور النظري إذا ما قورن بنقد الشعر، وهذا يجعل حصر صورة الإنسان بين فكي نظرية مجازفة نقدية، وتعسفا في حق الكيان الجمالي الذي أراد المبدع تشكيله.
غير أن هذا المأزق النقدي الذي أفرزته الهوية غير الثابتة للرواية، لم يحل دون ورود بعض محاولات القبض على ماهية صورة الإنسان والظفر ببعض آلياتها. ولكنها تبقى غير كافية للإحاطة بحدودها النظرية. ومن الباحثين في هذا الصدد «ميخائيل باخثين» الذي يرى أن الوعي الذاتي للبطل هو الفكرة الفنية المسيطرة في صورته (3) . ويفسر «باخثين» ذلك بقوله؛ «إن العناصر التي تتكون منها صورة البطل، تتألف لا من ملامح الواقع، البطل نفسه والواقع الحياتي الذي يحيط به، بل الدلالة التي تنطوي عليها هذه الملامح بالنسبة للبطل نفسه، وبالنسبة لوعيه الذاتي»( 4) .
إلا أن الوعي الذاتي وإن كان مسعفا في التقاط بعض الخيوط الإنسانية، فإنه مع ذلك يبقى غير كاف، إجرائيا، لملامسة حدود الصورة الكاملة للإنسان. ويعزى ذلك إلى سببين؛ يتمثل الأول في أن القول بالوعي الذاتي فكرة فنية في صورة البطل يعني أن «باخثين» يركز على ما تقوله الشخصية فقط، في حين نعتقد أن ما يمدنا بملامح الإنسان ليس هو قوله فحسب، وإنما فعله وقول الآخرين عنه وأفعالهم اتجاهه أيضا، أضف إلى ذلك الحدود الفكرية والفنية التي سطرها المؤلف لكل ذلك. أما السبب الثاني فيتجلى في كون استراتيجية «باحثين» لا تسعف إلا فيما أسماه بالرواية المتعددة الأصوات، حيث يتوارى الراوي وتقوم الشخصية بالكشف عن أهوائها وهواجسها بنفسها. في حين لا تسعف في الرواية الأحادية الصوت التي لا يباشر فيها المتلقي الوعي الذاتي للشخصية الروائية، إلا من خلال الراوي، كما هو الحال في رواية «الريح الشتوية».
إن عدم كفاية هذا الرأي يرجع إلى أن صاحبه لم يراع البناء الفني للرواية، وهذا يدفعنا إلى تلمس رأي «بيرسي لوبوك» القاضي بضرورة معاينة الشخصية الروائية من المنظور البنائي العام للرواية(5). والواقع أن هذا الرأي هو الراجح، في رأينا، أمام المأزق النظري الذي يكتنف صورة الإنسان. لأنه رأي يراهن على خصوصية النص الروائي، ويعترف، ضمنيا، بالهوية غير الثابتة للرواية.
لكن هذا الطرح سرعان ما يفقد جديته حينما يفصح «لوبوك» عن سهولة تحديد صورة الإنسان بقوله: «ليس ثمة ما هو أسهل على المرء من أن يكون لنفسه فكرة معينة عن مخلوق بشري أو شخصية ما من خلال سلسلة من الحكايات»(6). ولعل هذا القول يفصح عن بساطة البناء الروائي في تصور «لوبوك». في حين نعتبر أن البناء الروائي يعني مجموع الشروط التي تتحكم في التوجه السردي والتي تنم عن تفاعل المكونات والسمات النصية وغير النصية في بنية معقدة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن معاينة الشخصية من المنظور البنائي العام للرواية يجنبنا العديد من المتاهات النقدية، ويتيح بعض استراتجيات تناول صورة الإنسان. غير أن ذلك لا يتحقق في غياب آليات الاشتغال ومعايير الكشف الجمالية، وهذا هو الجانب الجمالي في الإشكال النقدي لصورة الإنسان الذي سبق أن أشرنا إليه. لأن الصورة الروائية عموما عانت شح الدراسة والبحث وذلك راجع، كما أسلفنا، إلى أن النظرية الأدبية المتعلقة بالرواية أدنى في الكم والنوع من نظرية الشعر ونقده. غير أن ذلك لم يعدم وجود محاولات بعض الباحثين مثل «هنري جيمس» و«بيرسي لوبوك» و«ستيفن أولمان»، على أن عصارتها نجدها عند «محمد أنقار» الذي استطاع تقييم الجهود السابقة وخلص إلى معايير راجحة لضبط الماهية الجمالية للصورة الروائية ومنها صورة الإنسان.
و أهم ما يميز المشروع النقدي لأنقار حول الصورة، أنه استهدف وضع معايير لضبط الصورة الروائية، والكشف عن مكوناتها وتبويئها مكانا متميزا في حلقة الصورة الأدبية التي طالما ظلت محصورة بين مخالب الصورة الشعرية، في ظل التحليل الأسلوبي الذي «لا يتجه نحو مجموع الرواية (...) ولا يلمس الخصوصية الأولية للجنس الروائي»(7). وعلى هذا الأساس، رأى أنقار أن الصورة الروائية هي بالضرورة ممتدة عبر جسد النص. واعتبر أنها صورة كلية، وقلدها وظيفة كبرى، إذ رأى أنها هي التي تكتنف فعالية القراءة، وتبرز المتلقي بصفته المعيار الحاسم في تقييم الصورة، مؤكدا أن الصورة الكلية ما هي إلا رد فعل منسجم لمجموع الفعاليات الذهنية للمتلقي أمام تشابك المكونات والسمات المحكمة البناء في النص الروائي(8).
إن القول بكون الصورة الروائية كلية يقتضي أن ثمة صورا جزئية، هي التي يتعامل معها قارئ الرواية ويواجهها. لكنها ترتبط بالشبكة النصية طالما هي أجزاء الصورة الكلية. وهذا يعني أن لها وظفتين: وظيفة تصويرية آنية، ووظيفة تصويرية سياقية في إطار الصورة الكلية. وهذا الطرح يضع الباحث عن الصورة أمام مهمتين: مهمة استكشاف ماهية ووظيفة الصور الجزئية، ومهمة نسج ملامح الصورة الكلية. وإذا ما سلمنا بأن الصورة الروائية من حيث هي تشخيص أدبي تتسم بالحضور النصي الفعلي، فإن المعايير الجمالية الراجحة، في رأينا، للكشف عن صورة الإنسان هي: سياق الجنس الأدبي، سياق النص، الطاقة اللغوية، الطاقة البلاغية، وسياق التلقي(9). وهي معايير راجحة لأنها تستبطن وعيا أجناسيا، وتعترف بالخصوصية النصية، وتحتك مباشرة بوسائل التصوير اللغوي، وتتيح للقراءة سلطة نقدية قائمة على تفاعل القارئ مع النص. ومع ذلك فإننا نرى ضرورة استدعاء معيار سادس نراه ضروريا وهو سياق الإبداع، بما هو مجموع المؤثرات الفنية والفكرية التي أنتجت النص وخططت لسيرورته وديناميته، على اعتبار أن الصورة الكلية لا تكتمل ماهيتها إلا بهذا السياق، لأنها لا تكتسب حدودها إلا بما رسمه الكاتب لها فكريا وإيديولوجيا وجماليا.
بهذه المعايير سنقتحم رواية «الريح الشتوية» لاستنطاق ماهية صورة الإنسان، ومساءلة طرائق تشكلها والظفر بوظائفها الجمالية وامتداداتها البنائية والاديولوجية والفكرية. وقبل ذلك، وارتباطا بسياق النص، لابد من تحديد الإطار الموضوعي للرواية واستخلاص السمة أو السمات المهيمنة، باعتبارها بوصلة القراءة وبؤرة الصورة الكلية.
الإطار الموضوعي للرواية وسماتها المهيمنة:
تصور رواية «الريح الشتوية»(10) الإنسان المغربي في فترة حرجة وحاسمة من تاريخ المغرب الحديث، وهي فترة الاستعمار. إذ تحكي قصة «العربي الحمدوني»، ومن خلاله ومعه شرائح كثيرة من المغاربة الذين سلب الحاكم الفرنسي أراضيهم في البادية، ونزحوا إلى مدينة الدار البيضاء، وتكدسوا في أحياء صفيحية مهمشة، مثقلة بالفقر والقذارة أبرزها «الكريان سنطرال»، الذي شكل والفضاءات المجاورة له معترك السيرورة السردية. وقد عمل الكاتب في خضم ذلك على كشف الواقع المتردي والمتسم بالجهل والخرافة والتخلف ومخاصمة الذات والهوية، من خلال عديد من الشخصيات أبرزها «عائشة العرجاء»، التي أسند إليها دلالات وأبعادا شاسعة. حيث جسدت مرجعية اجتماعية مضطربة، أفرزت سوء فهم لعمق القضية، وكرست الإحساس بالهم الفردي والبحث عن الخلاص الفردي، تجلى في النص من خلال توجه الناس إلى المحكمة للمطالبة بأراضيهم. وكان العربي الحمدوني بطل الحل الفردي. حيث وكّل محاميا لهذا الغرض، لكن قضيته كان مصيرها الفشل وكان مصيره هو الموت.
ومع القسم الثاني تحول مسار السرد، وتم إقصاء شخصيات لصالح أخرى جديدة أهمها «العالم»، الذي اشتهرت حلقته بالتوعية الدينية ومصالحة الناس مع ذواتهم وقيمهم. ثم ترك أمر الحلقة للشاب«سي عبد الفتاح» الذي بدأ يخوض في التوعية الوطنية وتأطيرالناس، فظهرت بوادر وعي جماعي، ثم عمل وطني منظم ونقابات عمالية موازية له. وبذلك أصبح الكريان سنطرال مصدر قلق سلطات الاحتلال التي وجهت نداء إلى السكان بالإفراغ، لكنهم رفضوا، فأقدمت على إحراق الكريان، لكن ذلك لم يزد الناس إلا إصرارا. وهكذا انطلقت مواجهة مفتوحة بينهم وبين المستعمر مخلفة قتلى وجرحى ومعتقلين، وانتهت أحداث الرواية على هذا الخط الصراعي المفتوح.
وانطلاقا من هذا الإطار الموضوعي الفضفاض، بسبب صعوبة تلخيص أحداث الرواية، يمكن استخلاص أن النص يقوم على ثلاث متواليات سردية، متوالية اتخذت منحى سلبيا تمثل في واقع الجهل والخرافة، وتمخض عنه سوء فهم القضية والنزوع إلى الحل الفردي. ومتوالية جاءت بالنقيض عكست خطا توعويا دينيا ثم وطنيا، تمخضت عنه المصالحة مع الذات والنزوع إلى الإحساس بالهم الجماعي. ومتوالية فتحت مواجهة مباشرة بين المغاربة والمستعمر، وأفرزت حركة تاريخية قائمة على التوازن في أرجوحة الصراع.
وبناء على هذه المتواليات فإن السمات المهيمنة في النص هي: الإقصاء والتحول والتنامي. وهي سمات تعد بسيرورة سردية فيها تفاعل وجدلية قوية. ذلك ما سنحاول استجلاءه من خلال صورة الإنسان.
صورة الإنسان في الريح الشتوية:
* المتوالية الأولى: سيرورة الحل الفردي
يصور القسم الأول من رواية «الريح الشتوية» نفسية الإنسان المغربي في تشرذمها وانقسامها ومخاصمتها للذات والهوية. وقد عمل الكاتب على تعميق الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والوجودية، من خلال صور كثيرة يصعب الإحاطة بها نظرا لكثرة الشخصيات واختلاف مشاربها ووضعياتها ووظائفها.غير أن هذه الصعوبة لا تحول دون الظفر بصورة الإنسان، خصوصا وأن الكاتب أحاط كل خيوط السرد بشخصيات جوهرية تحملت سيرورة الأحداث، بحيث من خلالها ومن خلال مسارها ومحيطها كانت تتجلى الصورة العامة للمجتمع.
ومن أهم هذه الشخصيات «العربي الحمدوني» الذي أكسبه المؤلف عمقا إنسانيا ودلاليا، وقلده أطروحة القسم الأول. وتظهر هذه الشخصية منذ بداية الرواية، تحمل قلقا وحيرة ومعاناة وجودية بسبب ما لحقه من ظلم الحاكم الفرنسي إذ سلبه أرضه فاضطر إلى النزوح إلى الدار البيضاء مكرها. ولعل الصورة الآتية تلخص أولى سمات الحمدوني. يقول الراوي في سياق وصف هواجسه وهو ينتظر التحاق أسرته به:
«هو إذن هارب.. هارب. وخطا دائرا بين العربات والكتل والأقدام كأنه يختفي عن خواطره أو عما يلاحقه من أصوات.
لمَ لم يكن رجلا كما يعهد في نفسه فيعود إلى القرية متسللا وينتقم من أعدائه: الشيخ والحاكم النصراني والقائد والأعوان أو يستشهد كالأبطال؟»(11).
وتلخص كلمة"هارب" وضعية القلق التي يعيشها. كما تعمل عبارة خطا دائرا على توتير الحيرة التي يحياها. على أن الاستفهام ومضمونه يكشفان جانب الانفعال ويوحيان بالضعف والاستسلام. فهو لم يكن رجلا كما كان. والصورة إلى جانب ذلك تكشف عن أعداء الحمدوني الذين طردوه من أرضه وشردوه. وهي بذلك تحدد أطراف أرجوحة الصراع، لكنه صراع يبدو غير متوازن.
إن هذه الوضعية لم تكن فردية، إنما جماعية عمل الكاتب على تكريسها في مناسبات وصور كثيرة نختار منها هذه الصورة، التي وردت في سياق اجتماع أقرباء الحمدوني وأصدقائه بمناسبة سكنه في الكريان بعد قدوم أسرته. يقول الراوي:
«"هذا حال الدنيا ". كان يرحب بهم: ثلة من رفاقه في القرية، منهم من سبقه إلى المدينة ومنهم من لحق به، وبعض أصحاب ابن عمه كبور في قرى وبوادي أخرى، هاجروا إلى المدينة وتوزعوا بين معاملها... كان سعيد أخو زوجته صفية، أقرب المدعوين إلى العربي باعتبار المصاهرة ومن أقدم المهاجرين إلى المدينة بعد كبور ابن العم... والباقي ممن يعرف العربي من أبناء قريته، لم يكونوا من كبار الملاكين... أغناهم كان مستور الحال».(12)
لعل إيقاع الصورة يعزف على أوتار المشاركة في الوضعية نفسها ويعمق البعد الوجودي ويضفي عليه شساعة إنسانية. فكلهم نازحون، بالتتابع، لكنهم على اختلاف أصولهم يلتقون عند التشرد والسلب والتهجير، كما تشير الصورة إلى وضعية إنسانية عميقة الدلالة تلخصها عبارة "وتوزعوا بين معاملها"، إذ تحمل خطاب تنديد مبطن بقوة إمبريالية رأسمالية، سلبت أرض الفلاحين ودفعت بهم إلى المعامل بما تحمله من معاني الاستغلال والاستنزاف.
وتظهر تلك المعاني في صورة أخرى تبرز واقع العمال ووضعية الاستغلال، يقول الراوي في سياق تتبعه للحظة من لحظات تيهان الحمدوني:
«يكتشف كل يوم جانبا من هذه الحياة المتعبة الكليلة في الحي الصناعي، بعد أن تلتهم المعامل روادها منذ الصباح الباكر فلا يبقى خارجها إلا سأم يتمطى. وملأت خياشيمه روائح السمك النفاذة بنتانتها المنبعثة من عشرات المعامل على شاطئ البحر القريب، كأن الكون كله أضحى مغمورا في صهريج كبير من صهاريج السردين المملح، كما تغوص فيه بالفعل أجساد العمال والعاملات كل يوم ليلا ونهارا»(13).
تكشف دينامية هذه الصورة عن توتير المعاناة الوجودية لدى الحمدوني من خلال الإشارة إلى رتابة الزمن "كل يوم". على أن جوهر الصورة تختزله كلمة "تلتهم"، إذ تختزن دلالة الشراسة في الاستغلال والاستنزاف، دلالة يعمل على ترجمتها وتوتيرها غوص الأجساد في الصهاريج كل يوم ليلا ونهارا. ولعل الإشارة إلى الزمن المتواصل تعكس الدلالة الإنسانية المتردية وتبوح بهول الاستغلال البشع.
ولم تكن معاناة العمال محصورة في الاستغلال، إنما بلغت حد الإذلال في صور كثيرة. وامتدت الصورة المتردية للإنسان إلى جوانب اجتماعية أخرى، حيث القذارة والحياة اللاإنسانية. يقول الراوي يصف خروج الحمدوني من الكريان متجها إلى السوق:
«لم يكن متعجلا في سيره ، لذلك كان الراكضون إلى كل صوب يتجاوزونه في الزقاق. خطواته متئدة على الجانب الأيمن حينا وإلى اليسار حينا، محاذرا ألا يضع قدمه في الجدول النتن الجاري عبر الزقاق، والذي يكوّن مجراه الرئيسي، ترفده جداول صغرى، صادرة من كل كوخ حيث تلتقي مياه الغسالة والتصبين ومختلف القاذورات السائلة. وكان يحس في سيره بأسراب الذباب المنزعجة بوقع أقدامه وهي تطير، محدثة طنينا مرتفعا كخلايا النحل، تاركة مكان تجمعها المختار إلى حين، لتعود إليه بمجرد ما تتجاوزه الأقدام»(14).
واضح أن كل شيء في هذه الصورة ينطق بالقذارة، أسهب الكاتب في وصفها برتابة وتثاقل، وراهن فيها على الحواس لتكون الصورة أبلغ وأكثر حركية وتأثيرا؛ فكأن الكاتب غمس الإنسان في هذه القذارة. لتبوح الصورة بوضعية إنسانية متردية، يتجاور فيها الإنسان والنتانة والذباب. وهكذا يتعمق البعد الوجودي أكثر.
ولم يفت الكاتب أن يحيط هذه الوضعية الإنسانية بصور ترصد اختلالات اجتماعية وصراع الأنساق والقيم، وتكشف عديدا من الأعراض الاجتماعية كالجهل والتخلف والخرافة... تجلى ذلك من خلال شخصية مهمة اضطلعت صورتها الإنسانية بوظائف سردية ودلالية كبرى. إنها «عائشة العرجاء»، شخصية التناقضات والاختلال بامتياز. يقول الراوي في وصفها لحظة ظهورها الأول:
«فجأة، توقف أطفال الزقاق عما هم فيه كجراء التقطت ريحا معينا في وقت واحد، والتفتوا في حركة واحدة نحو رأس الزقاق ثم هللوا جميعا دفعة واحدة: أمنا عيشة... أمنا...
وتراكضوا حول شبح يطلع في رأس الزقاق، والتفوا حول شبح عجوز يلتحم جسمها الشديد السمرة، بعظام هيكلها الناتئة، وقد سطرت تجاعيد الوجه وضمور الشفتين المندفعتين داخل الفكين الفارغين، أثر الكد والسنين الطوال على سحنتها، كانت طويلة القامة ينحني ظهرها تحت كيس ثقيل تخرج به فارغا كل صباح لتنوء بثقله في عودتها، وبينما كانت إحدى يديها تمسك على صدرها حبلا يربط فوهة الكيس الممتلئ على ظهرها، كانت تمسك بالأخرى قفة لا تقل عنه امتلاء، ورغم الهزال العام الذي كانت عليه العجوز فقد كان من اليسير أن يلاحظ المرء أن إحدى ساقيها أدق من الأخرى بشكل ظاهر، ولعلها لذلك كانت ترتمي أثناء المشي خارج خط مستقيم...»(15).
وتحملنا الكلمة في حضن صورة روائية متخمة بالبعد الاجتماعي، من خلال صورة الأطفال الذين شبههم الكاتب بجراء اشتموا رائحة، وهو تشبيه يؤدي وظيفة سياقية تلمح إلى وضعية الأطفال الذين عانوا الضياع والتشرد، وشملتهم وضعية التردي الإنساني. غير أن جوهر الصورة يكمن في التركيز الشديد على وصف العرجاء، إذ يعمل على تعميق صورتها وتقريب بعدها الإنساني أكثر، من خلال تقديم وصف دقيق: شبح عجوز، ضمور الشفتين، الفكين الفارغين، أثر الكد والسنين، ثقل، الهزال. بحيث أمعن الكاتب في جعلها إرثا تاريخيا بشعا يتسم بهزال، ينوء بأثقال، وينطوي على اختلال تبوح به صفة العرج والسير خارج خط مستقيم.
إن سمة الاختلال تظهر بجلاء في صورة أخرى تتعمق الدلالة الإنسانية لهذه الشخصية، يقول الراوي دائما في وصف العرجاء:
«عائشة، أو أمي عيشة كما يسمونها في حالة رضاهم عنها، والعرجاء كما يسمونها في غيبتها وفي حالة نقمتهم عليها... والحرامية كما يضيف الأطفال عندما يشبعون شرههم بمتاعها... وأشياء أخرى حولها وعنها... هذه المرأة نقطة لامعة في الزقاق، بل في الحي كله: متسولة ومحسنة وخياطة، متزوجة وأرملة في الوقت نفسه، وخير وسيط في كل أمر، وخير مطلع على كل خافية وظاهرة...»(16).
ما من شك في أن إيقاع الصورة قائم على الاختلال والمفارقة. فالاختلال واضح من خلال ثنائيات: متسولة/ محسنة، متزوجة/ أرملة. أما المفارقة فتعكسها عبارة "نقطة لامعة"، إذ يحق لنا التساؤل؛ إذا كانت العرجاء بهذه الصفات نقطة لامعة، فكيف هي يا ترى النقطة السوداء؟.
إن صورة العرجاء كما قدمها الكاتب، وحضورها اللافت في سياق الأحداث، جعلها تتقمص دوما ثيميا قويا، بحيث تجسد مرجعية اجتماعية مضطربة وغير متوازنة، تقوم على التسول والشعوذة والخرافة والجهل ومخاصمة الذات والهوية، وقد أبرز الكاتب ذلك بإسهاب في تتبعه للعرجاء، مما جعلها صورة مرآتية للمجتمع، وسلطة اجتماعية موروثة. وتأكد ذلك جليا في الصورة السابقة، حين جعلها الكاتب خير وسيط في كل شيء، وخير مطلع على كل خافية وظاهرة. وإلى جانب هذا الدور الثيمي الذي تلعبه العرجاء بكونها مرجعية اجتماعية غير متوازنة، فإنها تحمل وظيفة سياقية ممتدة، خصوصا حينما فتحت بيتها للدعارة مع ظروف الحرب العالمية الثانية والجفاف. وبذلك كشفت هشاشة القيم وعملت على توتير سمة الاستسلام، وسلطت الضوء على سمة أكثر جوهرية من خلال الصورة الآتية، يقول الراوي في سياق سرد ما حصل للتهامي المفضل، لما تدخل لرفع العار الذي ألحقته العرجاء بزقاقهم:
«لقد كان التهامي منذ أول بادرة اتخذتها العرجاء في طريقها الجديد، أول من فاتح صديقه بنصغير في ضرورة التعاون لإزالة وصمة العار عن زقاقهم. إلا أن التهامي المفضل، عاد ذات يوم دامي الوجه، مهدود الكيان، مما لحقه من أذى الجنود بعد أن هاجم مسكن العرجاء، وفي صبح الغد أقبل عليه المقدم واستصحبه إلى السلطة، التي أخبرته أنها توصلت بشكوى ضده تتعلق بإذايته للجنود، وبعد التحقيق معه في الأمر سامحوه على ألا يعود لمثل ذلك.
كانت هذه الحادثة كافية لإخراس العديد من الأصوات...»(17).
تسلط هذه الصورة الضوء على العديد من السمات، أهمها الظلم والانتهازية والخوف والاستسلام، كما أنها تكشف عن غياب اليقين الجماعي وسيادة الفر دانية قي معالجة الأمور، رغم أنها هموم جماعية. وتتجلى سمة الفر دانية أكثر في قول الراوي، على لسان أحد الجيران:
«كل واحد يدبر لراسه... نهار مشى التهامي يتكلم عليهم خلوه وحده ياكل الدق من عند العساكرية، والغد لما عيط عليه المقدم والشيخ ساقوه للمخزن حتى واحد منهم ما تبعه...»(18).
وتعكس هذه الصورة الوعي الذاتي للشخصيات، وهو وعي مشبع بالفردانية، يجسد غياب الوعي الجماعي التضامني لحساب سيادة منطق التشتت والاحتفاء بالهم الفردي.
إن واقعة التهامي، عكست صورة مزدوجة الوظيفة: وظيفة آنية تمثلت في رسم واقع الناس وقصور وعيهم وتضامنهم وكشف التردي الإنساني والانشطار القيمي الاجتماعي. ووظيفة سياقية ممتدة شكلت صورة صغرى لسياق أكبر موسوم بالنزوع للحل الفردي، الذي يمكن اعتباره أطروحة القسم الأول بدون منازع. وهي أطروحة كشف عنها الكاتب بشكل استباقي ومبطن منذ بداية الرواية. يقول الراوي في مطلع الرواية:
«ما الذي يقع فتتحول الخواطر إلى إبر تخز الجنب؟ ويجفو الكرى فراش الشوك؟ لم ينتفض القلب فجأة حتى تملأ نبضاته السمع، ثم تهن فلا يتصيدها المتلمس؟ والجراح الخفية من أين مأتاها ومذهبها؟ ... وتطلع العربي الحمدوني إلى الشمس الهاربة نحو المغيب دون أن يجد جوابا، ألف خاطر سيء ينتابه، ولا بد من الانتظار، ولا بد للانتظار من نهاية. وكأنما عزم على أن يقطع حبل انتظاره حين ترك صخرة ناتئة كان مرتاحا عليها، واتجه مقتربا من تجمع الناس والأشياء والدواب في فسحة محطة" كراج علال"»(19).
تستدرجنا الكلمات إلى عمق صورة روائية قوامها التكثيف واللغة الانسيابية المشحونة بدلالات الجفاء والوخز والارتعاش والجراح. وهي بذلك ترسم وضعية إنسانية مزرية. كما أن الجمل تعكس انفلاتا في الإحساس من خلال الأسئلة المسترسلة والمتنامية في دواخل الحمدوني، مما عكس إيقاعا نفسيا منفتحا على القلق والمجهول اللذين تجسدا من خلال الشمس الهاربة وفعل الانتظار. على أن إيقاع الصورة يتجلى صاخبا في التقاطع بين عبارتي: تجمع الناس والأشياء والدواب، ومحطة " كراج علال"، إذ تجسد الصورة مفارقة بين فعلي التجمع والافتراق الذي توحي به المحطة بما هي مفترق طرق. وبهذا تختزن الصورة وظيفة سياقية ممتدة تشير إلى أن المنطلق واحد والسبل شتى.
إن هذه الأطروحة، وإن كان لها امتداد على المستوى الاجتماعي كما رأينا في حادثة التهامي وغيرها، فإن بؤرتها تركزت في قضية الأرض، وتبلورت بشكل أكثر عمقا ووضوحا في الصورة الآتية، يقول الراوي في وصف ميدان المحكمة، وقد حج إليه أناس كثيرون للمطالبة بأراضيهم:
«خلائق بالمئات يعج بها الميدان، وجوه منكسرة ترنو إلى المستقبل في إشفاق ترسمه يوما شفتا قاض أو محام أو ترجمان. ميدان فسيح شاسع الأطراف تحيط به شواهق بنايات رسمية من قصر العدالة ، إلى مبنى البلدية ، فالمحافظة العقارية والخزينة (...) وخلائق القرويين من نسوة ورجال في أزر وجلابيب ثخينة فضفاضة، تموج بينها في اضطراب، كما يموج السمك في بركة محدودة، أبصار زائغة وأمل في لجة المجهول يبحث عن قشة الإنقاذ...وعلى السطح الغامض تطفو بين الحين والحين فقاعة ما، تصنعها كذبة سمسار محتال، أو خدعة محام محترف أو شاوش، تتضخم في باطن اليأس رجاء، ثم سرعان ما تخبو، لينبعث المجهول عاتيا جبارا في الأغوار، ينتشر ويتضخم من جديد.
وحده، وحده فقط، ما كان ليعرف المجهول أو يهابه أو يترك له فرصة التضخم: هذا التمثال البرونزي الهائل لفارس تلمع نياشينه تحت أشعة شروق، أولاها ظهره، وأشار بعصاه تجاه الغرب، نحو البحر، وما وراء البحر. يختال في الأوسمة والنياشين...»(20).
كل شيء في هذه الصورة يبوح بدلالات المفارقة والضعف والوهم والغرق. إذ تكشف البنايات الشاهقة عن مفارقة عميقة إذا ما استحضرنا في مقابلها صورة الكريان. كما أن كلمات: تموج، لجة، قشة إنقاذ، الأغوار، السطح، عاتيا... تجسد وضعية الغرق التي يعيشها الناس في ظل استعمار مكشوف يتجلى من خلال التمثال البرونزي الذي يتطلع إلى ما وراء البحر، في إشارة إلى الاستلاب والاستنزاف. على أن عمق الصورة يقع في نفس سياق الصورة المطلع، بحيث تجتمع الخلائق بدافع نفس الهم لكنهم يتشرذمون، إذ يختارون الحل الفردي ويتمسكون بوهم المحكمة. في الوقت الذي يكشف التمثال عن تماسك وثبات وقوة وانسجام، عبّر عنه الكاتب من خلال تكامل مكونات الفعل الإمبريالي بين سلطة القرار السياسي ممثلة في الحاكم النصراني؛ إذ يسلب الأرض ويدفع بالفلاحين إلى المعامل، وبين سلطة القرار الاقتصادي ممثلة في أرباب المعامل الذين مارسوا أبشع الاستغلال والإذلال على العمال.
هذا التكامل واجهه في المقابل جهل وانقسام ونزوع فردي. مما جعل الصراع في النص غير متوازن؛ بين فعل استعماري متكامل، ورد فعل يطبعه الانشطار والتشتت وانعدام الوعي وغياب الحس الجماعي. الشيء الذي لم يخلق حركية تاريخية تذكر ولا بؤرة صراعية سردية.
وقد تتبع الكاتب سيرورة الانشغال بالهموم الفردية وتوخي الحل الفردي من خلال الحمد وني. حيث أكسبه وضعا سرديا مميزا وزوده بكل مقومات البطولة السردية، وقمصه أدوارا موضوعاتية ووظائف سياقية كثيرة، وحمّله بالتالي أطروحة القسم الأول بكل مقوماتها الإيديولوجية، فجعله أكثر الشخصيات ارتباطا بالأرض وأشدها أملا وإصرارا على العودة، يقول الراوي في معرض تصويره لهواجس الحمدوني بعد أن التحقت به أسرته:
«والعربي الحمدوني اليوم غيره بالأمس، فأسرته بجانبه والأمل كبير في أن يجتمع الشمل الكبير يوما ما بالعودة إلى تربة القرية»(21).
تكشف هذه الصورة عن شدة ارتباط البطل بأرضه وتربته في القرية. كما تجسد رغبة مصرة في العودة واجتماع الشمل الكبير. هكذا ظل الحمدوني متشبتا بأرضه وحالما بالعودة إليها رافضا واقعه في المدينة. لكنه، بوصفه نتاج بنية اجتماعية يطبعها الجهل والتخلف، ظل في حيرة وضبابية ورؤية قاتمة، كما تبين الصورة الآتية:
«تجاوز الظل الطويل، وتوقف قليلا عند موضع مهشم من قناة ضخمة بارزة على الأرض، تمتد طولا إلى ما لا حد له على طرفي الرؤية. وحدق لحظة في صورته الغائمة المرتسمة على السائل البترولي الدسم الداكن الذي يمر خلال القناة في حركة أشبه بالركود. وانحنى يحرك بأصبعه السائل ويشمه بفضول، رائحة القطران»(22).
إن هذه الصورة تنقل لحظة تيهان يعيشها الحمدوني، بعد أن يدخل العمال إلى المعامل، ويظل هو تائها يعيش فراغا وحرقة نفسية. والصورة تنطوي على دلالات كثيرة، حيث ترصد حالة انتقال مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي من خلال تركيز الراوي على السائل البترولي وحيرة الحمدوني التي دفعته إلى فضول الشم. كما تعكس، تبعا لذلك، تحول الإنسان عن هويته من خلال انعكاس الصورة غائمة على ذلك السائل. وإلى جانب ذلك تعمل الصورة على توتير سمة الحيرة والضبابية وغموض الأمر لدى البطل. وهو غموض مبرر سرديا وضبابية مكفولة سياقيا بفعل الجهل بعمق القضية. هذا الجهل يتكرس أكثر في الصورة الآتية بعد أن قاد التيهان الحمدوني إلى «المذكوري»، فتحدثا بشأن الأرض، ونصحه المذكوري باللجوء إلى المحكمة إن هو أراد استرجاع أرضه. فهمّ راجعا مقتنعا كما يبرزه قول الراوي:
«ولم يلتفت العربي إلى صورته المنعكسة على السائل الداكن الدسم وهو يتجاوز القناة المهشمة وهو عائد إلى مسكن ابن عمه (...) كان المذكوري ما يزال يسايره ويحادثه مسيطرا على الموقف كأنه يقول له وهو ينصت:
– هذه الأرض غريبة عنا ونحن عنها غرباء. إنها ترفضنا بقوة، ترد صدى خطواتنا ولا تتجرعه إلى أعمق أعماقها كأرضنا»(23).
تؤكد هذه الصورة صدق تحليل الصورة السابقة، فحين يخبرنا الراوي بأن الحمدوني لم يلتفت إلى صورته المنعكسة في السائل، فإن الصورة توحي بأن أمر الحيرة والغموض والضبابية قد تلاشى واتضح الدرب. كما أن الجمل القصيرة تلعب دورا تصويريا إذ تظهر الحمدوني خفيف الظل مندفعا في سيره مدفوعا باستجابة إيجابية لنصيحة المذكوري وكلامه. غير أن الصورة إلى جانب ذلك تعكس مفارقة بين أرض ترفض الخطوات وأرض تتجرع الخطوات، وهذه المفارقة تخلق امتدادا سياقيا لسمة الجهل وقصور الرؤية لدى الشخصيات، لأنهم يتصورون أن مدينة الدار البيضاء ليست أرضهم، وأن أرضهم هناك، في القرية. وهذا يعزز أطروحة الحل الفردي ويؤكد المرجعية الاجتماعية المختلة. وبناء على ذلك يضطلع المذكوري بوظيفة سياقية ودور موضوعاتي يتمثل في تكريس الحل الفردي والتحريض عليه، بدافع حب الأرض والجهل في آن.
وانسجاما مع هذه المرجعية، ذهب الحمدوني رفقة ابن عمه «كبور» إلى المحكمة لاختيار محام داخل القاعة، عملا بنصيحة المذكوري، حتى لا يقع ضحية المحتالين والسماسرة. ووقع اختياره على المحامي «موهوب» الذي تولى قضيته. لكن مع ظروف الحرب العالمية الثانية اختفى المحامي، حيث ذهب للحرب لأنه كان جزائريا مجندا في الجيش الفرنسي. وهكذا استسلم الحمدوني ليقين خسران القضية وضياع الأرض، كما استسلم للمعامل بعد أن ظل بعيدا عنها فترة، إذ فضل امتهان تجارة الحبوب ليظل قريبا من عبير الأرض. وباستسلامه للمعامل بدأت تظهر بوادر فشل الحل الفردي وتتجلي علاماته، إلى أن جاء الراوي بالخبر اليقين، حين أخبر بموت الحمدوني تحت آلات معمل السكر أثناء العمل. كما أخبرنا بالمآل الذي آل إليه المذكوري وهو: الجنون.
وبموت الحمدوني وجنون المذكوري يكون قد أَََََََُُُُُُُُُُُُُُُُُُُسدل الستار عن أطروحة القسم الأول، بالتأكيد على فشل الحلول الفردية. وهكذا جسد القسم الأول بطولة سلبية أثث لها الكاتب باحترافية سردية، وبعمق الرؤيا في تشكيل صورة الإنسان وديناميتها، حيث تنامت السيرورة السردية بانسجام كل العناصر والوضعيات والحوافز، وتضافرت كل المكونات من فضاء وكائنات وأشياء في رسم صورة الإنسان وتوتيرها سياقيا، وعكست حركية تاريخية سلبية تجلت من خلال الواقع الإنساني المتردي، وأعراض الجهل والتخلف واختلال القيم. انعكست جميعها سلبا على الإنسان وحجبت حقيقة أمر الواقع عنه، واتجهت به نحو الضعف والاستسلام والفردانية، في واقع استعماري شرس؛ قوي ومتماسك ومحتال، إذ نجح الاستعمار في استثمار جهل الناس فأحدث محكمة تضليلية وساقهم فرادى، وأجج صراع القيم والأنساق بخلقه أجواء الفساد الإداري والفقر والدعارة والنصب والسرقة وغيرها من المظاهر الاجتماعية المتردية التي صورتها العديد من اللحظات السردية في الرواية.
غير أن الكاتب رغم كونه قدم الحمدوني في صورة بطل سلبي، إلا أنه احتفظ له ببعض الاعتراف بالبطولة الفعلية في مواقف كثيرة، خاصة حين رفض الاستسلام للمعامل وظل وفيا للأرض، وكذا حينما رفض المساومة على الأرض. على أن ذروة هذا الاعتراف تنكشف من خلال الصورة الآتية، وقد وردت في سياق تفقد الحمدوني لبيت المحامي، فوجد البيت خاليا موحشا مهملا وأخذ من الحديقة غصنا من كرمة التين ليغرسه في بيته:
«وسل النبتة محاولا ألا يقطع جذورها الصغيرة، وأن يحتفظ بما يحيط بها من تربة ثم لفها في أعشاب جافة... قال لزوجته وهو يدك التراب حول النبتة التي غرسها في صحن المسكن قرب ركن بين البراكين:
– عطية صاحبنا... الله يذكره بالخير»(24).
إن النبتة، (وهي من كرمة التين) تشير إلى قوة الارتباط بالأرض والوفاء لها، بما هي شجرة لا تموت في أعماق الأرض بسهولة. كما أن فعل الغرس ينطوي على اعتراف بأن الحمدوني غرس فعلا بذرة النضال، ولم يقف مكتوف اليدين، ولم يكن متخاذلا، إنما اجتهد وأخطأ. وبهذا الاعتراف للإنسان، تنطوي الصورة على خطاب إدانة مبطن؛ إدانة ليست للإنسان، وإنما للسياق التاريخي والاجتماعي الذي ما فتئ الكاتب يندد به بصوته المتسلل في مناسبات كثيرة. هذا السياق الذي أفرز تشرذما وحجب الوعي الجماعي. وبغرس الحمدوني لهذه النبتة توحي الصورة بتحول وتنام، وهو ما سيتجلى خلال القسم الثاني من الرواية.
المتوالية الثانية: سيرورة الوعي الجماعي
مع القسم الثاني يبدأ السرد هادئا رتيبا رتابة الحياة وهدوءها. لكنه ظل متجها في نفس سياق التردي الذي يعيشه الإنسان، بل ازداد هذا التردي عمقا وغورا بخروج «صفية» أرملة الحمدوني وابنتها «السعدية» إلى العمل. وهي صورة عميقة الدلالات إذا ما استحضرنا السياق الاجتماعي المغربي الذي كانت فيه المرأة محاطة بعناية زوجها وبيتها. لكنها تشهد تحولا كأي شيء آخر أمام إكراهات الحياة والتاريخ. على أن تلك الصورة تزداد عمقا إنسانيا بالنظر إلى السعدية باعتبارها طفلة، إذ لم تسلم هي الأخرى من بطش هذا التحول وهذا الواقع، فجسدت وضعيتها صورة سياقية ممتدة عن الطفولة الضائعة التي رسمها الكاتب في تمفصلات سردية كثيرة.
غير أن تلك الرتابة في السرد كانت أشبه بالهدوء الذي يسبق عاصفة التحول السردي. حيث ستعرف الأحداث منعرجا سرديا حادا، دون الإخلال بالبناء السردي العام. فقد تمكن الكاتب بدهاء واقتدار إبداعيين من التأثيث الطبيعي لظهور الحلايقية في الفضاءات المجاورة للأحياء والسوق، تمهيدا لتركيزه على حلقة العالِم وإحاطتها بالإشعاع السردي، كما نلمس في الصورة الآتية:
«لم تتضخم حلقة العالم كما يتضخم غيرها، ولكن الناس ما كادوا يألفون حديثه، حتى أطلقوا على بقعته "حلقة العالم"، وأصبح لفظ العالم على كل لسان. ولعل حماسة الناس لما يقول لم تكن في بداية الأمر إيمانا به، بقدر ما كانت فضولا إلى أن يسمعوا عنه، وينقلوا كل غريب وعجيب، أو ليس غريبا أن يرمي هذا الرجل إلى خلق الكون من جديد ؟ اسمعوا، الوشم حرام: "إنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". واستطلاع الغيب حرام والسحر كذب وبهتان، ومن علق تميمة لا تمم الله له. والذبائح على الأضرحة حرام… واتخاذ الشيوخ والأولياء والأوراد واتباع الطريقة حرام في حرام…»(25).
وتعمل الجمل الأولى في الصورة على توتير الاختلال العميق لدى المجتمع بإشارتها إلى أن الناس لم يألفوا أحاديث العالم بسهولة. كما تكشف كلمتا "غريب وعجيب" هول الاختلال القيمي لديهم؛ إذ أن أمور دينهم تتبدى لهم غريبة عجيبة، وهذا ما يكرس وضعية اللاتوازن ومخاصمة الذات التي ظلت ممتدة طيلة القسم الأول، ومازالت ممتدة. على أن إيقاع الصورة تختزله كلمة "حلقة"، بحيث تجسد منعطفا قويا في سيرورة الأحداث. فرغم أن الصورة تلمح إلى استمرار نفس الوضعية الاجتماعية المتردية فإن كلمة"حلقة" خلقت تحولا على مستوى الدينامية والحركية، إذا ما قوبلت بالمحطة التي وردت في مطلع الرواية. فإذا كانت المحطة حملت دلالة استباقية توحي بالتشرذم والحلول الفردية. فإن الحلقة توحي بالنقيض تماما، كما تبينه الخطاطة:
إن الخط المستقيم يجسد تواصل المد السردي وفق سيرورة تاريخية واجتماعية متواصلة. غير أن التحول تجلى في الحركة كما تبينه الأسهم، فبينما ألمحت المحطة إلى دلالة الافتراق واستبقت إيحاءات بالدينامية الفردية التي تجسدت في النص من خلال أطروحة الحل الفردي، فإن الحلقة جاءت بحركة نقيض، وبذلك يمكن اعتبارها فضاء ذا دلالة استباقية يفترض معها أن تتحول دينامية الإنسان من حركة فردية إلى حركة جماعية.
هذا التحول وإن كان يتجلى على مستوى الفضاءات، فإنه في العمق يمتد سياقيا من خلال صورة الإنسان، على اعتبار أن صورة الإنسان هي دائما زمانية – مكانية (26). ولئن ظهر التحول في حركية الإنسان بطيئا في الصورة السابقة، فإنه يتجلى أكثر دينامية وتناميا في قول الراوي، دائما في سياق الحديث عن العالم:
«كان تنقله بين مساجد الحي، وما يسير وراءه من المعجبين به والمؤمنين، للسماع والصلاة مدعاة إلى اختلاط الناس ببعضهم، وكان يدعوهم إلى هذا، ويحثهم عليه عندما يوقف حديثه أحيانا، ويطلب من كل منهم أن يسأل جاره ويتعرف عليه، بل إنه بدأ يدعو القادرين منهم إلى أن يؤدوا صلاة الجمعة في مساجد المدينة البعيدة عن الحي، وكان يضرب معهم المواعيد لذلك، حيث يعرفهم بغيرهم من الوافدين من نواح أخرى من المدينة وضواحيها …»(27).
إن هذه الصورة تبرز حلقة العالم وقد اتسعت لتشمل مساجد بعيدة وأحياء المدينة وضواحيها. كما أن أفعال الاختلاط بين الناس والتعرف على بعضهم البعض تصب في سياق أطروحة الدينامية الجماعية التي سبق أن وقفنا عليها. إضافة إلى أن العالم يظهر في هذه الصورة يتقمص دورا ثيميا يتجسد في مصالحة الناس مع ذواتهم وقيمهم وفتح قنوات تلتقي عندها روافد المجتمع، بمد جسور التواصل والتلاقي الإيجابي. وبذلك تضطلع صورة العالم بوظيفة سياقية تتمثل في كونه شكل مرجعية صالحة ومتوازنة للمجتمع. وهكذا يكون "العالم" على النقيض تماما من صورة العرجاء التي جسدت مرجعية اجتماعية فاسدة ومختلة.
من ذلك يمكن الإقرار بأن صورة الإنسان جاءت منسجمة مع البنية العامة للرواية ومع الخلفيات الفكرية والإيديولوجية التي انبثقت عنها رؤية التأليف. ذلك أن صورة العرجاء كانت منسجمة مع أطروحة القسم الأول، ومع تحول الأطروحة في القسم الثاني إلى النقيض، عمل الكاتب على إقصائها لصالح نقيضها الذي هو «العالِم».
إن سمة التحول لم تقف عند حدود التوعية الدينية التي قام بها العالم، بل امتدت لتلامس الجانب الوطني أيضا، خصوصا بعدما أسند الراوي أمر الحلقة إلى الشاب «سي عبد الفتاح» الذي اضطلعت صورته الإنسانية بدور التوعية الوطنية وفضح مخططات الاستعمار، والدفع بالناس إلى سياق الوحدة والتضامن، ويتضح ذلك من خلال صور كثيرة منها هذه الصورة:
«"- كونوا على يقين، بأن حتى واحد منكم ما يرجع لبلده وأرضه، وكونوا على يقين بأن حتى واحد منكم ما يربح قضيته في المحاكم… هذي الحيل كلها الحكام عملوها حتى يجلبوا بها الناس للمعامل، ويتخلوا على بلادهم بالخاطر أو بالقوة، وهذا الشيء معروف …"
لعل كثيرا منهم كان يتابع حياته عبر الخطاب، وكانوا صورا طبق الأصل لما يسمعون، أبناؤهم مشردون غرباء وهم في حياة قذارة وجوع ونتن، أي مستقبل لهم أو حاضر؟
"… الطريق قدامنا أيها الإخوان طريق واحدة، هو تحرير بلادنا كلها …ووطننا كله …مغربنا …"»(28).
لا يخفى أن الصورة تصب في اتجاه الدينامية الجماعية، لما حملته من إشارات التحسيس بالهم الجماعي، ونبذ الحلول الفردية. كما تحمل خطابا توعويا بالقضية الوطنية وبالهم الجماعي، تفاعل معه الناس بإيجابية من خلال تتبع الراوي لأحوالهم وهم يسمعون كلمة «سي عبد الفتاح». وبالإشارة إلى تحرير الوطن تكون الصورة قد وصلت ذروة ديناميتها الجماعية الوحدوية.
إن الوضعية الإنسانية المتردية المتسمة بالقذارة والجوع والنتن والضياع والتشرد ظلت متواصلة كما يتضح في الصورة، لكن التحول حصل فعلا في حركية الإنسان خصوصا على مستوى الوعي، وأدى هذا التحول إلى تنام على مستوى الفعل، إذ انتقلت الشخصيات من البطولة الفردية إلى البطولة الجماعية. تجلى ذلك في مناسبات وصور كثيرة منها قول الراوي على لسان «سي عبد الفتاح» في اجتماع في المدرسة هدف إلى تنظيم العمل:
«الآن جاء دور التنظيم والتقسيم. كل واحد منا لازم يتكلف بحومة من الحي، يكون فيها جماعات ويتحمل مسؤوليتها: كبور يتكلف بمعمل السكر، المزابي بناحية الجوطية، والتدلاوي بناحية الفران... وعلي... وعباس...»(29).
ولعل الصورة غنية عن أي تحليل، إذ تكشف بوضوح عن ظهور عمل نضالي منظم، تظهر فيه الشخصيات تتوزع الأدوار بما يحقق التكامل، وهذا مؤشر وحدة وتضامن. كما أن ذات الصورة تبوح بواجهتين نضاليتين: واجهة شعبية تجسدها لفظتا "حومة" و"الجوطية"، وواجهة عمالية أومأت إليها كلمة المعمل.
لقد اتسعت دائرة الفعل الجماعي، وشملت كل مكونات المجتمع رجالا ونساء وأطفالا. وتنامى الإحساس بالهم الجماعي نتيجة تنامي الوعي، بفضل كثافة نشر الأفكار وخطة العمل المحكمة التي تبناها المناضلون. نقرأ في الصورة الآتية قول الراوي:
«- المنشورات؟
كانت سلاحهم حقا... جربوه مرارا في نشر أفكارهم وإذاعتها بين السكان، فكانت عبارات الملصقات تنقل محرفة وسليمة إلى الناس، وتتحول معانيها وعباراتها إلى أناشيد يرددها الصغار والكبار، قبل أن تعبث بها أيدي أعوان السلطة وتمزقها»(30).
تحمل هذه الصورة دلالات الوعي الجماعي واليقين الجماعي التي أصبحت سمة مميزة لإنسان الرواية. كما تعكس احتفالية الصورة استعدادَ الناس كبارا وصغارا لأطروحة العمل الجماعي وانفتاحاته المتصاعدة المرتقبة. إضافة إلى أنها تلمح إلى بوادر اشتغال أرجوحة الصراع. بإشارتها إلى رد فعل أعوان السلطة.
إن هذا الصراع ابتدأت بوادره مع تنامي الوعي الجماعي، إذ أحست سلطات الاحتلال بخطر تفاقمه فأقدمت على نهج سياسية "فرّق تسد" كما يتجلى في الصورة الآتية:
«... فقد اجتمع المقيم العام والباشا والخليفة. في مكتب المقاطعة وتدارسوا مشروعا يتعلق بالكريان وسكانه، يتلخص في ضرورة تشتيت هذه الطبقة قبل أن تكتمل قوتها، وتكتسحها الوطنية، وذلك بترحيل الكريان وتوزيعه إلى أجزاء صغيرة على نواحي متنائية في ضواحي المدينة.فجزء يرمى به إلى ناحية العنق وآخر إلى سيدي مومن وثالث... ورابع... وخامس...و...»(31).
تجسد الصورة دلالات مباشرة وأخرى خلفية، فمسألة اجتماع سلطة الاستعمار توحي بأن ثمة خطرا يتحسسونه، ومسألة تشتيت سكان الكاريان ينطوي على دلالة خلفية إذ تلمح إلى مدى ما أبداه السكان من وحدة وتضامن وتنام في اليقين الجماعي. الشيء الذي جعل الآلة الاستعمارية تتحرك، وبذلك توحي الصورة بتطورات ومنعطفات على مستوى السيرورة السردية وأحداثها، خاصة وأن السكان رفضوا الترحيل رغم نداءات السلطات، وقاموا بتعبئة شاملة سرية لتفادي عيون السلطة وأعوانها من المتخاذلين والمتواطئين الخونة.
ويظهر تمسك السكان بالكريان ورفضهم للترحيل إلى جانب أشياء أخرى من خلال قول الراوي على لسان «سي عبد الفتاح ثم كبور» في مهرجان خطابي في ملعب كرة القدم:
«-"المهم في هذا اتحادنا جميعا... وهو صبر الرجال الأحرار".
واهتزت من أعماق الجمع أصوات التلاميذ بنشيد الاتحاد لتلتحم بها أصوات الجماهير شيئا فشيئا... وما أن انتهى النشيد حتى اعتلى كبور مكان سي عبد الفتاح، وجاءت عباراته قصيرة متقطعة حازمة:
– "إخواني سمعنا الآن وعرفنا المقصود من هذا الترحيل والواجب علينا العمل... اللي منكم خدامة في المعامل، راهم عرفوا قيمة الاتحاد وجربوه، كثير منهم كانوا فكروا في الإضراب وقلنا لهم: ما زال وقت الإضراب ما وصل، أما الآن فهذا هو وقت الإضراب... إما يبقى الكريان في موضعه وإلا ما عندنا غير الإضراب العام من الآن...»(32).
إن هذه الصورة تنطوي على ملامح تصويرية غزيرة الدلالة، حيث تعمل على تصوير الالتحام والوحدة والتضامن والإحساس بالهم الجماعي، كما تستبطن مفارقة في الموقف من الكاريان، بحيث كان في القسم الأول مرفوضا، وها هو يتجلى الآن مرغوبا فيه. وهذا يؤكد أن التحول حصل فعلا في حركية الإنسان، لأن الكريان ما زال كما قذرا ونتنا، لكنه بالإنسان وديناميته وتماسك الوعي الجماعي أصبح ذا قيمة. أما الجانب الأهم في الصورة، فهو ما تكشف عنه من تماسك بين الحركة الوطنية والحركة العمالية، حيث إن «سي عبد الفتاح» يتزعم الحركة الوطنية و«كبور» يتزعم الحركة النقابية العمالية. وهذا التماسك يعِد بسيرورة صراعية متوازنة إذا ما استحضرنا كون القوى الاستعمارية كانت تعمل بتكامل سلطة القرار السياسي وسلطة القرار الاقتصادي. وها هي الآن تُواجَه بعمل وطني منظم، تتكامل فيه الحركة الوطنية والحركة النقابية. لذلك يمكن القول بأن هذه الصورة تمثل ذروة المتوالية السردية الثانية لأنها وصلت بالوعي الجماعي إلى مشارف خط التماس مع الاستعمار.
إن دينامية تحول المجتمع، لم تخلق من فراغ، إنما تولدت من بنية سردية متشابكة ومنسجمة. كما أن التحول لم يفتقه الكاتب من مجرد صدفة أو طفرة سردية، بل من خلال الوعي بمفهوم السيرورة التاريخية الذي تجسد في الشبكة النصية من خلال كل المكونات. وقد تبين لنا ذلك جليا عبر جدلية الفضاء كما سبق أن أوضحنا. لكن صدق تلك الجدلية يتعزز أكثر بالنظر إلى بنية الشخصيات وتشابكها العلائقي، بحيث كان الرهان على الإنسان. ولذلك كنا نصرح كل حين، بأن التحول طرأ على الحركية، حركية الإنسان، وأن المنعطف السردي الذي سبق أن رصدناه، ما كان ليتحقق إلا بموازاة منعطفات في دينامية الشخصيات، كما يتجلى في العلاقات الآتية:
العرجاء/ العالم: علاقة تناقض، مرجعية مختلة ≠ مرجعية متوازنة.
المحامي / السي عبد الفتاح: علاقة تناقض، نصير الحل الفردي ≠ نصير الحل الجماعي.
الحمدوني / كبور: علاقة امتداد؛ نضال فردي/ نضال جماعي.
المجتمع / المجتمع: علاقة تحول من الجهل والاختلال، إلى مشارف التوازن.
ويتضح من خلال هذه العلاقات، وغيرها كثير على مستوى الفضاءات والقيم والأنساق، أن الكاتب قام بإقصاء العديد من الشخصيات لصالح أخرى. لكن ضمن نسق سردي متواصل على مستوى الصيرورة التاريخية والواقعية، متمفصل على مستوى دينامية الإنسان ووعيه وتناميه وتحوله.
المتوالية الثالثة: انبثاق المقاومة:
تبدأ هذه المتوالية عند الفصل الرابع عشر من القسم الثاني. وبالضبط عندما تجمهر الناس في ملعب كرة القدم لتأكيد الإصرار على التمسك بالكريان ورفض الترحيل، ولم يكن تجمهر الناس ليتحقق لولا الدهاء الذي تعامل به زعماء الفعل النضالي إزاء حظر التجمع الذي فرضته السلطات. حيث ادعوا رضوخهم لقرار الترحيل، وطلبوا السماح لهم بإجراء مقابلة في كرة القدم كي يتسنى للسكان توديع بعضهم البعض، وهكذا تجمع الناس. نقرأ في الصورة الآتية:
«وبدأت خلائق الكريان تدب في نشاط غريب متقاطر من كل فج في اتجاه واحد. كما لو كانت تنصرف إلى حي المعامل في يوم من أيامها المعتادة. بيد أنها ما كانت تتجاوز أطراف الكريان، حتى تنحرف يمينا نحو أقصى بقعة شمال المباني المتواضعة، حيث يمتد فضاء فسيح خلقت منه همة رجال الحي ملعبا لكرة القدم التي نظموها منذ تأسيس المدرسة... وقد روج الرجال في الحي بكامله منذ الليلة السابقة دعوة لمباراة مبكرة، ستجريها فرقة الحي مع فرقة مدعوة تكون فرصة يشجع فيها سكان الحي لأخر مرة فرقتهم، ويودعونها كما يودع بعضهم بعضا قبل الافتراق والتشتت...»(33).
يعزف إيقاع الصورة على الحركة والنشاط والتقاطر. وهي حركة وإن كانت معتادة وشبيهة بتوجه الناس إلى المعامل، فإنها هنا متحولة على مستوى الدينامية، فالوجهة ملعب كرة القدم، وهو فضاء يستوعب حركتين متناقضتين: تجمع وافتراق في آن، لأنه بطبيعته ميدان مواجهة. وقد أومأت الصورة إلى هاتين الحركتين من خلال عبارتي: اتجاه واحد/ الافتراق والتشتت. ولأن الملعب يتضمن الحركتين، فإنه يصبح دالا وذا وظيفة ضمن سياق سردي ابتدأت متواليته الأولى بالمحطة، وابتدأت متوا ليته الثانية بالحلقة، وإذ يطالعنا الآن فضاء الملعب، فنحن إذن أمام متوالية ثالثة خصوصا إذا فطِنّا بأن الملعب يجسد تركيب حركتي المحطة والحلقة معا. ويمكن تلمس ذلك من خلال الخطاطة الآتية:
تكشف الخطاطة عن دينامية متماسكة ومتدرجة بصورة جدلية، إذ تجسد المحطة حركة خارج حركية التاريخ (الانشغال بالهموم الفردية)، وتجسد الحلقة حركة في اتجاه حركية التاريخ (تشكل اليقين الجماعي). فيما يجسد الملعب حركة في اتجاه حركية التاريخ، وحركة معاكسة من داخل حركية التاريخ، أي من الوحدة والتضامن والعمل المنظم. وفي تحول الأشكال الهندسية من الدوائر إلى المستطيل إشارة إلى أن العمل صار منظما ومؤطرا، وهي إشارة تلمح أيضا إلى تحول السيرورة السردية إلى منعطف آخر؛ منعطف المواجهة المباشرة مع المستعمر على خطوط التماس. الشيء الذي يدفعنا إلى الإقرار بأن الملعب ثالث أثافي السيرورة السردية.
ولعل سياق الأحداث كفيل بأن يعزز التأويلات السابقة، حيث نقرأ في نفس سياق تجمهر الناس في الملعب:
«وكان لا بد من عمل شيء لتبليغ قرار الجمع إلى السلطة، وهنا تقدم اقتراح نال الموافقة، وتكونت على إثره وفود أحدها للاتصال بالمقيم العام، والثاني للاتصال بباشا المدينة، والثالث بالخليفة والحاكم في المقاطعة، ليشرح مطلب السكان. وانصرفت الوفود إلى أداء واجبها تحت حماسة الأناشيد الوطنية وزغاريد النساء...»(34).
وجلي أن هذه الصورة تجسد حركة افتراق الوفود، لكنه افتراق من الداخل ولأجل نفس الغاية. وبذلك تلمح الصورة إلى دينامية متوازنة قائمة على الوحدة والتضامن وحسن التأطير، تعززه الأناشيد الوطنية وزغاريد النساء. كما تشير الصورة إلى احتكاك مباشر بين المواطنين وقوى الاستعمار على خط التماس، إذ لأول مرة يتقدم السكان بمطلب. وهو فعل ينبئ بمواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات الصراعية. ذلك ما حصل فعلا، حيث لم تعد الوفود، ولم تأت بجواب، وعاد الناس في الليل إلى مساكنهم، وبقي البعض مختبئا في القبور بعد محاصرة السلطات للمكان. وبدأت المواجهة ميدانيا، نقرأ في هذا السياق قول الراوي:
«وتصفح الباشا الجموع من جديد وفي الحين لعلع في الفضاء صفير غريب، رصاصة أولى تلتها أخريات وارتفع من بين الجموع أصوات.
– نعسوا نعسوا، الأرض، الأرض...
وتكومت الأجساد فوق بعضها في القبور، وعلا صوت "الله يرحم الشهداء"...»(35).
الصورة، كما يبدو، تكشف عن نفسها بنفسها، مواجهة، ورصاص، وقتل، وشهداء... وتؤكد بأننا أمام فصل ثالث من فصول صورة الإنسان؛ فصل أكثر دينامية وصراعية يعج بالكثير من الإشارات والأبعاد الوجودية والإنسانية، تجلت في الصورة الأخيرة من خلال الدعوة إلى الاحتماء بالأرض، كما من خلال فعل احتماء الأحياء بالأموات في القبور.
وإذا كانت عبارة "رصاصة أولى" تشير إلى بداية المواجهة فإنها ستتطور في اتجاه الأشد والأعنف، إذ ستقوم السلطات بملاحقة المناضلين وقتل العديد من المواطنين. وإحراق الكريان لفرض الأمر الواقع والإجبار على الرحيل، وما إلى ذلك، لكن إصرار الناس ازداد أكثر رغم القتل والتجويع وتعذيب المعتقلين، على رأسهم «كبّور».
هكذا تستمر هذه الأطروحة بنفس الملامح الإنسانية، وبنفس الخط التصاعدي للمواجهة، وبنفس الإصرار. حيث تمكن كبور وآخرون من الفرار وفي ذلك إشارة إلى انفتاح المواجهة واتساعها. كما ساد بين الناس تضامن وتوحد غير مسبوق.
وأنهى الكاتب أحداث روايته على هذا الخط الصراعي المفتوح، وأبى الوصول به إلى نهايته التاريخية المعلومة (الاستقلال)، لأنه لو كان فعل ذلك، لسقطت الرواية في فخ التسجيلية. لكنه أرادها شيئا آخر؛ أرادها درسا في الحركية والدينامية، والمصالحة مع الذات، وتحقيق سيرورة تاريخية بالانغماس قي تيار حركية التاريخ... وبمجرد اطمئنانه على ذلك أنهى الرواية دون أن ينهي الأحداث.
غير أن الكاتب كان بين الفنية والأخرى يلمح بشكل استشرافي إلى النهاية الجدلية والطبيعية، من خلال لقطات سردية كثيرة نذكر منها صورة تظهر فيها أرملة الحمدوني، وهي تسقي النبتة التي غرسها زوجها قبل موته:
«كانت ريح خفيفة تعبث بأغصان الشجرة الغضة، فتحتك بجدار القصدير محدثة بعض خشخشة. لقد تأخرت كثيرا في الإثمار، أكثر من المعتاد في بنات جنسها في القرية، لكنها من أصل طيب كما قال المرحوم»(36).
هذه الصورة يبدو أن لها وظائف كثيرة، فهي من جهة تعترف ببطولة الحمدوني لأنه هو الذي غرس النبتة، كما سبق أن بيّنا، وبتأخرها في الإثمار تلمح إلى بطء الدينامية وتأخر الاستقلال. ولكونها من أصل طيب، تؤدي وظيفة استشرافية بالإشارة إلى حتمية عطائها. والصورة فوق ذلك تستبطن أملا في المستقبل، هذا الأمل سيتجلى أكثر من خلال صورة أخرى وردت في آخر صفحات الرواية:
«كانت أشعة الشمس قد بدأت تتوارى خلفها في تردد، والريح الخفيفة تتزايد وتدفع معها سحبا متناثرة في رحلة ريح شتوية صادقة مجهولة»(37).
تمثل عبارة "ريح شتوية" جوهر الصورة، إذ لا يخفى ما تبوح به من أمل وعطاء وإثمار. وهي بذلك تجسد ملمحا استشرافيا يعد بالمستقبل بالكثير من الأمل والتطلع. وتشدنا في هذه الصورة كلمة "صادقة"، فهي تشير إلى معنى عكسي، أي إلى ريح شتوية كاذبة، كان قد رصدها الكاتب في القسم الأول موازاةً مع أطروحة الحل الفردي. الشيء الذي يجعل كلمة "صادقة"، وقد وردت في سياق الفعل الجماعي، تنطوي على دلالات الأمل والعطاء وتعزز أطروحة الكاتب المتمثلة في فاعلية الدينامية الجماعية. وبذلك يكون هذا الاستشراف الزمني منسجما مع سيرورة المتوالية الثالثة بما هي سيرورة فعل متوازن وتطلع نحو المستقبل.
وهذا يجرنا إلى استخلاص أن مثلما كانت بنية الفضاء منسجمة مع التوجه السردي العام، فقد كانت بنية الزمن أيضا منسجمة مع هذا النسيج. حيث جاء السرد في المتوالية الأولى استرجاعيا في معظم الأحيان، ظل معه الإنسان مشدودا إلى الزمن الماضي؛ زمن القرية. وهو زمن كان على انسجام تام مع الشخصيات التي صورها الكاتب في بعدها الرومانسي الفردي، في سياق أطروحة الحل الفردي. ومع تغير هذه الأطروحة إلى الوعي الجماعي، تحول الزمن أيضا إلى الخطية، وظهرت الشخصيات تعيش حاضرها لتؤسس المستقبل. وقد ورد سؤال الحاضر والمستقبل غير ما مرة في الرواية. أما في المتوالية الثالثة، فقد أصبح الزمن موسوما بالتطلع، تتخلله استشرافات مستقبلية كما تجلى في الصورتين الأخيرتين.
ليس هذا فحسب، بل إنه في سياق التحولات العامة التي رصدناها، سواء على مستوى سيرورة الإنسان أو الفضاء والزمن، وكذا الأطروحات، تعامل الكاتب بتدرج مع المرجعيات الفكرية التي توسل بها أثناء الكتابة. يتجلى ذلك على مستوى البعد النفسي للإنسان، حيث وظف ملامح علم النفس الفردي في المتوالية السردية الأولى، فأغرق الشخصيات في الحلم والاستيهام والرغبة و اللاوعي. أما في المتوالية الثانية فقد وظف ملامح علم النفس الجماعي من قبيل الهم الجماعي واليقين الجماعي والدينامية الجماعية وتوازن القيم. فيما مزج في المتوالية السردية الثالثة بين الفردي والجماعي، حيث مد الجسور بين الهموم الفردية والهموم الجماعية.
* *
انطلاقا من هذه اللمسات الجدلية التي أفرزتها صورة الإنسان، والتي توغلت لتشمل كل المكونات النصية وغير النصية، نستطيع المجازفة بالقول؛ إن الكاتب بنى روايته على أسس المنهج المادي التاريخي. صحيح أنه استثمر معطيات معروفة تاريخيا وواقعيا، لكنه أعاد تشكيلها برؤية فنية وفكرية متكاملة، وأطرها بإيديولوجيا مبطنة لينتصر لصورة جدلية للإنسان وديناميته الجماعية في سياق الإكراهات التاريخية.
إن الكاتب قدم عملا يتشاكل فيه التاريخي والمتخيل، معززا بمرجعيات علم النفس وعلم الاجتماع، ومؤطرا بالمنهج المادي التاريخي. واستطاع أن يرصد لحظة التحول في المجتمع المغربي؛ تحول متعدد المداخل والجوانب، إذ رصده على مستوى البنية الإنتاجية، في ظل قوة إمبريالية رأسمالية. كما رصده على مستوى البنية الاجتماعية، وكذا البنية النفسية والقيمية والتاريخية. وانتصر في النهاية للإنسان وديناميته الجماعية، التي وحدها تضمن له التوازن في جدليته مع الواقع والصيرورة التاريخية.
لقد تتبع الكاتب الإنسان في أدق تفاصليه، في ضعفه وخوفه وهواجسه واختلاله واستسلامه، وإخلاصه وإصراره وأصالته وطيبوبته. وقدم صور شخصيات قال عنها في الواجهة الخلفية لغلاف الرواية، إنه خالها تتحرك، لكننا نؤكد أنه جعلها فعلا تتحرك في صور كما لو كانت ثلاثية الأبعاد؛ تتحرك فينا ومن خلالنا وحولنا...
الهوامش
د . محمد انقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، صورة المغرب في السرد الاسباني، مكتبة الإدريسي، تطوان، ط 1- 1994، ص28 د. فاطمة موسى، بين أدبين: دراسات في الادب العربي والانجليزي، مكتبة الانجلو المصرية، ط 1965، ص 29.
ميخائيل باخثين، شعرية دوستويفسكي، ترجمة: جميل نصيف التكريتي، دار توبقال، ط 1 – 1986، ص 103.
نفسه ،ص 67-68.
بيرسي لوبوك، صنعة الرواية، ترجمة: عبد الستار جواد، دار الرشيد، 1981، ص 17 .
نفسه، ص 18.
مخائيل باخثين، الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الامان - الرباط ، الطبعة 2 - 1987، ص 33.
محمد انقار، مرجع سابق، ص 175.
نفسه ص 16.
(10) مبارك ربيع، الريح الشتوية، ط 3 – 1996.
(11) نفسه، ص 11
(12) نفسه، ص 26
(13) نفسه، ص 50
(14) نفسه، ص102
(15) نفسه، ص23
(16) نفسه، ص24
(17) نفسه، ص146-147
(18) نفسه، ص148
(19) نفسه، ص7
(20) نفسه، ص81-82
(21) نفسه، ص48
(22) نفسه، ص51
(23) نفسه، ص63
(24) نفسه، ص159
(25) نفسه، ص230
(26 ) محمد أنقار، مرجع سابق، ص 28
(27) الريح الشتوية، مرجع سابق، ص 232
(28) نفسه، ص266-267
(29) نفسه، ص238
(30) نفسه، ص206
(31) نفسه، ص259
(32) نفسه، ص268
(33) نفسه، ص264
(34) نفسه، ص268-269
(35) نفسه، ص271
(36) نفسه، ص316
(37) نفسه، ص319
مشاركة منتدى
20 شباط (فبراير) 2016, 11:36, بقلم دعاء
كبير جدا جدا جدا و انا كمان مش عارف والله يا ابو عبدالله