الخميس ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم رشيد سكري

ضحك كالبكاء

تسارع انهيار و سقوط... فجأة...

وكانت أياد خفية... كأنها تسرق قمرا... أو تقطع وتينا، بل تذبح، دون رأفة، شريانه الأبهر... فيسقط أمام أعيننا مدرجا بدماء زرقاءَ... واقفين، خائفين... كقطط وجلة في منتصف الليل، لنردد جميعا:

قفوا لحظة للبكاء... أو ضحك كالبكاء...

قفا نبك...

تعليمنا العمومي غادرناه على مضض. بنا حسرة وألم وبكاء وعويل و لطم خدود. غادرناه مطأطئي الرؤوس... خجلا من أنفسنا ومن غيرنا، إننا لم نحافظ على وجوده، وكيانه، واستمراريته في الزمان والمكان.

هل خنا، فعلا، الأمانة؟

يوم قررنا أن نغادر أسوارا كانت تحمينا من وطيس حرب ضروس، تدور رحاها على القفا الصغيرة، لـُهْوتها أطفال صغار، لم تكن آنذاك قد حلقت بعد رؤوسها، وإنما كانت تتهجى، من فم لازال أثرم، حروف لغة عربية سديدة.

دائما في قلبها ـ أي المدرسة العمومية ـ رحمة ورأفة لا رهبانية... بأولاد قد مروا هاهنا... على سديم من زجاج شفيف...

إنها أمي، التي أرضعتني حليبا طازجا وغنيا بأملاح و هيدروكاربورات. وأصبحتُ حصان طروادة، قادرا على حمل قنينات ماء على مسافات بعيدة، حيث يختلط ضباب السراب بأشياء أخرى... يتلوى السَّمْتُ مدحورا كأفعى فقدت بصرها بمطر بداية شهر أبريل نـَيسان.

غادرنا مدرستنا العمومية، وتركناها وحيدة عند الجسر، كانت تحمل في عيونها الكسيرة أحلام غد قريب، عندما كانت ترضعنا، كما درسنا أستاذ البلاغة بأمثلته الشهيرة، خبزا طريا وحليبا طازجا وتمرا كالشهد في الحلاوة.

كانت أصابعنا الصغيرة على لوح رطب أملس، نستخرج في جدول واصف مشبها ومشبها به ووجه الشبه. وكنا نخرج، في خيلاء وكبرياء، إلى ساحة متربة، وعريشها الظليل يمتد في نفوس كجداولَ رقراقة هدَّارة بماء معين. هكذا، بغـُنـْج ودلال نقلد رقصة هاري بوتر، فتنقذف في دمائنا جنون عظمة لا ندرك مصدرها.

غادرنا مدرستنا العمومية، وانبطحنا لتدوسنا أقدام و أقدام وأقدام...

انبطحنا خلف سورها الصفيق، وعلى انفراد كنا نذبِّحها، بخبث وشماتة، من الوريد إلى الوريد. يذكرني التخلي عن المدرسة العمومية بسقوط غرناطة المدوي في القرن التاسع الهجري، كان معلمي يشرح لنا هذا السقوط، والطريقة التي تم بها. فضلا عن الصورة، التي قدم بها هذا الانهيار في تاريخ الدولة الأموية بالأندلس، فهي لازالت في باحتي الرمادية زهاء أربعين عاما.

يرتدي، معلمي، بذلته البيضاء كعهن منفوش وصافية كالحليب، فطأطأ رأسه ما شيا ومشـَّاءً بين الصفوف، شبيها بأبي عبد الله الصغير عندما عقد العزم على الرحيل، فوضع مفاتيح غرناطة في أيدي القشتاليين.

فما درى أ إلى حتفه يسعى؟ أم إلى الغوغاء يرتقي؟

رجالات أمس قريب، كانت مدرستنا العمومية تنحتهم من صلصال كالفخار، فترمي بهم دون رحمة ولين إلى فرن زند أو إلى عين حمئة، كي يشتد عودهم. وتمتد فيهم جذوع مجتمع يتحسس، ويترقب ما ستأتي به الأيام. رجالات بقناعات تتصدع لها الجبال، وتفور لها الأعين و البحار من الغيظ. أرضعتنا مدرستنا العمومية حليب المساواة بين البشر والحجر، فكنا نحمل معنا، من أجل هذه المساواة، خبزا نضعه في كيس معلق على مشجب يتيم قرب المعلم. فعندما يحن وقت التحرر من الدرس، تمتد أياد صغيرة إلى الكيس كما تمتد إلى عيون القمر، لحمل كسرة خبز بغية إخماد لهيب قـُداد يعتصر جوفنا... من جوع ضارٍ، لأن الجوع كافر... وأيضا الفقر كافر. فكيف ما كان صيدك ثمين من خبز يصبح نصيبك وقدرك العظيم، والغريب... أن الخبز أنواع وألوان...

خبز بالشعير، وآخر بالذرة الصفراء المذهبة، وآخر بالقمح الطري، ومن منا من يأتي بخبز محمص مدهون بزيت الزيتون، بيد أنه لا يستطيع أن يتناوله أثناء تحررنا من الدرس، لأن المعلم حريص كل الحرص أن يأكل كل تلميذ ما جاد به نصيبه من السحب العشوائي من هذا الكيس الخبزي.

الآن، تقطعت السبل باليتم أو اليتم الذي تقطعت به السبل...

حيتان تأكل الأخضر واليابس، بل تشيد مناسك قتل وذبح على صراط الدنيا. في ساحة الكوريدا كان الثور يرقص على جراح الموت، زاحفا... مدرجا بدماء غدر وشماتة... يلقي نظرة وداع على صاحبه، بل يمنحه قبلة وداع... وهو الذي قدمه قربانا للسفاحين والسيافين والذبَّاحين.
رقصتنا، بعدما خنا الأمانة، رقصة ديك مذبوح على أعتاب المسخ الكفكاوي.

سامسا يا سامسا!

عد إلينا... كما يعود المساء إلى بطاحه. لقد تشبعنا بقيم الحب والخير والعشق والوله، فلمَ غدوت حشرة مقززة منزوية بالبيت؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى