

طائر الفينيق
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
في صيفٍ بين التشرينين كان دمي يئنّ تحت سياط الشمس، وجراحي تلمع على قتامة الشجر، وكانت جذور الأشجار ترشف دماءنا من الطوفان لتشتدّ أغصانها، فتتحدّى الرياح، وتمتدّ عميقا في الأرض، وكانت أشلاء الأحبة غيوما من ضباب هاربة من غزارة الهجوم العنيف.
الدمار يحاصر الطرقات، ينسيها هويتها ودورها، حواجز من الردم تسدّ الأفق، فتغيب الأبنية، وتكثر الرسوم الدوارس التي أخذت تتكوّم وتمتدّ، لتحجبَ الأمل.
وأنا كما أخوتي العشرة في طبقة عزلاء، خلَت إلا من الأهل والأقارب من مبنى اعتقده الناس سفينة نوح، فتدافعوا إليه طالبين النجاة من جنون الطائرات الحربية المعادية، كنا نتحلّق حول جدتي نستمع إلى قصصها عن الحرية الحمراء، وأبطالها المقاومين، بشغفٍ، وإذا بصاروخ، يقع بيننا فيخسف الأرض تحتنا، وينثر لحمنا على الجدران، بينما عصفه العاتي حملني، وطاف بي في حيّ صامد في شمال غزة، ثم رماني طائرا مذبوحا تحت كثيبٍ من ردم.
كان صوت الصاروخ آخر خيط يربطني بالحياة، غير أنّ هامة فوق رأسي أخذت تشحن رئتيّ بهواء متقطّع عاجز، عبر فم يعوم بدمه، ومع الوقت بدأتُ أصحو على شهقة فجر يوم من أيام لا أعرف عديدها، كنت أستجدي الهواء مصحوبا بالتراب بعياء كبير تحت الركام، وكان رأسي سبورة حمراء، عليها خربشات طفولة مؤلمة، وشريط من المعاناة يطول، وبعض ملامح أخوتي وأبناء أعمامي ورفاقي، طفقت تلوح أمام ناظري المغبرّ، كأنها قمصان على حبل غسيل يلاعبها هواء المساء.
ربما يومين أو ثلاثة لا أدري، وأثقال بقايا وطن فوق كاهلي، وفي صبيحة ذات يوم، شعرتُ بجسدي يهتزّ بارتخاء بين أيادٍ جبارة عنيدة، وسمعت صوتا يتيما جاف في فراغ موحش:
انتبهوا أيها الرفاق.. إنه حيّ، لم يزل يتنفّس.
تعاقبت الليالي المرعبة والنهارات الحزينة عليّ، وأنا مسجًى على ذلك السرير، وذات نهار مظلم، تسلّل نور خافت إلى عينيّ الذابلتين، فإذا بي معلّق بأسلاك كثيرة بين الأرض والسما، ، تفحّصت المكان بصعوبة بالغة؛ غرفة كبيرة يحاصرها الأنين، حشرجات الوجع يجترّها الصدى، فتبصقها الأسرّة التي انبسطت طولا وعرضا في ذلك المكان الضيّق، ثمّ تترنّح على الأرض، حيث أكوام من اللحم البشري، تتجمّع في أرجاء فراغات الغرفة، محشورة بين الأسرة، فتملؤها بأسى دامع .
حاولتُ الاستفسار، فمنعني العجز، أردت الصراخ، فلم أشعر بشفاهي، كان لساني سمكة رخوة ميّتة في حوض جاف، حاولت رفع يدي لألوّح لرفاقي المقتولين، لأخوتي تحت الحطام، لأطفال يحلّقون ملائكة في الفضاء، غير أنّها عصتني، وتمرّدت على إرادتي. حاولت تحريك أطرافي، لأتأكّدَ إن كنتُ حيا كما زعموا، أم ما أنا فيه أضغاث أحلام، كان جسدي منفصلا تماما عن أعضائه، مرتميا، لوحة مسجاة فوق سرير أبكم أصم...
لا أعرف أكنتُ قد أرخيت أفكاري كما ارتخى جسدي، أم أنّ السائل الذي يجري في عروقي أعادني من تلك الغيبوبة الطويلة، أم لعلّه يوم حشر طلع فجره في تلك الغرفة التي جعلتني على أهبة الانتظار؟
كل ما أذكره أنّ هالة من نور كأنّها المُنتظَر، وقد عاد من غيبته إمام عصر ساد فيه الظلم والفساد، عاد ملاكا رحمة وإنسانية، وبيده سيف الحق والعدالة، حملتني الهالة النورانية على جناحيها، وطارت بي نحو الأعلى، ظننتُ أنّني لاحق بأخوتي. فتَحَتِ السماء فوّهة من نور، وتدلّت أدراجُها، ثمّ هبطتْ إليّ، ونفخت في الجسد الموات روحا، كانت تحوم في عالمها السرمدي، باحثة لنفسها عن رحم يحتويها فعادت إلى جسدي، ورجعت بملائكة مطمئنة تاقت عبادته وجنّته، فعبق الفضاء برائحة المسك، وانتشرت الملائكة على هيئة خارطة فلسطين، فتزينت السماء بنجوم شاخصةٍ إلى الأرض، وأرواحٍ تحلّق في الأعالي، ترتقي راضية مرضية.
فكرتُ، كم من الوقت عبرني، وأنا الغائب الحاضر، أحلّق بجناحين ليسا لي، وأحطّ على ذلك السرير الذي احتوى أشلائي، فانجمعت برعاية طبيّة متواضعة، لتستحيلَ جسدا من وجع، خاطَه طبيب المعجزات، كان فأس العدو العاتي قد قطع شجرة عائلته وحطّم فروعها، ولم يبق سوى هذا العرق الأخضر الذي يقف قبالتي، كأنّه زين العابدين وقد تركه الله على قيد الحياة لحكمة ما، غير أنه تُرِك صريع حزن دفين على جبل من صبر. وأخذت أناملُه الماهرة ترتق ما فتقته الصواريخ الغشيمة، وتجمع أشلاء الضحايا، فينفخ الله فيها، ومن جديد تولد.
وفي صبيحة ذات يوم كانت الغرفة قد انقشعت تضاريسها، وخلت مِن أكوام اللحم إلا مَن كتب الله له عمرا عصيا، حمل الطبيب شمس كفّه، فأنارت عينيّ من جديد، ومرّر عقاقيرها على جسدي، فأعاد ألعازر من موته حيّا يُرزق.
كم كانت حَيرتي كبيرة عندما حرّكت شفتي لأتكلّم، فاستجاب لساني وحنجرتي، وبصوت خافت، وكلمات متقطعة حروفها، بادرتُ الطبيب بسؤال مستعجلٍ، مخافةَ أن يتلبّسني العجزُ ثانية:
– لِمَ تركتني أحيا، وأهلي أموات؟
بدت بسمة عميقة الحزن على شفتيه، وبوداعة طفل أجاب برزانة موثوقة:
– لن أفعل، بل المعجزة الإلهية أرادت ذلك.
تململتُ بوجع رخوٍ يسري في جسدي عبر أنبوب حقنه الطبيب خالد يزحف فيه جيش حليف من المضادات لمقاومة الوجع، وقلت:
– وما نفع أن أكون وحيدا وسط هذا الدمار الرهيب، والفقد سبب شقائي وعلّتي.
وبوقار هادئ تعلوه مسحة أمل على وجه بشوش ناداني:
– صقر... وأدار وجهه ناحية الأسرّة المتأوهة، مشيرًا بسبابته قائلا:
– لكلّ جريح من هؤلاء الأخوةِ شجرة عائلة، بفروعها وأغصانها ،لم تزل تحت الردم، وعلى الرغم من ذلك، يحدوهم أملٌ بالشفاء، يتواعدون العدو بالانتقام، ويعدون الوطن بالنصر.
أدرت وجهي العبوس ناحية الباب، وظللت صامتا، غير أن الأخ خالد أخذ نفسا عميقاً ملأ رئتيه به، ونفثه متنهدا، ثم ربّت على كتفي بيديه الحنونتين وقال:
– أصبر يا بني، فالعِبرة لمن اعتبر، الاحتلال زائل لا محال.
تركت عينيّ ترعى الغرفة بتؤدة، وتعاين كلّ من فيها، وحين امتلأت بآهات الجرحى، نزفت روحي دمعا كثيفا، ثم ملتُ بنظري ناحية المخلّص خالد، وقلت مجهشا:
– الفقد موجع أخي الكريم، وقطعُ الأرحام غربة موحشة، وحبّ الوطن يخنقني، وأنا وحيدٌ، صغير، وليس بيدي حيلة.
ارتفعت نبرة صوته برزانة، وقال:
– أرجوك يا بني، لا يأس مع الأمل، وأملنا بالله كبير، القضية قضيتنا، ولن نستجدي العون إلا من الله العادل الحكيم.
شعرت أن سبابته تصرخ بوجهي، وهي تلاعب الهواء بثقة عالية ، جاء صوته من خلفها مجلببا بنبرة حازمة:
– لا تتخاذل أو تجبن، ولا تتجلبب بالحزن، فلله في حكمته شؤون، لا وقت للبكاء، طريقنا إلى القدس مفتوح أمامنا، ولا بدّ لنا أن نعبره، وإن بنهر من دم، لن نتراجع عن دماء الشهداء، وأوجاع الجرحى، سنواصل الدرب بمن بَقِيَ.
وبقلب خفوق متمرّد، نظرتُ إلى وجهه، فإذا بدمعة عصية تسلّلت هاربة من عينه عنوة، فبادرها بسبابته، محاولا صدّها كي لا تُقرِئني ما بداخله من حبّ وانتقام . ثم حمل رأسي بين يديه، وبرفق محبّب أدناه إلى صدره، فارتخى رأسي طائعا بود، ثم ربّت على كتفي بتحنانٍ، وأعاد جملته:
– سنواصل الدرب يا بني.. دماء الأحبة أمانة في أعناقنا، وتراب الوطن ينادينا، وحزمة عصبتنا سوف تزيل العدو الغاشم من الو...جو..
لم تمنحة الغصة وقتا ليكمل كلمته، بل شغلته بازدراد دمعة أوشكت أن تخونه، وردّد:
– سوف ننتصر...
ثمّ هزّ جسدي كمن ينخل القديد ليزيل منه الدخيل، فتساقطت عينيّ غزيرة، وسرحتْ بحزمه وصرامته وثقته، وسرعان ما نقلت إليّ عدوى الثقة بالنفس من حكيم حكيم، وشعرتُ أنّ فلسطين تتشكل في رأسي وطنا حرا مستقلا، فأطلقت نَفَسا طويلا وقلت:
– وعدا إنه الفتح المبين، لن نتراجع عن حقّنا مهما غلت التضحيات، بل سنواصل الدرب، وسيفرح شهاداؤنا بالنصر القريب، سوف نستولدهم من جديد، ويعودون إلينا على هيئة وطن يسوده الأمن والاستقرار.