الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم إسماعيل صالح محمود فتح الباب

ظل على الجدار

لا هدنة لنيران المدافع، ولا فسحة لالتقاط الأنفاس. المجنّحات القاتلة تملأ السماء، تحجب نور الشمس، وتزرع الظلال في كل زاوية. المدينة غارقة في ليلٍ دائم، لا يُنيره سوى وميض انفجار أو شرر قذيفة.

يركض الجميع في ذعرٍ لا ينتهي، أجسادهم تترنح كأطياف، وظلالهم الشاحبة ترتجف على الجدار الوحيد الذي ما زال صامدًا وسط أنقاضٍ تتنفس الموت.

لا شيء هنا يستحق البقاء سوى هو..

هذا الصغير، يحمل في إحدى عينيه شمسًا لم تغب، وفي الأخرى أسئلة تنوء بها روحه، فلا هو قادر على البوح، ولا هي تملك أجوبة.

أهي طفولته المسروقة؟ أم الجوع الذي لا يُطعم إلا وهماً؟

من كوة بالمخبأ يرقب ومضة حياة في السماء المظلمة ثم ..

ينطلق ..

طلقة صغيرة أطلقها الزمن في غفلة الحياة بين أطنان الركام ..

تراه على انعكاسات ألسنة اللهب المتراقصة ظلا صغيرا يركض وسط ظلال هزيلة تسكن الجدار منذ زمن ،يركض خلف بصيص أمل، وجبة تسقطها مجنّحة بيضاء تظهر في ذات اللحظة التي تختفي فيها. وميضٌ عابر، كأن الحياة تعتذر له به، وتقول: "ابقَ قليلاً... فقط قليلاً بعد."

لقيمات تبقيهما أحياء ..

أو أطياف تنبض على إيقاع بطيء..

في صباحٍ لا يختلف عن ليلٍ مضى، جلس الطفل قرب الجدار الكبير، ذاك الذي ظلّ واقفًا رغم كل شيء، كأنّه شاهد حيّ على ما تبقى من المدينة.

كان الهواء ساكنًا، والأصوات نادرة، إلّا صوت جرافة بعيدة، تشقّ الأرض كأنها تجرّ ذنبها.

أمام الجدار، رأى الطفل شيئًا غريبًا، لم يكن صندوق إغاثة، ولا ظلًا راكضًا… بل ورقة.

نصف محترقة، تتراقص بفعل نسمة خفيفة.

التقطها بيدين مرتجفتين.

على الورقة كلمات غير مكتملة، لكنها واضحة بما يكفي:

"سنبقى هنا... ليس لأننا نحب الحرب، بل لأننا نكره الهزيمة."

قرأها مرة، ثم مرة ثانية.

لم يفهم كل شيء، لكنه شعر بشيء يتحرك في صدره، شيء جديد… حار كجمرة.

ركض بها إلى أمه، رفع الورقة أمام وجهها كمن اكتشف كنزًا.

– "ماما، شوفي… في ناس زيّي، لسه بدهم يظلوا."

نظرت إليه، ثم إلى الورقة، ثم إلى عينيه.

فيهما وهجٌ لم تره من قبل.

– "بدك تظل؟"

أومأ دون تردد.

ثم قال، بصوت كمن عثر على أول جملة في كتاب حياته:

– "أنا مش بس بدي أعيش… أنا بدي أفهم ليش ما نعيش. بدي أعرف ليه بننقهر، وليه لازم نضلّ، وليه النصر لازم ييجي من عيوني أنا، مش من سماء بتطعمنا وتمشي."

صمتت الأم..

فهي لا تملك من الكلمات ما يسد حاجته، ولا تجد في عزمها ما يكافئ فورة غضبه..

كان القصف يعلو، لكنه لم يعد يُخيف.

حتى الخوف غاب منذ زمن تحت الركام، وذاب في الطرقات المغلقة، وتحوّل إلى صمتٍ ثقيل لا يُحتمل.

في زاوية غرفة نصفها حيّ، ونصفها ميّت، جلست تضم ابنها، لا لتهدئه، بل لتستمد منه ما تبقى فيها من حياة.

نظر إليها، ولم يتفوه بحرف..

أمّي، لا أحد هنا... فقط ظلال.

تركض على الجدران عندما تنفجر السماء.

وجوههم ذائبة، خطواتهم بلا ملامح، بلا وجهة.

شدّت على كفه المرتجف، كأنها تقول: أنا معك.

لكنه أكمل، بعينين لا تشبهان الطفولة:

حتى ظِلّي، صرت أكرهه.

أراه يركض بينهم.

يسبقني، كأنه يعرف الطريق إلى الخوف أكثر مني.

لا أريده أن يركض.

لا أريده أن يُشبههم.
سكت.

ثم انفجر صوتٌ قريب.

جدارٌ انهار في المنزل المقابل، وطار معه ظلّ صغير كان قد وقف للحظة، كأنّه قرر ألّا يركض.

أرأيتِ؟ ذلك الظل... توقّف.

هل مات؟ أم أنه تَعب؟

لم تعرف ما تقول.

لكنها أدركت أنه يرى أكثر مما ينبغي.

طفلها لم يعد كما كان.

تحوّل إلى ظلٍ آخر، يبحث عن معنى، يبحث عن نفسه وسط غابات الدخان.

لم يدر كيف مرت الأيام ومتى بدأ الأمر. كان هناك، واقفًا عند النافذة، يرقب المدينة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة الحصار. الدخان كان يرتفع في الأفق، أصوات المدافع تقطع سكون الليل، وتمتزج بشهقات القتلى، صفير القذائف مازال يصرخ بأن الموت وحده يملك السيادة هنا.

تراجع إلى الداخل وأغلق الستائر. في زاوية الغرفة المظلمة جلست والدته، ملامحها غارقة في ظلال المصباح الخافت. كان الشحوب قد احتل وجهها منذ أشهر، منذ أن توقفت طيور الرحمة عن التحليق، والماء صار يُقاس بالقطرات

كان يقول لها "ستأتي غدا، أعدك."

لكن وعوده كانت فارغة، يعلم ذلك. في الخارج، كانت الشوارع خالية تماما حتى من الأشباح، كل شيء كان ينهار، حتى الأحلام.

في المساء، طرق الباب صديق قديم. كان يحمل تحت معطفه شيئًا ثقيلًا، وعيناه تحملان ذلك البريق الذي لا يأتي إلا لمن عبر نقطة اللاعودة. قال له بصوت خافت: "حان الوقت."

في الأزقة الضيقة، سار الاثنان جنبًا إلى جنب. الأرض تحت أقدامهم كانت تئنّ، تشكو من ثقل الخطوات التي تعرف أن النهاية قريبة. عند إحدى الزوايا، توقفا، وأخرج صديقه من تحت معطفه بندقية قديمة. ناوله إياها وقال: "الآن، لن نكون مجرد ظلال على الجدار."

كان يعرف أن هذه اللحظة ستأتي، لكنه لم يكن يعرف كيف ستشعره بالبرد، كأنها مسحة جليد على عظامه. قبض على السلاح بقوة، كأنه يمسك بآخر خيط يربطه بالحياة.

تحركا نحو الحصن العسكري على حدود المدينة. هناك، كانت الأضواء خافتة، والجنود مسترخين في غفلة. لم يكن هناك وقت للخوف. رفع السلاح وأطلق رصاصته الأولى.

لم يعد يسمع سوى الطلقات والصرخات. قلبه صار يدق بإيقاع الجنون، الزمن انكمش إلى لحظة واحدة، مشحونة بالكهرباء والدم. سقط صديقه بجانبه، ولم يستدر. لم يكن هناك وقت للحزن، لا مجال للندم.

عندما انسحب إلى أحد الأزقة، شعر بيده ثقيلة، بدمه ينسكب بحرية. لم يكن يعرف إن كان جُرح أم أن الزمن نفسه بدأ يتسرب منه. جلس عند الجدار، يراقب الضوء الخافت للمدينة وهي تتلوى تحت القصف.

تذكر والدته، ابتسامتها المتعبة، وكلماتها التي لم تكتمل. تذكر الأيام التي كانت الشمس فيها تشرق بلا خوف، حيث لم يكن الليل مرادفًا للرصاص.

لكن هذه لم تكن النهاية. مع الفجر، وجد نفسه محاطًا برفاق لم يكن يعرف عنهم شيئًا، رجال ونساء خرجوا من الأزقة المظلمة، يحملون البنادق، والدماء تلطخ أكمامهم. لم يكن وحده.

قاد المجموعة عبر الشوارع المدمرة، متجنبًا الدوريات، زارعًا الرعب في قلوب الجنود. كان اسمه يُهمس في الأحياء، كان ظله يطارد المعتدين.

وفي الليلة الأخيرة، كان يعرف أنها النهاية. عند ساحة المدينة، وقف وحيدًا أمام دبابة تقترب، رافعًا سلاحه بلا تردد. كان يمكنه الهرب، كان يمكنه الاختباء، لكنه لم يكن مجرد مقاتل. كان رمزًا.

أطلقوا عليه النار.

سقط جسده، وخفت كل شيء حوله ..

شعر بخطوات وئيدة تقترب ..

كف نحيل يمسح على جبينه ..

اتسعت ابتسامته..

"لم أعد ظلا على الجدار يا أمي"

غابت روحه ..

لكنه لم يغمض ..

و الشمس في مقلته لم تنطفئ ..

لم تزرف دمعة، كانت ترتدي زي المقاومة، نهضت واقفة، لثوان بدت كتمثال من حجر قبل أن تركض ..
بكل قوتها ..

ليس باتجاه الجدار ..

و لكن ..

في الاتجاه الآخر.

تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى