الثلاثاء ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم محمد السموري

عالم العجيلي القصصي والرِّوائي

يعدُّ الدكتور عبد السلام العجيلي واحدا من أعظم كتاب القصة العرب ,فقد أصدر ثلاث عشرة مجموعة قصصية وهي: بنت السّاحرة (بيروت، 1948)،و ساعة الملازم، (بيروت، 1951)، وقناديل إشبيلية، (بيروت، 1956)، والحبّ والنّفس، (بيروت، 1959) و«الخائن، وصيف العذراء السّوداء، (بيروت، 1960، والخيل والنساء، (بيروت، 1965)، وفارس مدينة القنطرة، (بيروت، 1971)، وحكاية مجانين والحب الحزين 1979، (بيروت، 1972) وفصول أبي البهاء (دمشق، 1986)، وموت الحبيبة، (دمشق، 1987 ومجهولة على الطريق، (بيروت، 1997).

وكان انتقاله من جو القصة الحاد الى جو الرواية المستفيض شعورا منه بالحاجة إلى هذا الفن ,توافقا مع التحولات الاجتماعية ,والسياسية والثقافية, التي شهدتها الستينيات ,ومجمل العوامل الأدبية وغير الأدبية التي سمحت لظهور الرواية العربية باتجاهاتها الكلاسيكية الجديدة ,بعد انطلاقة الاتجاهات الابتداعية على يد شكيب الجابري في روايته ( نهم) والاتجاه القومي الوجودي على يد مطاع صفدي في ( جيل القدر) فأصدرالعجيلي سبع روايات هي: باسمة بين الدموع 1959, قلوب على الأسلاك 1974, ألوان الحب الثلاثة 1975, بالاشتراك مع أنور قصيباتي ,(أزاهير تشرين المدمّاة 1977 ), المغمورون 1979, أرض السيّاد 1988, أجملهن 2001. رواية العجيلي الأولى: (باسمة بين الدموع) بيد أنها عاطفية لكنها عنيت بفساد الحياة السياسية في سورية في النصف الثاني من الخمسينيات، وتصدّت (قلوب على الأسلاك) للحديث عن تجربة الوحدة بين سورية ومصر,وعاودت (ألوان الحب الثلاثة) الحديث عن تلك التجربة ، ومجّدت (أزاهير تشرين المدماة) ما أبداه المقاتل السوري من استبسال في حرب تشرين ، وتبنّت (المغمورون) قضية الفلاحين الذين تمّ تهجيرهم إلى مناطق بعيدة عن قراهم وأراضيهم إبان بناء سد الفرات .

ويرى الدكتور عبد المجيد زراقط (لبنان) أن رواية (المغمورون) تمثل ظاهرة تاريخية، فالمغمورون ليسوا من غمرتهم مياه السد فحسب إنما المغمورون في الاجتماع الإنساني طوال التاريخ ويقرأ خليل صويلح (المغمورون) (بلاغة عربية أصيلة، تمتح من معجم التراث، في تناص صريح، بين أمثولة الأمس وأمثولة اليوم، وكأنه (ستندال) من الشرق، يلتف بعباءة القيم الأصيلة. لتأصيل حكاية عربية، لا تلتفت إلى تقنيات وافدة،.( ) وتابعت (أرض السيّاد) مشكلات منطقة الغمر وقضاياها بعد بناء السدّ، أما روايته الأخيرة (أجملهن) فقد عالجت علاقة الشرق بالغرب.وحسب صلاح فضل: (مصر) فإن (أجملهن)تغمر قراءها بعنفوان تجربتها الشابة وما يتوهج فيها من عشق للجمال وسحر الأنوثة وحرية الحب، إلى جانب الخبرة العالية بفنون الموسيقا والنحت والآثار والطبيعة. أما مجموعته (رصيف العذراء السوداء) التي ضمت ثلاث قصص طويلة، وقد صنفت علي أنها رواية قصيرة، وليست قصة طويلة.ومجموعته ( مجهولة علي الطريق) التي ترنو في بعض ملامحها إلى خصائص الرواية، وهو نوع من التهجين يحتمله الأدب بإجماع النقاد والباحثين ،وأصدر عددا من المجموعات التي تلتبس فيها المحاضرة والمقالة والقصة كما في (حكايات طبّيّة-أحاديث الطبيب , وحب أول وحب أخير - سعاد وسعيد، ‏ وسبعون دقيقة حكايات ,ومن كل وادٍ عصا، وأحاديث العشيات, والسيف والتابوت و عيادة في الريف, وحفنة من الذكريات وجيل الدربكة, وفلسطينيات عبد السلام ,ومحطات من الحياة , وأدفع بالتي هي أحسن.فضلا عن أدب الرحلات فقد أفرد له دعوة إلى السفر, و حكايات من الرحلات ,حيث تتغلغل هنا المذكرات في ثنايا القصة الإبداعية .

في البدء نتناول مدرسته الروائية من حيث الشكل ، فهو يحرص على تجزيء نصّه الروائي إلى وحدات سردية يتصدّر بعضها العلامة الشائعة في الأغلب الأعمّ من السرد الفنّي العربيّ الحديث، أي: (فصول)أو(أجزاء) ويتصدّر بعضها الآخر أرقام، وغالباً ما يلحق الروائي بالفصول المكوّنة لنصوصه التي تنتمي إلى المجال الأول علامة فرعية وفعالية التقسيم والتجزيء تلك تترجح بين سمتين رئيستين: فنيّة /جماليّة أو/تزيينية ،وبهذا المعنى،فإنّ الروائي لا يقدّم نصوصه على نحو متتابع زمنياً، ولذلك فإنّ تلك النصوص غالباً ما تمتلئ بمفارقات سردية على مستوى البنية الزمنية ،أو تمتلئ تلك المفارقات بمختلف تقنيات بناء الزمن. مخالفا الشكل الذي تسير عليه الروايات ا لعربية عادة معتمدا على تجربته الناجحة في قناديل أشبيلية معتقدا أنه بتداخل الأزمنة.
،كالاسترجاع,والاستباق،والخلاصة،والحذف،والاستراحةأوالوقف,والاستغراق،يدير رأس القارىء ليريه ألوانا من الجمال الفني لم يره إياه كتابنا الآخرون , ممّا يشير، إلى أنّ العجيلي كما يبدي حرصاً على بناء نصّ حكائي بالمعنى التقليدي يبدي، بآن، حرصاً واضحاً على تحرير ذلك النصّ من أسر الحكائية بمعناها المتواتر( حكايات والجدات ) ليصير النصّ معه فناً كما هو حكاية معاً. كما تجدر الإشارة ، إلى ما يتردّد بين تضاعيف السرد في مجمل عالم العجيلي الروائي من مناظرات فكرية،وحوارات ثقافية،وسجالات معرفيّة ثنائية كثيرة أومتعددة الأطراف ،العجيلي حير النقاد ( ) في توصيفه، فهو واقعي، رومانسي تارة وهو تقليدي تارات.. وهو أيضاً غيبي، قدري ميّال الى الغرابة والخيال العلمي.. والعجيلي كاتب إشكالي ،فتارة نجده يتلبس شخصياته وتارة أخرى يتحدث بالنيابة عنها بمنتهى الحذق والخفة كأنما الأمر يأتي معه طبيعيا ودون اصطناع ( ) وفي كل ما كتب عنه، كانت قلادة الريادة على صدره, والنقد الأدبي اعتبر الرجل واحداً من رواد القصة القصيرة في سورية،لكنه يقول : (ليكتب النقد ما يشاء) ويعتبر نفسه مجرد هاوي ( إن الرائد هو الذي يفتح طريقاً لمن يأتي بعده، وأنا في الواقع لم أفتح طريقاً إلا لنفسي.

الرائد الحقيقي هو فؤاد الشايب..) ويقول العجيلي : أنا أستخدم القصة القصيرة لأعرض فيها أفكاراً وأنسج أخيلة ,كثيراً ما تكون غير واقعية. كتبت قصصاً قصيرة من الخيال العلمي، وقصص "فانتازيا" مبنية على الخيال المحض، وقصصاً تدور على أفكارٍ علمية غير مألوفة.أمّا رواياتي فهي تنتمي إلى الجنس الواقعي في أحداثها. قد تكون الأحداث فيها متخيلة بعضاً أو كلاً، ولكنها أحداث إذا لم تكن قد وقعت فعلاً فإنها قابلة لأن تقع في الحياة كما أصفها أو قريباً مما أصفها ,مجموعته الأولى بنت الساحرةالتي عدّت انعطافا حيا في تاريخ القصة القصيرة في سورية، ومؤشراً لاستواء الاتجاهات التقليدية في إنجاز قصة فنية إتباعية من حيث ضبط المعايير الفنية وعناصر القصة فيما وصلت إليه في الغرب ,كتب د.حسام الخطيب ( لم تكن هذه المجموعة إعلاناً عن ولادة كاتب قصصي عظيم فحسب، بل كانت إعلانا عن بدء استواء فن جديد متميز في التجربة الأدبية في سورية، )مجموعة بنت الساحرة تحتفظ بقيمة تاريخية كبرى بالإضافة الى قيمتها الفنية ,غير أن تضاعيف قصة العجيلي جاوزت هذه المعايير التقليدية -الباحث محمد جدوع يرى أنه (استطاع أن ينجب عالما مركبا يتمازج فيه الواقعي مع الخيالي. وتحت هذا التركيب يرصد ثلاث ركائز لكتابة العجيلي: التراث، الانفتاح علي الآخر، والواقع كما يرصد أربع موجات من ألوان الكتابة لديه. البدوي,اللون الريفي - التنافس - العلاقة مع الآخر .).

ويرى أبو هيف ( )أن العجيلي مازج باستمرار بين العلم والطقوس والشعائر والأعراف لتنسرب منظورات التخييل، ومنها الخرافة والحلم والوهم، قوية في صلب التحفيز الواقعي عند اكتناه مجالات تعليل الخطاب القصصي الثري بالدلالات والمعاني.‏.‏وأفصح العجيلي مبكراً عن مقدرته السردية الفائقة في كتابة قصة فنية بامتياز تأخذ بتقاليد القص في أبهى تجلياته مستفيداً من عناصر التمثيل الثقافي العربي في الوقت نفسه في تشكل السرد من خيارات الخبر والحكاية والمنادمة والمسامرة بذاتها إلى تماهيها مع مبنى قصصي مفعم بالإشارات والإحالات الثقافية والكلامية مثل الشعر والأمثال والأقوال والرموز وسواها. نقرأ في قصص العجيلي مواقف فكرية في صوغ فني متألق نحو إدراك مأساة الوجود العربي بتعالقاتها القيمية المختلفة لدى تناول الموضوعات ببعديها القومي والوطني من جهة، والإنساني والاجتماعي من جهة أخرى.‏. ويجد القارئ لأدب العجيلي سجلاً حافلاً لتحولات البيئة والمجتمع، وتغيرات الأفكار والمفاهيم في زمنه من رؤى الماضي إلى استشراف المستقبل. ( )،ويرى بعض النقاد أن ضمير المتكلم،الذي امتاز به وميزه ظل نائماً في اللحظات الحرجة، وحتى حين قرر أن يكتب مذكراته، فقد ذهب إلى الضفة الأخرى، ذكريات أيام السياسة ويوميات جيش الانقاذ، كنوع من الحفاظ على هيبته البدوية! فيما يحتاج الأدب إلى مكاشفة وتوغل في المناطق العميقة في الذات .

وإنْ اختلفنا مع هذه القراءة كثيرا ذلك لتميز العجيلي بل وانفراده بتماهيه بشخوصه القصصيه وأبطاله إلى حد الدهشة وهذه الحالة أقرأها على أنها براعة الكاتب في تمويه الذات من خلال التمازج بينه وبين شخوصه , فحياؤه الشخصي جعله يندسّ في عمق روايته , وقد كتب العجيلي ذلك بنفسه عن أسئلة القرّاء الملحة عن بعض قصصه فيما إذا كانت هي مذكرات أم مجرد خيال قصصي (نموذجا سالي – اللوزة وحبة الملبس الخ ). إنه يستخدم دائماً ضميرالمتكلم. ولكن هذه الصيغة ليست ملزمة لاعتماد الكاتب بطلاً للقصة. على أن ما يثير القارئ فيها هو أن الكاتب يستلهم مدينته، والقرى المحيطة بها، والبلاد التي زارها، ومع ذلك فهو يشير، في ملاحظة على الغلاف الأخير لمجموعته (ساعة الملازم) بأن ما يرويه من قصص هو توهم وشطحات خيال مع أنها تسوق إلى ذهن القارئ الشك في صدقه وحقيقته. ولئن كانت ثمة إشارات تقطع الشك باليقين من حيث أن تلك الأحداث حقيقية، إلا أن الهامش الذي يمنحه الكاتب لنفسه من الإيهام يرتكز على فهمه لفن القصة. فلو أراد النقل حرفياً عن الحياة لاعتبر الكتابة نوعاً من الذكريات - وقد فعل ذلك أحياناً فتعاملنا مع بعض كتبه بوصفها من السيرة الذاتية ,وطالما كنت أتساءل كثيرا عن حدود الذكرى والخيال في أدب العجيلي , ولكنه مادام يضع نصه في مسار الفن فإنه يستبقي هامشاً من الخيال يزيد أو ينقص عن الحقيقة، إن العبرة الأساس من قصص د. العجيلي هي أنها تحاكي الحياة بغض النظر عن حجم ما أخذته المحاكاة عن الأصل. أما المكان فيجب أن يكون شديد الوضوح، مترعاً بالجزئيات التفصيلية التي تجعل الفضاء ينطق بواقع الحال. والغريب المشوق أنه، إلى ذلك لا يخلو من الفانتازيا. وإذا كان الأدب الفانتازي يجنح إلى التخييل والمفارقة الشكلانية للواقع، فإن لغة العجيلي تستمد من التركيز على الواقع جذرها الفانتازي وشطحاتها التأملية.ومن أمثال هذه الحالة لديه اكتشافه أن معاوية بن أبي سفيان مصاب بداء السكري , إن المعين الأساس لقصص العجيلي هو ما حصّله من معارف وتجارب ومثاقفة. ولما كانت حصيلته في ذلك كله بالغة الغنى، فإنه قادر على الإدهاش باستمرار. فهو مسلح بالذاكرة، والحدس، والموهبة الخلاقة. وعندما تأتي الذاكرة من مناطق شاسعة متنوعة فإن فيها جديداً من حيث لا يحسب القارئ.

أما الحدس فهو مشتبك بالمخيلة المشاغبة التي لا يقر لها قرار. ولهذا فالقارىء مضطر إلى التعامل مع قصته من موقع الواقعية( )معظم قصص العجيلي ، تشكل حياة زاخرة بحياة الناس ومستوحاة بعمق من أعماق وجودهم وتفاصيل عيشهم اليومي فهو سجّل الحياة بكل تداعياتها بقلم رهيف وصادق وأصيل،وكانت عيادته ,مدخلا أومسرحا لأحداث أغلب أعماله إنه كاتب مقروء من مختلف طبقات الشعب وهنا تتجلى أهميته، ( )، لغتة العجيلي سليمة التركيب وتميل عباراته الى الطول ويأخذ بعضها بتلابيب بعض مما يناسب الحركة الانسيابية لفن القص حواره جذاب،وهو دائما بالفصحى المفهومة جيداً للجميع. لم يكتب العجيلي حواراً بالعامية أبداً، إنه كاتب يعتز بلغته العربية الفخمة المبسطة في آن،بينما يحرص على إغناء اللغة بمفردات دقيقة ورفع مستوى القارىء بافكار علمية حتى لو كانت بعضها مفردات غير أدبية كعبارت (القطع الزائد ,والمرتسم )الهندسية في رواية باسمة بين الدموع .وفي مجمل أعماله القصصية والروائية, يبدو ولعه بوصف القسمات المميزة للأشخاص وكأنه يرسمهم والايحاء بدلالاتهم النفسية, ويعود سبب ذلك إلى مهنة الطب . فضلا عن وصف الأمكنة ولديه حرص على ذكر الأماكن والمواقع الحقيقية .والمرأة لم تغب في أدبه بل لعلها شكلت محوره الرئيسي إلا أنها لا تنجب وهو سؤال بِكر على النقاد تناوله والاسهام في تحليل هذه الفرادة لدية ( لماذا لا تنجب امرأة أدب العجيلي ؟ ) أما نهايات أعماله فإن العجيلي كان منتبهاً على الدوام في أعماله القصصية أو الروائية بالزمن، بالإيقاع التاريخي والجغرافي،متجاوزا قليلا ما اعتادت الكلاسيكية القديمة على الانتهاء إليه وبذلك بيبدو أنه أول من بشر بالحداثية الى حانب روايه وليد اخلاصي شتاء البحر اليابس 1965 .التي قدم لها بقلمه . وأخيرا : نردد مع جان جولميه :شهادته ( جوته وستاندال وفلوبير أسماء أعلام في الأدب مشهورة وعبد السلام العجيلي يستحق أن يشبَّه باساتذة فن الرواية الكلاسيكية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى