عبد النـاصر وحرب الاستنزاف فى مذكرات هنري كيسنجر
شغل هنري كيسنجر فى 20 يناير 1969 منصب مستشار الأمن القومي فى إدارة الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، وفى 22 سبتمبر عام 1973 أصبح وزيراً للخارجية.
كتب كيسنجر مذكراته عن سنوات عمله بالبيت الأبيض وصدرت طبعة عربية لها عن (دار طلاس) فى 4 أجزاء من ترجمة خليل فريجات.
فى الجزء الثاني من مذكرات كيسنجر فى البيت الأبيض، تناول كيسنجر قضية الصراع العربي الإسرائيلي وحرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل على امتداد الصفحات من صفحة 3 حتى صفحة 66، ومن صفحة 361 حتى صفحة 421.
فى السطور التالية سوف أقوم بقراءة لشهادة كيسنجر عن الرئيس عبد الناصر وحرب الاستنزاف والدور السوفيتى فى الصراع العربي الإسرائيلي فى الفترة من فبراير عام 1969 حتى منتصف سبتمبر عام 1970.
يقول كيسنجر ان خسائر إسرائيل فى بداية شهر فبراير عام 1969 بسبب حرب الاستنزاف تعادل كما لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية خسرت 20 ألف قتيل و100 ألف جريح، وان الرد الإسرائيلي على الضربات العسكرية المصرية تمثل فى غارات العمق على المدنيين المصريين لإقناع الشعب المصري بفشل نظام عبد الناصر فى حمايتهم، ومن أجل الضغط على عبد الناصر للقبول بشروط إسرائيل للحل السلمي.
كانت إسرائيل تريد مفاوضات مباشرة ومنفردة مع مصر وتصر على توقيع معاهدة سلام بين الدولتين بينما كان الرئيس عبد الناصر يريد مفاوضات غير مباشرة تؤدي إلى حل شامل لقضية الصراع العربي الإسرائيلي، وتنفذ قرارات الأمم المتحدة بخصوص اللاجئين الفلسطينيين إما بعودتهم لفلسطين أو بتعويضهم مادياً.
يرى كيسنجر ان جمال عبد الناصر عدو لدود للمصالح الأمريكية، وانه هو المسئول عن انتشار النزعات المتطرفة فى العالم العربي، وانه يتخذ من قرار قطعه للعلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد حرب 1967 وسيلة للضغط على الحكومة الأمريكية من أجل الضغط على إسرائيل.
ويرفض كيسنجر سياسات وزير الخارجية الأمريكي وليم روجرز تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ويرى ان سياسات روجرز تساعد عبد الناصر على المزيد من التشدد فى مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
ويؤكد كيسنجر انه لا مناص أمام الولايات المتحدة الأمريكية فى الشرق الأوسط سوى:
– تحطيم النفوذ السوفيتي فى الشرق الأوسط.
– القضاء على النظم الراديكالية العربية المتطرفة فى نزعتها الوطنية وعلى رأسها نظام جمال عبد الناصر.
يقول كيسنجر ان الرئيس الأمريكي نيكسون كان مؤيداً على طول الخط لإسرائيل، ورافضاً لأي ضغوط عليها من أجل الانسحاب من الأراضي المحتلة فى حرب 1967، وكانت سياسة نيكسون تجاه عبد الناصر تتمثل فى توجيه أكبر قدر من الضربات العسكرية له لأن عبد الناصر وفقاً لتقييم نيكسون لن يغير سياساته ويصبح معتدلاً إلا إذا واجه قوة مدمرة لا قبل له بها، لذا كان نيكسون شديد التشجيع لقادة إسرائيل ودائم الحث لهم على توجيه المزيد من الضربات العسكرية ضد المدنيين المصريين لزعزعة نظام جمال عبد الناصر.
يصف كيسنجر ثورة القذافي فى ليبيا فى 1 سبتمبر 1969 بأنها انقلاب أحدث قلقاً شديداً فى الولايات المتحدة الأمريكية لأنه حرم الأمريكيين من مركز استراتيجي هام فى العالم العربي كما أنه جاء بمثابة انتصار لعبد الناصر، ويقول كيسنجر ان أصدقاء أمريكا المعتدلين فى المنطقة، ملوك الأردن والمغرب والسعودية وشاه إيران وزعماء لبنان الموالين لأمريكا أعربوا عن خطورة ما حدث وانه سيؤدى للمزيد من عناد وتصلب عبد الناصر، وسيجعل الوصول إلى حل أمر ميئوس منه.
يرفض كيسنجر مشروع روجرز للسلام الذى قدمه فى شهر ديسمبر 1969 ويرى فيه انتصاراً للمتطرفين العرب وعلى رأسهم عبد الناصر، ويقول كيسنجر ان الرئيس نيكسون كان ضد المشروع لأنه يدعم موقف عبد الناصر.
كان تحليل كيسنجر لسياسة عبد الناصر هو ان عبد الناصر مستمر فى الضغط العسكري على إسرائيل لأنه يرى إن إطالة مدة الحرب سيجعله يحصل على حلول سياسية أفضل، وإن لم يحدث هذا فإن استعداداته العسكرية تجري كما يريد من أجل شن معركة تحرير الأرض المحتلة، وان عبد الناصر يسعى لتحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع أمريكي سوفيتي.
كان قرار الرئيس الأمريكي نيكسون هو انه لا يمكن السماح لجمال عبد الناصر بالنصر لذا أعطى لرئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير الضوء الأخضر لتحطيم شبكة الدفاع الجوي المصري ولمهاجمة العمق المصري وقصف المصانع والمدارس والأماكن الحيوية فى مصر، وهو ما أدى لزيادة الغارات الجوية الإسرائيلية على مصر فى نهاية عام 1969 وبداية عام 1970، وأصبحت تصريحات قادة إسرائيل علنية ان السلام مع مصر مستحيل طالما استمر جمال عبد الناصر فى الحكم.
كان رأى كيسنجر هو ضرورة استمرار الغارات الجوية الإسرائيلية على مصر حتى يتم الخلاص من عبد الناصر.
قام رئيس الوزراء السوفيتي أليكسي كوسيجين بتوجيه رسالة للرئيس نيكسون فى 31 يناير 1970 يعلمه فيها ان الاتحاد السوفيتي قرر مساعدة العرب فى التصدي للغارات الجوية الإسرائيلية، ويطالبه بإيقاف القتال الدائر والضغط على إسرائيل من أجل الانسحاب من الأراضي المحتلة، رسالة كوسيجين جاءت بعد زيارة عبد الناصر للاتحاد السوفيتى التى طالب فيها بمساعدة السوفيت له فى إعادة بناء شبكة الصورايخ المصرية حتى لو استلزم الأمر إرسال قوات سوفيتية إلى مصر.
كان رد نيكسون هو رفض مقترحات كوسيجين بل وإخباره ان الولايات المتحدة الأمريكية ستقوم بتسليح إسرائيل وتعويضها عن خسائرها للحفاظ على توازن القوى فى الشرق الأوسط!
لم يرد السوفيت على رسالة نيكسون، فى شهر يناير عام 1970 انتاب نيكسون الغضب بسبب موافقة الرئيس الفرنسي بومبيدو على بيع 100 طائرة ميراج للحكومة الليبية يتم تسليمها على مدى 4 سنوات، كان واضحاً ان الطائرات سوف يستخدمها سلاح الطيران المصري ضد إسرائيل حال إتمامها لذا قرر نيكسون فى بداية شهر مارس عام 1970 إعطاء إسرائيل 8 طائرات فانتوم و10 طائرات سكاي هوك تعويضاً عن خسائرها فى حرب الاستنزاف.
فى 17 مارس 1970 رصد الأمريكيون بدء وصول شحنات صواريخ سام 3 ومعها 1500 ضابط وجندي سوفيتي إلى مصر، وفى الشهر التالي وصل عدد القوات السوفيتية إلى 10 ألاف ضابط وطيار وجندي، وقام الطيارون السوفيت بمهام خاصة فوق الجبهة وأتاح وجودهم للطيارين المصريين القيام بمهاجمة المواقع الإسرائيلية داخل سيناء المحتلة.
وجدت الإدارة الأمريكية ان الأمر يصل لمجابهة بالغة الخطورة لأنه بسبب وجود القوات السوفيتية والصواريخ الجديدة فى مصر، أوقف الطيران الإسرائيلي غاراته على المدنيين المصريين، وتصاعدت المطالب الإسرائيلية من الحكومة الأمريكية بضرورة منحها المزيد من الطائرات لردع عبد الناصر.
يرى كيسنجر ان خطاب الرئيس عبد الناصر فى أول مايو 1970 الذى دعا فيه الرئيس الأمريكي نيكسون إلى جعل إسرائيل تنسحب من الأراضي المحتلة أو التوقف عن إرسال المساعدات العسكرية والاقتصادية لها ودعمها سياسياً، دليل على فشل السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط لأن الحل الذى يريده عبد الناصر من نيكسون سيؤدى لانتصار الإستراتيجية السوفيتية ومزيد من دعم النظم العربية المتطرفة، وأن الإدارة الأمريكية لن تسمح بحل سلمي تقبل فيه بشروط الخصم لذا طلب كيسنجر من فريقه ضرورة العمل على تخويف السوفيت من مجابهة أمريكا.
ويتعجب كيسنجر من قيام السوفيت للمرة الأولى بتعريض قواتهم الخاصة لخطر القتال لصالح دولة غير شيوعية.
فى 10 يونيو عام 1970 قام مدير المخابرات المركزية الأمريكية بعرض تقرير عن القوات السوفيتية فى مصر والتى بلغت 5 بطاريات صواريخ سام 3، وعدد يتراوح بين ثلاثة وخمسة أسراب ميج 21 يقودها طيارون روس، وان قدرة المصريين على تدمير الطائرات الإسرائيلية قد تضاعفت، ان الوضع تحول إلى غير صالح إسرائيل، والواضح ان الهدف المصري السوفيتى من التصعيد العسكري هو الدفع بشبكة الصواريخ حتى الحافة الغربية لقناة السويس للقضاء على سيطرة الطيران الإسرائيلي على جبهة القتال، والاستعداد لشن الحرب والعبور نحو سيناء.
هنا تقدم وزير الخارجية الأمريكى وليم روجرز بمبادرته لإيقاف القتال بين مصر وإسرائيل لمدة 90 يوم تتبعها مفاوضات غير مباشرة يقودها جونار يارنج.
كان موقف الرئيس الأمريكي نيكسون غامضاً فرغم تعقد الأمور وإلحاح إسرائيل فى تسليم المزيد من الطائرات الأمريكية لها، وضعف رد الفعل الأمريكي تجاه تدفق القوات السوفيتية على مصر، قال نيكسون لكيسنجر فى نهاية شهر يونيو عام 1970 (سوف يحدث تغيير هام جدا) ويمكنك إبلاغ إسحق رابين -السفير الإسرائيلي بالولايات المتحدة الأمريكية وقتها- بذلك.
– هل كان التغيير المقصود هو ما حدث فى 28 سبتمبر 1970 بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر؟! ربما..
فى 1 يوليو 1970 أرسلت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير رسالة للرئيس نيكسون تؤكد فيها ان بطاريات صواريخ سام 3 وسام 2 سترتكز قريباً لحماية المجال الجوى فوق جبهة قناة السويس وهو ما يؤكد انهيار توازن القوى فى الجبهة، وان إسرائيل لا سبيل أمامها سوى قصف هذه البطاريات.
فى 22 يوليو 1970 قدم كيسنجر تقريراً لنيكسون عن إنشاء المصريين لمواقع دفاعية جديدة محاذية للحافة الغربية لقناة السويس تتضمن 3 قواعد لصواريخ سام 3، و11 قاعدة لصواريخ سام 2لحماية القوات المصرية، وان مصر ستصبح أكثر قوة مما يجعلها قادرة على شن حرب جديدة وهجوم على سيناء.
فى نفس اليوم جاء قرار الرئيس عبد الناصر بقبول مبادرة روجرز، ولا يعرف كيسنجر أسباب قبول عبد الناصر للمبادرة، هل كان يخشى هجوم وقائي إسرائيلي أم يسعى لاستكمال تجهيزاته العسكرية؟
يقول كيسنجر فى صفحة 402 من الكتاب، ان الحكومة الأمريكية كادت تطير فرحاً بقبول عبد الناصر لمبادرة روجرز.
فى 5 أغسطس 1970 قام سفير إسرائيل فى أمريكا إسحق رابين بتقديم تقرير عن أوضاع جبهة القتال للإدارة الأمريكية جاء فيه ان 13 موقع للصواريخ المصرية أصبحت على مسافة 50 كم من قناة السويس، وان 3 مواقع مموهة للصواريخ أصبحت على مسافة تتراوح من 10 إلى 20 كم من القناة، وان الطيران الروسي اشتبك مع الطيران الإسرائيلي على جبهة القتال، والحكومة الإسرائيلية عازمة على تدمير شبكة الصواريخ المصرية قبل القبول بوقف إطلاق النار وفقاً لمبادرة روجرز.
ولكن فى اليوم التالى 6 أغسطس 1970 قامت الحكومة الإسرائيلية بالتوقيع على مبادرة روجرز من أجل وقف إطلاق النار على جبهة القناة، ولا يعرف كيسنجر سبب قيامها بذلك فبل تنفيذ الهجوم الذى تحدث عنه رابين.
ويقول كيسنجر ان مصر خرقت موعد وقف إطلاق النار المتفق عليه بتأخير امتد إلى 36 ساعة عبر 14 صاروخ من طراز سام 2 مدعمة بصواريخ من طراز سام 3 تم إدخالها للجبهة وتسببت فى إسقاط 5 طائرات فانتوم أمريكية، كان قرار نيكسون بعد علمه بذلك هو تزويد إسرائيل بصواريخ شرايك الأمريكية المخصصة للاستخدام ضد صواريخ سام 3 السوفيتية.
يقول كيسنجر انه بحلول منتصف شهر سبتمبر عام 1970 تعثرت مبادرات الإدارة الأمريكية للسلام، وتم تسليم إسرائيل كل الأسلحة التى كانت تطالب بها رغم عدم اعتراف الإسرائيليين بالأفضال الأمريكية عليهم، وازداد السخط العربي على السياسات الأمريكية، ووطد السوفيت وجودهم فى مصر وأصبحوا خطراً عسكرياً على إسرائيل، كما ان عبد الناصر مازال يشكل خطراً ضد النظم العربية المعتدلة، وان الأمريكيين فقدوا السيطرة على الأحداث.
– تقدم شهادة هنرى كيسنجر وجهة النظر الأمريكية تجاه حرب الاستنزاف وسياسات الرئيس جمال عبد الناصر الخارجية والعسكرية فى أخر عامين من حكمه، وتنصف شهادة خصم لدود مثل كيسنجر بطولات حرب الاستنزاف ودور الاتحاد السوفيتى فى دعم مصر، والأهمية الإستراتيجية البالغة لإنشاء حائط الصواريخ المصري فى عام 1970، كما تلقي بشكوك حول أسباب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر.