عراقياتٌ من هذا الزمان، في ذاكرة سياسي عتيـق
ويحين موعد الحديث عن ذكريات ومحطات شخصية حول "عراقيات من هذا الزمان" ولا بـدَّ ان يأتي حديثا متميزاً عن توثيقاتك الاخيرة – ايها الرجل- والتي كانت بعشرين حلقة وحلقة، وعنونتها "عراقيون من هذا الزمان".. والتميّز هنا أحلى بالطبعِ وما في ذلك من نقاش، أذ أنت ستكتب وتوثق لمن"زنَّ الحياةَ بوعدهنَّ، وشننها بوعيدهنَّ" بحسب الجواهري الخالد، شعراً غنياً، وتجربة غناء!.
• والبدايةُ تساؤلات
تنهمر عليك - ايها الرجل البادئ في استعادة، واستذكار مسار نصف قرن- تساؤلات دون مدى عما تبتغيه من هذه السطور؟ ولمن تكتبها؟ وماذا يهم الناس ان جاءت بهذا الشكل أو غيره؟.... وتجيب: ان بعضها للتاريخ العازف عن التزوير، وقسماً منها للواتي لم يأخذن حقهن امام ما قدمنّ من عطاء وجهد نبيليّن. كما انها قد تفيد السائرات والسائرين على طريق حبّ الناس والبلاد، الطامحين الى الارتقاء والسعادة.. ولا تنسَ انها – هذه التأرخة- تأتي ايضاً وايضاً للتباهي، فالمرء يعرفُ باصدقائه، ويعرّفُ بهم، كما تؤمن أبداً بذلك الشعار او الحكمة. وهكذا "فأعقلها، وتوكل" كما شائع بين الناس...
• نبيهـة وبلقيـس
ولتحترسْ، وأعبرْ مرحلتي الصبا والفتوة ففيهما ما "قد" لا يصلح للكتابة في سياق ما خططتَ له من محطات ومسارات وحدود، برغم ان هناك صلات وصلٍ وربط وما بينهما.. وعسى أن تجد لهذه "المحظورات" اليوم، فرصاً اخرى وبعناوين أخرى، ربما تصلح للنشر حينذاك!. ثم أبتدئ، وتوقفْ بزهوٍ عند أيقونتيّن تركتا فيك، وعندك، ذكريات وعبراً وقيماً انسانية قدرها الآخرون قبل ان تقدرها انتَ ايها الرجل. الاولى طبعاً هي الامُ، نبيهة الجواهري، زوجة السيد جواد العريضي، الحسيني، الملقب بالجصاني، وشقيقة الشاعر الأكبر، التي عشت معها، وعاشت معك – حياةً - لثمانية وثلاثين عاما، منذ ولدتَك عام 1949 وحتى رحيلها عام 1987. أما الايقونة الثانية فهي بلقيس عبد الرحمن، ارملة الشهيد البطل وصفي طاهر، أم زوجتك نسرين، والتي عشتَ معها ثلاثين عاما، نحو عشرين منها في بيت واحد، في براغ، وحتى رحيلها عن عالمنا عام 2001.
• زميلات زاهيـات
وتتذكر ايها الموثقُ، والساردُ، بدايات الدراسة في جامعة بغداد، وفي معهد الهندسة العالي تحديدا، عام 1967 حين التقيتَ في الصفوف والقاعات والنشاطات الاجتماعية والسياسية، وعلى مدى ثلاثة اعوام بجميلات في عمر الزهور، انيقات بواهـر، بعضهن نشطَ في مجالات العمل الجماهيري، الديمقراطي والوطني، والاجتماعي، ورحنّ يباريّن أقرانهن الشباب في بعض الاحيان.. وأقدحْ ذاكرتك ايها الرجل، وأختبرها وسجلْ ان من بينهن: أزهار وآلاء وخولة وسراب وسهام وكواكب وليلى ومعتبر ومنى وهناء وهيفاء... وورود أخريات من عاطرات الخلق والأخلاق، من بغداد والبصرة والموصل، ومدن العراق الاخرى.
• جامعيات مناضلات
ثم يشتدُّ عودك ايها الرجل في العمل السياسي، وتتكلف، وتتكفل، منذ عام 1969 وحتى عام 1978 وبأشكال متنوعة، بمتابعة هيئات ديقراطية اتحادية (نسبة لأتحاد الطلبة العام) وتشكيلات حزبية شيوعية، في مختلف كليات ومعاهد بغداد، ومنها بشكل رئيس: الادارة والاقتصاد، والقانون والسياسة، والاداب واكاديمية الفنون، والزراعة، والطب البيطري، وجامعة التكنولوجيا.. ولا شكّ أنك لن تنسى هنا نشيطات بواسق كنّ ما كنَّ في الشجاعة والرقي الثقافي والحرص الوطني، طموحاتٍ للأمل من اجل سعادة الشعب وحرية الوطن، وتحملنّ ما تحملن في سبيل ذلك، أمتشقنَّ الكتب الدراسية بيد، والمناشير والادبيات السياسية بيدٍ أخرى، فجمعن المجد من اطرافه، ومنهن: انعام وآشتي ورجاء وسراب وسوسن وسناء ولمى وملاك، ورفيقاتهن الأخريات.... وقد التقيت بالعديد منهنّ لاحقا في عواصم العالم المختلفة، ومنها في دمشق وبراغ وصوفيا وموسكو وعدن، بعد الاضطرار للخروج من البلاد اواخر السبعينات، حين كشرّ البعثيون الماجنون عن أنيابهم، فلاحقوا واضطهدوا وعذبوا وسفحـوا.. وقد كنّ – ولم يزل عديد منهن- مستمرات في تلكم النشاطات السياسية منها، والجماهيرية والعامة، ولربما تقاسمنَ أو سلمنَّ "الراية" للأبناء وحتى الاحفاد!..
• شهيدات شاهقات
وإذا جاز لك أن تنسى في زحمة العمر - وما أوسعها- فلا يجوز لك - ايها الرجل السياسي المتقاعد، والحامل جذوة الذكريات - ان تنسى باذخات العطاء والروح، الشهيدات الخالدات: زهور اللامي وشذا البراك ورمزية جدوع، اللواتي كنّ يضوعنّ عطاءً في اجتماعاتكم السياسية والحزبية والاجتماعية، ورحنَ وفياتٍ أمينات، صبورات على الأذى، شاهقات في تضحياتهن الجلى للمبادئ القيم والمبادئ التي آمنّ بها، وهل ثمة أغلى من أن يجود المرء بحياته على تلكم الطريق؟!.
• على "طريق الشعب" وفيها
ما زلت في بغداد ايها الرجل، فلم تحن الساعة البعثية اللئيمة بعـد، فتذكر أذن كيف كانت جريدة الحزب الشيوعي "طريق الشعب" عامرةً تزهو بمحررات وشغيلة، زاملتهن ورافقتهنّ لأزيد من خمسة اعوام (1973-1978) وهنّ ينشطن في المهمات المكلفات بها، بل ويزدنّ دون حساب الوقت أو التعب، فالهدف اسمى، والحلم بهيّ، والطموح بلا منتهى، ودونما خشية من الغدر البعثي المتوقع والقادم.. تذكرالرائدات، والواثبات: أميرة مهدي ورجاء الزنبوري وسعاد خيري وسعاد الجزائري وسلوى الجلبي وسلوى زكو وسهام الظاهر وفاطمة المحسن وعفيفة لعيبي ومنى سعيد..
• وفي المغترب/ المنفى
وتقودك الايام والظروف لما أنت لم تخطط له ايها الرجل، فتصل براغ، وها أنت مستقر فيها منذ اربعة عقود بالكمال والتمام.. وطوال تلك الفترة، ومن خلال متطلبات مهام وطنية وفعاليات سياسية وثقافية واجتماعية، ألتقيتَ وزاملت ورافقت وتعرفتَ على باسقات عديدات، طالبات ومقيمات وعاملات، متنوعات كتنوع الازهار الربيعية، حافلاتٍ بكل جميل وجميل. ولا شكَ ان ثمة علاقات متميزة سادت مع البعض منهنّ بحكم المشاركة في الهيئات السياسية والحزبية والديمقراطية، مثل الراحلات الجليلات: نزيهة الدليمي وبشرى برتو، وروناك علي، ونضال وصفي طاهر.. والعزيزات: أيسر شوقي وخيال الجواهري وساجدة علوان وساهرة محسن، وشروق العبايجي وصنوبر عبد الكريم وفاتن الجراح وكفاح اسعد خضر وعميدة مصري، وعواطف جبـو، ومها الناصر ووَسن عبد الهادي، وعديد آخر ممن تحملن مسؤوليات في هيئات منظمات ديمقراطية (جمعية الطلبة، رابطةالمرأة، جمعية الطلبة الاكراد، والمنتدى العراقي ) أو تشكيلات سياسية..
وفي براغ ايضا، لا تنسَ انكَ تعرفتً - ايها الرجل الموثق - على (شقائق نعمان) أخريات نشطن طلابياً وسياسيا ومنهنّ من تركنّ دراستهنّ والتحقن بنضالات الحزب الشيوعي العراقي داخل البلاد، وفي كردستانها بشكل رئيس، ضمن فصائل مسلحة لمقارعة الديكتاوتورية والارهاب، خلال الثمانينات الماضية، مثل ايمان وجمانة وسندس وعائدة ولمياء ونضال وهند.. ومنهنّ ايضا (أيسر) و(وسن) اللتين مرّت الاشارة لهما في سطور سابقات..
وما دمت في براغ فلا تنسَ - ايها الرجل- نسوة عراقيات عريقات كرّمنكَ بمعرفتهن، شغيلة، واعلاميات وزوجات اصدقاء اعزاء، ومنهن: فائزة وزاهرة و ونيكار وياسمين ويسار.. ثم تالياً: سميرة وفريال وفيروز وميسون.. دعْ عنك الدبلوماسيات اللواتي حللنّ في براغ ضمن بعثات السفارة العراقية، ما بعد الاطاحة بنظام الارهاب البعثي عام 2003 ومن بينهنَّ: امال وأحلام، وآلاء، وكردستان ونغــم ونـور...
• وفي عواصم الدنيا
لهذا الشأن السياسي والطلابي، أو لتلك الحالة الاجتماعية وسواها، تنقلت ايها الرجل الساردُ، في مختلف عواصم ومدن الدنيا، ومنها في دمشق وعدن وكوبنهاغن وديترويت والجزائر ولندن وبيونغ يانغ، بالأضافة الى براغ طبعاً، فالتقيت وتعرفت – ايها الباحث عن التوثيق والتأرخة- على عراقيات ما برح بعضهن يواصلن العطاء والنشاط الوطني والاجتماعي، وبقيّن ويبقيّن في الذاكرة السياسية والاجتماعية وممن اقاموا أو رحلوا: انعام العبايجي وأنباء جاوي وايمان سلام عادل، وبدور زكي، وبثينة شريف وذلفاء الخفاجي، ورجاء كمال الدين، ورجاء الدوغجي وسعاد البياتي وسلمى جبو، وسهام الجواهري، وشوقية العطار وفائزة الجواهري، وفخرية عبد الكريم (زينب) ولهيب الراوي وناهدة الرماح، وهناء ادور، ومي الاوقاتي.. وزاهيات عديدات أخريات..
• والذكريات صدى السنين..
ها أنت تختتم الاستذكارات العجول – ايها الرجل- ولكنك لن تستطع ان تختتم المحبة، وما رسخ في الاعماق من ذكريات تتدفق شلالات عذبة من تلقاء ذاتها. مرات بفرح لا مدى له، واحياناً بأحزان مرةٍ على من رحلوا عن دنيانا الكذوب..
ولعل العديد سيسأل وماذا عن نسرين وصفي طاهر؟ الانسانة والسياسية الدؤوب، أذ لا ذكر لها، ولا أشارة في هذه المحطات الوجدانية والتوثيقية. والجواب حاضـرٌ، بل وزاخرٌ ايضاً، وهو ان نصف قرن من الزمالة والصداقة والحب والرفقة الزوجية والحياتية والنضالية والاجتماعية، لا تستوعبها مثل هذه الوقفات، ولكن لها توثيقات تطول وتطول، وعسى ان تكون قيّدَ القراءة في قادم الايام القريبة..
وعلى امل توثيق ذكريات لاحقة، لصدى السنين، الدفاق الجميل، أعتذر ايها الرجل عما لم تسعفك به الذاكرة من اسماء "عراقيات من هذا الزمان" ولا شكّ فأنهنّ سيسامحنّكَ عن ذلك، لأنهنّ يعرفنّ مسبقاً بأن لا قصد مما كان سوى السهو، وحسب... فهنَّ، ومن سبقت الاشارة اليهنّ، كنّ واحاتِ يانعات زدنَّ الدنيا بهجة وعطاءات وتجارب انسانية، كمْ تعلمت منها، وكمْ أفتخرتَ بها، وما برحتْ...