الأحد ٢٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٩
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

عقود الفقر (الدلو)

مثل كل مرة عندما نتمشى على ضفاف نهر كارون مساء، نتجاذب أطراف الحديث؛ وقد نلتفت إلى الوراء فنتذكر مسلسل ماضينا الحزين فنسرد منه لقطة من الشقاء الذي كابدناه زمنا طويلا.

يقول صديقي أبو مصطفى إنه كان يقف في الميدان وأبناء عمومته فينتظرون أرباب الأعمال يشغّلونهم يوما أو بعض يوم. ومن الأجرة الزهيدة التي كانوا يستلمونها يقتاتون لعوائلهم ما تشتد إليه الحاجة.

وقد يبقون منتظرين أياما دون أن يطل عليهم الرزق طارقا أبواب الميدان.

وكان الميدان بعيدا عن منازلهم حيث إنهم يمكثون فيه حتى العصر ينتظرون رحمة الله... ويتغدون هناك.

كانوا يشتركون في النقود فيشترون الخبز من الخباز وقدرا صغيرا من المَرَق من المطعم القريب، فيجلسون على محيط دائرة ضيقة ويتغدون.

يتابع أبو مصطفى وابتسامة حزينة تزين محياه على تلك الأيام العصيبة:

ما إن نضع القدر حتى يبدأ أحد أبناء عمومتي بالأكل رغم أن المرق حار يفور!

وعندما يفتِر ونريد أن نبدأ بالأكل، كان نصف المرق قد أُكِل! ودائما ما كنا نكمل طعامنا بالخبز والماء بعد ما ينفد المرق.

فنسأله من باب الحرص على الإدام وليس من باب المزاح:

يا هذا، هل صُنعت لهاتك من صفيح؟!

ويهز رأسه بالإيجاب ولسانه يدور اللقمة في فمه ولا كأنها حارة تحرق!

ورأينا أن الأمر يتطلب حلا ...

فسنّ ابن عمنا الكبير قانونا يمنع لف الخبزة كالدلو.

وكان يراقب الجميع، فإذا خالف أحدنا القانون وغرف غرفة تنقص من المرق قليلا، نهره قائلا: لا تصنع دلوا... بلل الخبزة فحسب.

وبهذه الطريقة وفي ظل القانون الجديد كنا نستنفد الخبز المغمس ونشبع، بل ونترك في القدر بقايا قد تغدي شخصا آخر.

وينظر أبو مصطفى إلى ما وراء الجسر الهلالي، إلى مياه كارون التي تُسرق في الصيف، ويغرقوننا بها في الشتاء، ويقول في تنهد مسموع:

كنا وما زلنا أفقر شعب على أغنى أرض.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى