الثلاثاء ١٣ آب (أغسطس) ٢٠١٩

على حافة الاندثار!

خالد بريه

في فترةٍ من الزَّمن كنتُ مولعًا بقراءةِ الرسائلِ التي يتبادلها الكتَّاب، والأدباء، ومن برَّحَ بهمُ العشق.. لا يستطيعُ الزمن أن يوقفَ تدفقها عندَ المتلقي فحسب؛ وإنما تخرجُ كالنُّور مبددة حُجُز الزَّمان، تتلقفها الأنظار، وتشعر بمدىٰ الحنين الذي يدثرها، والصدق الذي يتدلى من كلِّ حرفٍ وكلمةٍ في بنيتها.

لعلكَ تتساءل، وأنتَ محقٌّ في ذلك:
لماذا خَفَتَ هذا النوع من التأليف؟! وإذا أطلَّ علينا كاتبٌ برسائله؛ وجدتها منزوعةَ الحنين، خاليةً من تباريحِ الشَّوق، فاقدة للروحِ التي تراها في كتبِ الرَّاحلين!

والسببُ فيما أرى؛ ليسَ ضعفًا في الكاتب المعاصر، وإنما الرؤية المتكررة للآخَر، فإنَّ العينَ إذا ألفتَ النظر؛ فقَدَ القلبُ توهجه، وإذا خمدتْ جمرة القلبِ خرجَ المسطور فاقدًا للحياة!

بإمكانكَ أن تكونَ في طرفِ العالم، لكنَّ الشَّوق لم يعد الشوق الذي كانَ من ذي قبل.. لقد سحقت الأدوات الحديثة مسمَّى الاغتراب بالمعنىٰ السابق، فصديقكَ أو زوجكَ أو والديك؛ الجميع يكونُ معك في أدقِّ تفاصيلِ حياتك، وأنتَ هناك في مكانٍ بعيدٍ عنهم.. ولهذا، إذا فكرتَ أن تكتبَ رسالة لأحدهم؛ طغت عليكَ رؤية الواقع الافتراضي، على قدسيةِ الخيال الذي عاشه غيرنا عندما لم يكن بينهم رؤية ولقاء إلا من خلالِ القلمِ وعلى دكَّةِ رسالة!

تجدُ ذلكَ مثلًا في الرَّسائلِ المتبادلة بينَ غسان كنفاني وغادة السَّمَّان، ورسائل "مي زيادة" إلى "جبران" المجتبىٰ البعيد، ورسائل الرافعي إلى "مي" قريبة القلب، وبعيدة المنال! وقريب من ذلكَ وإن بملمحٍ آخر، وبصورةٍ مختلفة؛ الرسائل المحترقة التي كانت بينَ عمومِ القراء (المجهولين)، والأستاذ عبد الوهاب مطاوع!

بإمكانكَ أن تجدها في كتاباتٍ عديدة، سطَّرت الشوق والحنين، ولوعة الاغتراب، في سطورٍ تحملُ صورة مرسومة، تفيضُ بالحياة، أرادَ كاتبها أن تصلَ إلى من يشتاقُ ويحبُّ ويهوى! وبإمكانكَ أن تقفَ على شيءٍ من ذلكَ في الرسائل المتبادلة بينَ درويش والقاسم، ورسالة والد إلى ولده، وكذا رسائل تشيخوف الشهيرة إلى عائلته!

لقد أسهمت أدواتُ التَّواصل الاجتماعي في الحدِّ من هذا الضرب من ضروبِ الأدبِ بشكلٍ كبير.. لقد استطاعت أن تجعلَ البعيد بينَ يديك، لم تعد بحاجةٍ إلى النَّظر في النجومِ تسترقُ منظرًا يعيدُ لك شيئًا من الذِّكرى، لن تسعى في تذكر ملامحِ وجه من تحب، ونبش الذاكرة عن تفاصيل دقيقة لا يعرفها سواك، ولحظات الحنين التي كانت في لحظةٍ غابرة، كل ذلك باتَ مشاهَدًا؛ فلم تعد الحاجة ملحة لأن يفترَّ الكاتبُ ورقة يسكبُ فيها متاهاتِ السنين والأيام، وآلام الغربة، وأوجاعِ الرحيل!

بل إن مجرد الانحناء على ورقةٍ بيضاء لكتابة "رسالة" باتَ مشهدًا محذوفًا في مسرحِ حيواتنا المتسارعة.. لم تعد تلكَ الصورة قائمة، من يحمل القلمَ ويكتبُ على الورقِ في دجى الليل، ثم يجيلُ فيها النظر مرارًا، قبل الختم باسمه، لـ تصل زاهية إلى القلبِ المنتظِر!

ومع كلِّ ذلك؛

تبقىٰ كتابة الرَّسائلِ من أرقِّ وأعذبِ وأجملِ صنوفِ الأدب، وفيها متعةٌ لا تضاهى، وفي تفاصيلها كثيرٌ من الحنين، والبوح، وملامحِ الحزن، وعلى أسوارها تطفحُ دلائلُ الود والحب، وغليل الشوق، ولهفة اللقاء!

خالد بريه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى