الأربعاء ٣١ تموز (يوليو) ٢٠١٩
بقلم رشيد سكري

عندما يؤوبُ المساءُ...

دفنا النَّخلة في المقبرة...

وظلت تبتلعُ مصائرَ البلاد و العباد.

في سَنم النَّجف امتدت ظلال وارفة، تطل على شعاب ضيقة، وتقطـِّع أوصال قريتنا الصَّغيرة، آيت عبو الحبيبة. لم يكن الطاهر دوحة فحسب، بل نخلة بثمار صفراءَ يانعة. تسافر عبر حكايات زمن... تحاكي سيرورة وجوه غابرة و معفـَّرة بتراب نديٍّ، وفي الناس العاثرين حظهم في بلادي. لهم ألف كبوة و كبوة، كما يفعل الأدهمُ ذو القوائم المحجَّلة، عندما يقطع أحراش قريتي المالحة.

كان صبيُّ أعرجُ، ذو أسمال بالية، يسكن بيت الأحزان. بناه بطين أحمرَ أرجوانيٍّ، فعدَّل قوامه بالملح الكلسي الصَّلب ذي العروق المعدنيَّة، حتى أصبح سقف بيته حديد وركنه حجر... فاعصفي أيتها الرَّوامسُ بالموت، وبكل الخلائق... وبكل ما تبقى من حجر و بشر...
ـ فأنا حفـَّارُ قبور و رموس، أسمع أنين الموتى تحت أقدامي العرجاء. وبأناملي العَجـْراء أقتات من موتاكم... بماء نمير أروي ظمأهم، فأرش، تحت أقدامهم، ترابا مسحوقا كالطحين. حتى لا يعودوا من أجداثهم المدلهمَّة...

ها هنا... دفنا ماض كان يتقلب فينا وجعا مثل القـُداد. رسم تجاعيده على أطراف أكف تتضرع إلى الله في خنوع و ابتهال... تطلب:

غيثك... غيتك... يا الله.
غيثك... غيتك... يا الله.

فالطَّاهر كان نخلة تمْشي في سُكون الأنبياء، له من هذه الدنيا الفانية، فرسٌ بيضاءُ، عيناها كحبات الفستق، تـُستأجر في الحفلات و المواسم. يركبها الصبيان، و يلهون
بأعجازها السَّابغة كحورية البحر. و له، أيضا، سبْعُ بقرات سمان، وسبعُ سنبلات خضر، وأخرُ يابسات.

هكذا الوجع يُطرد من انتظار... لا يعود الطـَّاهر إلى قريتنا... إلا بعدما يؤوب المساءُ إلى بطاحه، فيغطي منازل و دورا واطئة برداءٍ أحمرَ طيلساني. يمر بتؤدة على السواقي، التي تحفر في التراب أخاديدَ غويرة، يتشقق لها المقام، فيعلو و يعلو... تروي البقرات السِّمان الظمأى عطشها الوقـَّاد من صهْدٍ و قرٍّ مقيمين في الجوى، و لا يُسمع إلا طقطقات شفاهها المبللة بماء صافٍ زلال، يلمع كحبات الكرز الأحمر أو القمر الأحمر.

يقف الطاهر على رؤوسها كصنم حجري، وهي تنتشي لذة مياه باردة حلوة و نميرة، فيحس معها بنشوة تسري في عروقه المَالحة. من فم أثـْرَمَ متهدل ينشد لها نشيد العودة إلى ديار بئيسة وحزينة، ويفسح لها شهية شرب الماء، فبين الماء و بين النار، مياه آيت عبو الحبيبة دواءٌ لكل سقم ونقم، تصفـِّي المداخل و المخارج و الصَّواعد و الهوابط و العروق المعدنيَّة.

طبَه... طبَه...
طبَه... طبَه...

تنفجر الشفتان معلنة على انتهاء حصة الشرب الهادئ، وهي تتلمظ و تتمطـَّق ما انبجس وسال منها، فتنزل السَّكينة من مُزنة بعيدة بالرحمة و الغفران، لتصعد بعد ذلك، البقرات السِّمان في غـُنـْج ودلال بين الممرات و الشعاب الظليلة. يتناثر من حولها نقعٌ كالعِهن المنفوش، فتبدو كأنها تحمل، على أكتافها، هـَوْدَجا لعروس قادم من زمن إلى زمن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى