

عندما يعلو قدر الوضيع
من القائل:
أما ترى البحر تعلو فوقه جِيفٌ
ويستقرّ بأقصى قعرِه الدرر
ورد البيت في (ديوان الشافعي)، ص46، كما ورد بيت آخر يليه:
ففي السماء نجوم لا عدادَ لها
وليس يُكسف إلا الشمسُ والقمر
لكن المصادر تثبت أن الشعر هو لشمس المعالي قابوس (ت. 1012 م)، وقد أورد الثعالبي في (يتيمة الدهر) هذه الأبيات:
قل للذي بصروف الدهر غيّرناهل حارب الدهر إلا مَن له خطرُأما ترى البحر تعلو فوقه جِيفٌويستقرّ بأقصى قعرِه الدررفإن تكن نشِبتْ أيدي الزمان بناونالنا من تمادي بؤسِـهِ الضررُففي السماء نجوم لا عدادَ لهاوليس يُكسف إلا الشمسُ والقمر
انظر: الثعالبي: (نثر النظم وحل العقد)، ص 141، وكذلك في (يتيمة الدهر) الباب العاشر- مادة (في ذكر الأمير شمس المعالي قابوس).
روى الأبيات- كذلك مع اختلاف يسير ابن خَلِّـكان في وفَيَات الأعيان، كما اطلعت على عدد آخر من كتب التراث، وكلها تشير إلى أن الأبيات هي للأمير السيد شمس المعالي قابوس بن وشكمير، ولم أجد أحدًا يشير إلى الشافعي، ويبدو أن الذي جمع ديوانه أضاف البيتين دون أن يتحقق أو يحقق.
وكان ابن الرومي قد ذكر المعنى قبله:
دهرٌ علا قدرُ الوضيعِ بهوترى الشريفَ يحطّه شرفُـهْكالبحر يرسب فيه لؤلؤهسُفلاً وتعلو فوقَه جِيَـفُهْ
يكرر ابن الرومي المعنى في نص آخر:
رأيت الدهر يرفع كل وغدويخفض كل ذي شِيمٍ شريفهكمثل البحر يرسب فيه درولا ينفكّ تطفو فوقه جيفه
المعنى -كما لا يخفى- أن الدهر يعطي من لا يستحق، فذاك الوضيع صارت الكلمة له، بينما يحرم من يستحق، بل يجور عليه الزمان ويتنكر له؛ لكن الشاعر يسرّي عن نفسه بالقول- إن الكسوف والخسوف- أي الضرر أو النقص لا يصيب الكواكب العادية، وإنما يصيب الشمس والقمر، وهو شبيه بقول شاعر آخر هو المفتي فتح الله (ت. 1844):
وكم على الأرض من خضر ويابسةمن ذات زهر وأخرى ما لها زهـرُما لا ثمار لها أو زهر قد سلمتوليس يُرجم إلا ما له ثمر
فالرجم لا يصيب إلا ما له ثمر، وفي ذلك بعض عزاء للنفس.
من الشعراء الذين أكثروا من التذمر من هؤلاء الأدعياء الوصوليين كان المتنبي، فقد سخر من المتشاعرين فقال:
أفي كل يوم تحت ضِبني شويعرضعيفٌ يقاويني قصير يطاولوما التيه طِبّي فيهم غير أننيبَغيضٌ إليّ الجاهِلُ المُتَعَاقِلُ
ويصل المتنبي إلى ذروة هجائه لزمانه:
أذُمّ إلى هذا الزّمانِ أُهَيْلَهُفأعْلَمُهُمْ فَدْمٌ وأحزَمُهمْ وَغْدُوأكرَمُهُمْ كَلْبٌ وأبصرُهُمْ عمٍوأسهَدُهُمْ فَهدٌ وأشجَعُهم قِرْدُ
هؤلاء "الجهلاء المتعاقلون" تألم منهم المعري، وله الكثير من القصائد التي تعبر عن تشاؤمه ورفضه للظلم في مجتمعه، فقد بالغ العامّة في أحكامهم، وأصبح قلب الحقائق في الناس سنّة متّبعة:
إذا وصف الطائيَّ بالبخل مادرٌ
وعيَّر قُسًّا بالفهاهة باقل
وقال السها للشمس أنت ضئيلة
وقال الدجى للصبح إنك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادلُ
يواصل المعري في ألمه وهو يعبر عنه:
إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد من سخرية الأقدار والإساءة، يقول:
فيا موتُ زرْ إن الحياة ذميمة
ويا نفس جِدّي إن دهرَكِ هازل ُ
قبل ذلك ورد هذا التحفظ من أولئك الذين يصِلون ولا يستحقون الوصول- في حديث الرسول عن الرويبِضَة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟
قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ".
فإذا ساد الرويبضة فقد وُسِّد الأمر لغير أهله.
جاء في (لسان العرب): "قال أَبو منصور: الرُّوبَيْضةُ تصغير رابضةٍ وهو الذي يرعى الغنم، وقيل: هو العاجز الذي رَبَضَ عن معَالي الأُمور وقَعَد عن طَلبها، وزيادة الهاء للمبالغة في وصفه، جعل الرابِضَة راعِيَ الرَّبِيض كما يقال داهية، قال: والغالب أَنه قيل للتافه من الناس رابضة ورويبضة لربوضه في بيته وقلة انبعاثه في الأُمور الجسيمة".
ما أكثر ما تنقلب المعايير والمفاهيم لدى الناس، مما يجعل الإنسان الأصيل يتألم، بل إن المعري كان ينشد الموت بسبب ذلك، فالدهر أصبح هُزَأة.
لقد عزّى الشاعر أحيانًا نفسه، كما وجدنا ذلك لدى بعضهم، لكن المصيبة تظل تتكرر وفي كل عصر.
سأختم بملحة شعرية هي من شعر جَحْظـة البرمكي (ت. 935 م):
أيا دهرُ ويحك ماذا الغلطوضيعٌ علا ورفيع هبطْحمار يُسيّب في روضةوطَرْف بلا علف يرتبطوالطَّرْف هو الفرس الكريم.
الثعالبي: (نثر النظم وحل العقد)، ص 141.
وبعد،
أرأيتم مدى هذا الإجحاف؟
مشاركة منتدى
22 كانون الأول (ديسمبر) 2018, 14:44, بقلم جمع
نريد شرح الابيات