الأربعاء ٢١ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم منى مختار

عوى الذئب

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

على حدود القرية الممتدة بأطرافها المترامية شِعبٌ بين جبلين شاهقين، أما أحدهما فقد سكنه الذئب، يخرج كل ليلة رافعًا رأسه فى السماء يعوى، ثم يستدير فى اتجاهٍ آخر ليعوى مرتين، هكذا يطلق عواءه فوق سفح الجبل بأنفة وكبرياء؛ كدأب آل سرحان معلنًا وجوده، يستعرض قوته، واستقر به المقام فأراد أن يوطد دعائم مملكته؛ فاستقدم قطيعًا من الذئاب، وطابت لهم الحياة فى ذلك المقر الآمن، والذئب شديد الوفاء لبنى جنسه؛ لكنه غادر ماكر بالآخرين، يهوى التنافس و يعشق الصراع، يخاف الإنسان ولا يحب جواره إلا إذا جُرح؛ فإنه يشم رائحة دمائه فيهاجمه؛ لينال منه.

وأما الجبل الآخر فقد توطنته أفعى، تتزيا برداء الحكمة والوقار، تبدو فى أبهى حلة خرجت على جيرانها فى زينتها، وقد أعوزتها الحاجة إلى التعايش جنبًا إلى جنب مع الذئاب؛ فأبرمت عهدًا وميثاقًا بالأمان، لا ينقضه إلا خائن، ولم تجد الأفعى طوال مقامها دافعًا لنقد العهد؛ إذ كانت تخلد للدعة والاستقرار، وما لبث أن شاركها الجبل أُفعوان، وامتلأ الجبل بالأفاعى والثعابين على حين غفلة من أهل القرية الذين قبعوا فى ديارهم آمنين قانعين بالوادى الذى ضاق بهم، لا يشغلهم أمر الجبلين، ولم يفكروا فى زيارة الِشعب؛ لإعماره أو تأمين القرية مما قد يهدد أمنها ويقض مضجعها.

كلما ضاقت بهم دورهم؛ أقاموا فوقها طوابق، فتطاولت البنيان، وضجت بالبشر، صارت الدور مؤسسات؛ يحكمها الكبار بعقولِ كجلمود الصخر، تعاقبت الأجيال، والشباب على حماستهم، يفكرون فى ارتياد آفاق جديدة، يحلمون بالمستقبل وفى قلوبهم الغضة آمال وطموحات، يقف الكبار لهم بالمرصاد يمنعون، ويُحرمون، يسلبونهم الإرادة؛ بدافع الخوف عليهم، والحماية لهم، وافتقد كل فرد أمنه النفسى ذابت حقوقه فى متاهة الواجبات التى يمليها عليه ذلك العقل الجمعى بسيف المجتمع ودرع الأعراف والقيم؛ يُشكل وعيه، ويقمع وجدانه؛ فينكر عليه ذاته، يسلبه حريته فى زمن الحريات، والشباب يركضون خلف المدنية يجنحون للتطوير والتغيير؛ إذ يمتاز الصغير بالسرعة والحيوية ؛ لكنه يفتقد الجرأة فى ظل القيود والهيمنة التى يمليها عليه الكبار، يخاف الكبار التغيير، يميلون لكل قديم، يمجدون عصرهم، يأخذهم الحنين لزمانهم وقد ولى ولن يعود، يتشبثون بأهداب الذكريات؛ نشب الصراع بين الأجيال، بين الأصالة والمعاصرة....فلمن تكون الغلبة؟!!.
كثر الناس؛ فأصبحوا كغثاء السيل، ألجأتهم الحاجة إلى التفكير فى إعمار الِشعب والجبلين، أدركوا قيمة الأرض وأهميتها للزراعة والإقامة؛ لتفى بحاجتهم من الغذاء والمسكن.

خرجوا فرادى فى محاولة للتوسع فى الرقعة السكنية، وما برحتهم عشوائية الفكر؛ فهبت الذئاب والأفاعى؛ تذود عن أرضها، فى حرب وجودية، دار الصراع فيما بينهم وبين البشر؛ أدرك أهل القرية حجم الخطر الرابض على الحدود، وامتدت دائرة الصراع لم يعد خلافًا بين الأجيال، أدركوا أن عدوهم خارج الحدود، يعوق التنمية، ويقف حائلاً بين أمانى الشباب وطموحاتهم، آمن الشيوخ بأحلام شبابهم؛ فأيدوا موقفهم، وباركوا سعيهم.

فزعت الأفاعى وخشيت الفناء، فخرجت الأفعى الكبرى؛ تحض الحيات والثعابين على الثبات فى وجه أهل القرية، من بنى الإنس، تجر ذيلها فى خيلاء، تتمثل قول الشاعر الجاهلى الصعلوك:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ
عوى وصوت إنسان فكدت أطير

وهبت الأفعى تناضل من أجل البقاء، تدعو الأفاعى للتآزر مع الذئاب؛ كى لا يتمكن أصحاب القرية من اقتحام الِشعب، كان إثارة الخوف سلاحها وإرهاب القلوب منهجها، عقدت لواء المعركة للذئب فنجح سلاح الخوف فى كسبهم جولة الحرب الأولى.

تراجع الخلق.... عادوا إلى القرية، وتحصنوا بدورهم المتهالكة، اجتمع الناس ضحى فى ساحة المسجد؛ يتشاورون... يتساءلون....يفكرون....كيف السبيل إلى الخروج من ذلك الوادى الضيق إلى آفاق أرحب؟؟!!

ها هو الشرق مدجج بالأفاعى والذئاب،حشود من الأعداء... لن تبرح الأرض؛ وقد اتخذتها موطنًا، وفى الغرب بحور رمال متحركة، صحراء قاحلة تستحيل معها الحياة فى رغد من العيش، وأما الجنوب، فقد تناحرت حتى قاربت على الفناء، يضرب بعضهم رقاب بعض، نسوا الأخوة، وغادرتهم رحمة الإنسانية، سكنت قلوبهم غلظة الجاهلية وحميتها.

صاح شاب من أهل القرية: لم يبق لنا سوى جهة الشمال كمخرج من ذاك الضيق والتيه، نطرق أبواب الرزق، نعود محملين بالخيرات والأموال، يغادرنا بؤس الحرمان؛ نخطو ببلادنا نحو المستقبل.

قاطعته سيدة عجوز: إنه البحر...بأمواجه الغادرة، لا يمكننا ركوب المخاطر بتلك الفلك المتهالكة؛ إنها بلا شراع...بلا مجداف ولن تحتمل طوفان البشر؛ ستغرق قبل العبور إلى الشاطىء المجهول، من ذا الذى يبيع العمر بحفنة من المال؟!!.

جاء رجل يسكن أقصى القرية: أنا أنبئكم بما تقر به أعينكم، وتستريح ضمائركم؛ فاسمعون! قالوا كلنا آذان صاغية، لئن أرشدتنا لما فيه صلاح أمرنا، أقل عثرتنا، وشد أزرنا... فقال: لن يهلكنا الدهرُ ما دام فينا رحيق الأملِ، وعزيمةُ الجبال، وصمودٌ فى وجه المحن، حب العمل يورث العلم، والعلم يثمر التقدم والرفعة، وهؤلاء الجند شبابنا دروع الوطن....عدتنا وعتادنا...أغلى ما وهب القدر...

أجاب الشاب — وقد اشتعل حماسةً - : سننتصر فى معركة الحياة بقهر الخوف؛ فلنحارب الذئاب بسيف الخوف...وأعدكم أننا سننتصر، فلنقهر عيوبنا، نهزم ضعفنا، نحارب الفقر،ونواجه ريح الجهل....لنلحق بركب الحضارة؛ فلقد سئمت ضيق القرى، ولى روح نزاعة للمدن...

صاح الرجال: ومم يخاف الذئاب وتفزع الأفاعى؟!

هبت نساء القرية وقد اهتدين لحيلة: تخاف الذئاب من وهج النيران.... فأشعلوا النيران...

وتفزع الأفاعى من بنى الإنسان؛ فاجمعوا أمركم، وقفوا فى وجه عدوكم سواسية.

لنخرج إلى الشعب وفى يد كل منا شعلة من النيران؛ نرهب بها العدو فنتمكن منه، نطارده فنقضى عليه؛ ولتخلص لنا الأرض الطيبة آمنة مباركة، تحرسها خير أجناد الأرض.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى