

عيسى يُحيي الموتى مجددًا
هل شاهدت طقوس تزاوج العصافير من قبل؟
مشهد رتيب لكنه كان الأكثر إثارة هنا، وسط صف من الرجال يتبارزون بمآسيهم، كلُّ يزايد على من قبله بعدد من فقد اليوم ليبدل معه مكانه، وكأن الفقد صار شهادة استحقاق، فحين صاح أحدهم بمنتصف الطابور أنه فقد أباه وعمه قبل ساعة ويرجوهم أن يدعوه يتقدم لينتهي سريعًا ليلحق مراسم دفنهما، رد من يتقدمه بأنه أيضًا فقد جده صباح اليوم، وحين استشعر أن موت عجوز لم يثر تعاطف أحد حين لم يترحموا عليه حتى، فاستطرد بأن جده كان كل من تبقى له من عائلته، يستمع عيسى لهذا السجال بينما يراقب العصفورين يتقافزان بقفص حديدي يحمله صبي منتظر أباه على رصيف بالشارع، فلن يتمكن من المشاركة في تلك المبارزة العاطفية، لا يمكن أن يخبر أحدًا هنا بمن فقد صباح اليوم، يعلم أنه لو فعل فلن يمنحه ذلك موقعًا متقدمًا بالطابور، بل سيُحل بناءً عليه الطابور كله، لن يتلقى أحد من هؤلاء السذج -ولا حتى هو- رواتبهم المتأخرة منذ أكتوبر، لذا لن يفعل، ولقد أعاد المشهد في رأسه آلاف المرات، فحين يلتقي بصالح ويسأله كعادته عن أحوال أمه المقيمة معهم الآن بنفس الخيمة، سيطمئنه عليها، فماذا سيخبره! أمك ماتت، فهيا، امنحني راتبي حتى لا تموت أختي أيضًا! هذه الفظاظة ستحيله للفصل بالتأكيد دون أي حقوق، أم يخبره فقط بأمر وفاة أمه، وحينها سيبكي بين أحضانه لدقائق، ثم سيترك كرسيه ويذهب لدفنها بنفسه بجباليا، سيتأخر الراتب يومان أو ثلاثة إضافيان حتى يعاود صالح عمله بالمصلحة، وتكون الغَرغرينا أكلت من جسد أخته أكثر من ذراعها، ولأنه وعدها بأنه سيبتر يدها اليوم لن يفعل! لهذا كان مشهد تزاوج العصافير مثاليًا، كمحاولة منه لإعراض عقله عن سماع صوت ضميره، حتى وصل لدوره أمام كرسي صالح القابع بظهر دورة المياه.
ارتسم على وجهه ملامح التعاسة التي اعتاد أن يٌكسيها وجهه حين يرغب في تجنب الغوص في أي حوارات، لكن فور ما لمحه صالح نهض من مقعده وأغرقه فيها، وبابتسامة شقت وجهه احتضنه، ذلك الحضن يعرفه عيسى جيدًا، غالبًا ما يكون سابقًا لسيل من الأسئلة الاستخباراتية عن أمه وأحوالها ثم أحوال أهل جباليا، لا يعلم كيف فعل ورسم تلك الابتسامة فجأة وهو يؤكد له أنها بكامل الخير، لكن داهمة صالح بسؤال لم يرتب له عيسى: -أتصل بها منذ الصباح لِمَ لم ترد..ألم تزل معكم؟
لا يعلم كيف تمادى في كذبه، بل وابتسامته التي أخذت طريقها لوجهه قد توسعت: - بلى كانت تضفر شعر صباح حين خرجت...ربما لم تسمعه.
وضع صالح يده على كتف عيسى، تلك طريقة صالح المعتادة قبل إصدار الأوامر بدائرة السياحة، يفضل أن يكسوها بطبقة زائفة من الود، كما أنه بيده التي تعلو كتفه يُذكر المأمور أن لا مجال للرفض: - تخيل يا عيسى، ليس لدي صورة لأمي، لا أتصور أن تغب ثم انسى ملامحها.
ثم أردف وهو يربت على كتفه: -وتعلم! لا أعرف مصور أبرع منك ولا كاميرا أفضل من صبيحة.
ابتلع عيسى ريقه وهو يشرح له أنه مصور بنايات آثرية ولا يجيد البورتريه، ليرد صالح بابتسامته السمجة التي تلتها ضحكات متقطعة:
– وهي إمرأة عجوز!..أي تُعد من الآثار.
لم يستطع عيسى مقاطعة ضحكاته المسترسلة الصفراء إلا بنظرة لا إرادية لحقيبة يده التي يحمل فيها الرواتب، حينها داهمه صالح بنظرة مراوغة:
– حين تحضر لي الصورة غدًا ستتحصل على راتبك مضافًا إليه خمسون شيكلًا كزيادة خاصة مني، يمكنك اعتبار أنك ذاهب لمهمة عمل.
كان يهرع بين الشوارع ولم يتوقف إلا حينما لمح رجلًا يحمل لافتة مدون عليها أسعار دقائق المحمول بيده، انعطف نحوه واتصل بأخته، كانت لديه شكوك باستطاعتها فعل ما طلب منها، لكنه حين وصل وجدها وسط الساحة واقفة أمام الجثة وسط عشرات الجثث المتناثرة الملتحفات بالأكفان، تحمل له حقيبته، اتجه نحوها، وظل يتلفت حوله، يتفقد أعين الناس، حتى تيقن أن لا أحد يهتم، كُلُّ مشغول بحزنه الخاص على من كان يملك، أخرج كاميرته من الحقيبة وجلس بجانب الجثمان وقد فرد ظهره حتى يخفي به ما سيفعل، كانت نظرات صباح مصوبة نحوه تحاول كشف نواياه، لقد تمسمرت أمام الجثة حتى كفنوها كما طلب منها دون أن تعلم لِمَ، حتى وجدته يفتح طرف الكفن، وفور ما كشف عن رأس العجوز، أخذت تمنعه بصوت غاضب هامس، ظل يخبرها بأنه سيشرح لها فيما بعد، لكنها لم تتوقف عن محاولاتها لمنعه بكلماتها المتقطعة " حرام... الموت له حُرمة...ماذا تفعل!".
بينما كان يمسح وجه أم صالح من الأتربة بطرف الكفن، وضعت صباح يدها اليُسرى على عدسة الكاميرا، وقد حركت له رأسها بالرفض، حينها همس لها عيسى بغضب بعد أن أزال يدها عن كاميرته "إن لم أفعل ذلك، لن أستطيع تدبير أجرة عملية بتر يدك"، صوب نظراته تجاه يدها اليُمنى الملفوفة بالكفن المبقع بقطرات الدم الجافة، الذي يخفي الغرغرينا التي تأكل بجسدها يومًا بعد يوم، حينها فقط استسلمت صباح، أعاد عيسى نظراته مجددًا على أم صالح، أخذ يفتح عينيها، ثم صوب عدسة الكاميرا على وجهها، كانت نظرات صباح لا تقل ذعرًا عن نظرات أم صالح حينها، بعد أن فتحهما عيسى، كانت الصورة تظهر في عدسة كاميرته لجثة، شعر أنه لن يستطيع أن يُحييها كما اعتقد، حينها أحنت أخته ظهرها، وبيدها اليسرى المرتعشة وبهدوء أخذت ترسم بكف يدها ابتسامة على وجه أم صالح، كان يراقبها عيسى منبهرًا بجراءة فتاة لم تبلغ الخامسة عشرة عامًا، كانت لتوها تنهره عما يفعل! لكنها فور أن أزالت يدها غابت الابتسامة، أخذ يكرر الأمر عدة مرات، وفجأة ظهرت الابتسامة وحدها، سمع صوت شهقة أخته التي ابتعدت خطوة للوراء عن الجثمان لكنه حينها كان مشغولًا بالتقاط الصورة.
طوال الطريق لم يرفع عيسى عينه عن الصورة بشاشة الكاميرا، وهو يتفقد أنها لا تبدو لجثة، محاولًا طمأنة عقله، فور ما وصل وجد صالح بانتظاره بنفس المكان، لم تتوقف يده عن الارتجاف وهو يُطلعه على الصورة دون كلمة، لم يتوقف ارتجافهما حتى بظهور ابتسامة صالح، ولا بكلمات ثناءهُ عليها، ولا بوعده أن لا يزال عند كلمته بتخصيص ٥٠ شيكلًا إضافيه رغم أنه يستحق أكثر على حد قوله، حتى بعدما أرسل عيسى الصورة من كاميرته الكانون القديمة لهاتف صالح، ظل صالح يطالعها بمعرض هاتفه لدقائق، ولم يزل خوف عيسى خلالهما، بل تحول، تحول إلى شحنات من الغضب أشعلت رأسه حين وضع صالح يده على كتفه وبصق في وجهه بتلك الكلمات، والغريب أن لهجته تلك المرة ولأول مرة لم تحمل طابع الآمر، بل الرجاء، كادت عيناه تدمعان وهو يواصل اعتذاراته:-
– اعلم أنني وعدتك أن تتلقى راتبك اليوم، لكن...لا أخفي عليك...ابني كان بحاجة للعبور العاجل ليجري عملية صمام...أقسم سأعيد راتبك وعليه ما وعدتك به، أنا فقط استلفته وأنا أعلم أنك لم تكن ستُعارض..وأقسم سأعيده فقط في ظرف عشرة أيام.
لم يصرخ، لم يسبه، ولا، لم يكسر رأسه، لم يفتت الكاميرا عليه، لم ينفذ تلك السيناريوهات التي اختلقها عقله للتو! ولم تتحرر منه، فما حدث أنه تركه وذهب دون كلمه، بينما كان يطالع الناس طيلة الطريق على الصورة ويسألهم بجدية تامة فور ما يطالعونها من على شاشة الكاميرا: - أتظهر أنها صورة لجثة؟ هي كذلك وأنا من أحييتها.
من يومها لم يتوقف عيسى عن إحياء الموتى، فحين يتذكر أهل المتوفى أنهم لا يحتفظون بصورة عالية الجودة له، يتذكروا عيسى على الفور، أصبح معروفًا لهم كمعرفتهم بمواقع الأونروا ودورات المياه، وأماكن توزيع الوجبات، فينادوا عليه بينما هو يسير بين الأكفان، معلقًا كاميرته على رقبته، وخشبة صغيرة من الأبلاكاش أيضًا يعلقها برباط، مدون عليها قواعده الخاصة لتصوير الجثث: ١- التصوير من ساعة إلى ساعتين بعد الوفاة (قبل التيبث). ٢-تنظيف وجه المتوفى وفتح عينيه ورسم الابتسامة مسؤولية أهله، بينما يحمل بيده هاتف صباح بجرابه الوردي المرسوم عليه "باربي"، حيث يُطلع الناس على نماذج لعملاء له سابقين، وذلك عادة حين يفاصلونه في الأجرة مُدعين أن كاميرته لا تختلف عن كاميرا هواتفهم كثيرًا، فيفتح معرض الصور، وأول ما يعرضه لهم هي صورة أم صالح، وأخر ما يعرضه هي صورة أخته صباح.
ذاع صيته وتخطت شهرته حدود غزة، حتى جاءه صحفي ذات يوم يقنعه بأن يُجري معه تقرير، رفض عيسى، دون أن يبدي له كم الخجل الذي يحمله لنفسه لامتهانه هذا العمل، لكن استشعر به الصحفي، الذي كان مُصرًا فحاول أن يُجمل له مهنته بأنه يرسي قواعد جديدة في تصوير الموتى، والتي كانت مهنة مشروعة بالعصر الفيكتوري، سبّه عيسى، وقبل أن ينقض عليه سمع صوت إحدى المارة يصرخ عليه:
– هناك صاروخ بشارع العروبة يا عيسى.
هرع عيسى نحو الشارع متجاهلًا الصحفي، حاملًا كاميراته واليافطته المعلقة على رقبته، لكن تفاجأ حين وصل بعدم وجود قتلى أسفل الركام، أصبح يسير وسط المصابين على أمل إيجاد زبون محتمل، حتى سمع صوتًا لصغير مكتومًا أسفل الحطام، يده كانت تلوح من خارج الركام، الجميع مشغول بإنقاذ من يخصهم، ويبدو أن ذلك الصبي لا يخص أحدًا، حينها وقف عيسى يطالع يد الصبي وهي تستنجد به، لم تنساب دموعه، بل كان يبكي حينها كالأطفال خجلًا من نفسه، ليمسح دموعه فجأة ويقرر حقًا إرساء قواعد جديدة لمهنته، باليوم التالي، كان عيسى جالسًا بنفس المكان الذي كان يجلس به صالح، يدخن سيجارة على كرسي أمام دورة المياة، وقد دون بالطباشير على الحائط خلفه عبارة "استديو عيسى"، بينما الخشبة التي كان يحملها على رقبته، ساندًا إياها على منضدة صغيرة أمامه وقد دون عليها قاعدته الثالثة الجديدة: ٣- على أهل المتوفى أن يحضروا به إلى هنا للتصوير.