

عَلَى مَشارفِ القِيامة
وأنا أركُض فارّا من الأمسِ لأصطدِم عميقا بالآن، حسِبت أن عَقلي قد خَانني لكنّه لازال يَشمّ رائحة الموت من بُعدِ أعمار!
إن هذا العالم لا يُستساغ، فكنت أرمي مَا تبقَى منّي على بُقعةٍ مضرّجة بالسُّحقِ والألم هنا في مَوطني .. ألواح مُسندة تلبس بدلَة الخزيِّ، تَرقبُ ياسوعها وتقتنصهُ بكل بُرودة أعصاب، وكأنّ شيئا لم يحدث، وهم يدّعون الألوهية لكي يطمسوا العِرق .. فكان قبسه ينبثق من كلّ لُجّة، حتّى الطّيور لم تسلم من قناصتهم ليمسحوا فمها بعد وجبة دسمة.. كم هذا مخز إنه صوت الأقدام يأتي من رواقٍ مظلم، وهو يجرُّ الأرواح الحرّة لاعتقالها.. يُفتحُ بابُ الزّنزانة ،وعلى أفواه تلك الشّياطين طلاسم وشتائم، وهم يركلون الأسرى إلى ركنة محتومة (اللّه يكسر أياديكم) ماهو الذّنب الذي اقترفناه ياخونة ..إنّها مجموعة من الشباب زُجّ بهم في هذه البؤرة المعدومة ليسمعوا صوتًا خافتا، كتمتمة من شِفاه الزّاوية ذنبُنا أننا تجذّرنا بأرضنا وأصلنا ،وعَقيدتنا ذنبُنا أننا أبناء هذه الأرض تحفظ ناصيتنا كلما سجدنا لبارئنا ذنبُنا أننا ما هَجرنا وما انزحنا وما ترَكنا لهم ترابنا ... وهو يسعل ويلمّ نفسه بتلك الثّياب الرثة، وبطانية مقضومة الجوانب،كانت الجرذان تتلذذ بطعمها عليكم اللّعنة .. لعنة اللّه والنّاس أجمعين قَسّموا الخريطة أشلاء، وما تَبقّى منها أسكنوه وراء القضبان، تخونهم الهوِيّة،كيف للخطيئة .. نسَبٌ وأوطان!؟
محمّد عطية عبد السّلام .. السجين الذي يجهل رقمه ،ويحفظ على الجدران أرقام عُمره المندثر، وهو بغيَاهب السّجن، الذي ضفر الشّيب بين حيطانه الصمّاء، وفي كلّ مرّة كانوا يأتون بالأسرى ويحشرونهم في هذه القطعة من الزّمن، كلٌّ يقضي سنينه ويرحل،إ مّا يخرج مُحمّلاً على الأكتاف، أو حرًا ليُقتل فيما بعد
هكذا هيّ السّياسة القامعة، تجهد الكاهل وتحرق النّواصي.. لتبدد وحدة شعب يأبى الرّحيل يقتربُ منه أولئك الرّجال كيف حالك يا أخي؟! يرفع رأسه وشعره الأشعث المكتسي ببياض الذلّ والهوان، وتلك الكدمات على يديه، وجراح تسيل منها الدّماء والقيح وهو متلهف يسألهم ويكرر السؤال مرّة ومّرات كيف حال أمّي ؟!.. زينب بنت محمّد أتعرفونها واخوتي جعفر وقاسم وليلى لتغلبه تلك الدّمعة التى كان يكتحل بها .. وهو يَرمي بثقل ذاك الجسد الهزيل عليهم، و في كل قطعة منه وشمة تعذيب وبعين واحدة محاولا أن يستجمع تلك الملامح المحيطة به إنّه الأسير الذي لا ينسى .. قد خلق من صلصال الذّاكرة والتجذّر .. إنها العظام الهاربة من زَيْحَمِ الضّيم إلى كيَانها الفلسطيني بأرض الحكمة ليسقيه أحدهم شربة ماء من قنينة كانت الصراصير تعشعش بها .. لعنة اللّه عليكم ماذنب هذا المسكين لتتوالى الأيَّام والشهور وكُنّا نقتادُ إلى التعذيب هيّا أيتها الجرذان .. لحفلتكم، وفي كل مرّة يلصقون بنا تُهمًا لم نرتكبها،كانت استجواباتهم ملفّقة، قط ادّعاءات باطلة لنعود إلى ذاك المنفى.. والألم يلبس أجسادنا وكانت هناك عبارة على تلك الجدران البائسة تقول:( هي بجمال يوسف .. وحزن أبيه .. وغدر إخوته ..... وقد أبصر يعقوب من قميص يوسفه)
يقينًا متمسكين بذاك القميص، علّهُ يأتي من فَجٍّ عميق و يُرمى على عيني فلسطين، فتبصر الحرّية من جديد ليلطمنا الواقع المرير، وتنكل الأضغاث بصفحات منامنا، نحن مشوشون ولكن رؤانا تأويلها الحريّة .. والحريّة فقط وذات يوم استيقظ محمّدٌ فزعا وحبّات العرق مندلقة من جبينه المتورم وهو يصرخ إنّها القيّامة .. لقد رأيت ذلك أريد أن أرى عائلتي .. لا أريد أن أموت هنا كجرذ الأنفاق وكان وضع البلاد يتأزم أكثر، اليوم هم يبيدوننا بطائراتهم وصواريخهم
غزّة .. تُباد ،حتّى الأطلال لم يتركوا لها أثرا، لقد باتت على الأرض تستنشق التُّراب من مناخير نازفة، لقد خُنقت والتنفس والهواء فيها محرمٌ على العباد لا أكل تسد به الأرماق، فالمسغبة أضحت بالحشا تحكي معاناة شعب يُباد
رفح .. الأخت الصغرى الموءودة .. فستسأل يوما بأي ذنب قتلت وجنين .. أحرقت زيتونتها وتناثر رمادها يسوّد وجوه مخلوقات غريبة على أرضها.. لا يشبهون البشر!! وبيت لحم .. وغيرها ..
فلسطين أصبحت كقطعة مهشمة تقوم على تخومها القيّامة
ليأتي خبر الإفراج عن محمد، كبشرى تزفه عريسا بيوم زفافه.. هاهو الخبر ينعش الخافق الذي لم يُسمع له طرباً منذ سنين هل ستعرفني أمي.. ملامحي تغيرت كثيرا أليس كذلك أنا محمد ،لكن تغيرت لقد طُمِرت عيني.. وشاب رأسي.. وانحنت قامتي.. وأصبحت أعرج .. و و و وهو يُصفق ويدور في صدر الزنزانة
مبارك الإفراج يا أخي ليحتضن أصدقاءه.. ويودعهم و يتمنّى لهم الحريّة عاجلا غير آجل، وهو يخمن ماذا ينتظره بالخارج ياترى!!
ياه .. قد غيّر الظلم ملامح الطّريق والعناوين و الأحياء.. لكنه لا يستطيع تغيير الهويّة والذَّاكرةِ.. ونحن نغذيها من تراب هذا الوطن يمشي محمد تارة وتارة يهرول وتارة يحبو، كأنه هارب من لّعنة تقتفي أثره لتصفعه تلك المناظر، دمار في كلّ مكان أين مدينتي، وشارعنا، ودكانة العم حسن .. أين الجامع؟!
ليقترب من منزلهم .. وهو لا يرى سوى ردمة على الأرض ،وتحت وطأة الصّدمة راح يحتضن الركام ويبكي .. أمّي .. أمّي أين أنتم؟!
كحفرة سحيقة يملأها الظّلام .. جاثيا لا يفهم شيئا.. وهو يرتجفُ ويمدُّ ناظره إلى لا حدود من هذا الدّمار
ليتقدم إليه أحد المارّة، من تكون ياولدي!
وماذا تفعل هنا!
متشبثا محمد بسيقان الرجل، أرجوك يا أخي أنا أبحث عن أمّي وعائلتي ، اللّه يخليك دلني .. خُذني إليهم ولا تقل لي أنهم تحت هذا ... لا تقل لي ذلك وهو خائف يستبعد تخمينه عن ماسيؤلمه أكثر،لأنه لتوّهِ اعتِق من بعض آلامه تعال يابني، وراح يحكي له ماجرى، وعن هذا التدهور الذي طالهم ليردف قائلا: منذ أن خلقت هذه الأرض وهذا المستبد يبحث عن وطن لجبينه، وهذا المَسخُ إن شاء الله سيدفن بأشداق هذه الأرض الطّيبة ،لتعتصره وتقطع دابرهُ
والآن نحن نحتمي في مدرسة ،ليست بعيدة من هنا محاولين العيش لأننا إن عشنا اليوم بالكاد نعيش غدا، نحمل أرواحنا بالأكف و نمضي إلى وجهة معدومة ، وهما يطويان الخطى ،وقلب محمّد يدق كطبول الحرب بيومها الموعود هناك الأمُّ فوق الركام البائس، تلوّك الصَّبر ،وتنفخ في صدر الحياة نفسًا طويلا يأبى الرّحيل ، وعينه لا تكفُّ عن البحث، يبعث جنود نظرته يمشطون المنطقة ، علّهم يأتونَه بنبأ عظيم ...
إنها أمّي ياهدهد يقيني .. تلك هي أمّي .. وبصوت متقطع تخنقه الفرحة، والأسى ..
أمّي .. لتحمله الخطوات، فيجد نفسه جاثيًا أمامها ، وهي في دهشة تسأل نفسها .. بعد أن تمعنت جيدا في ذاك الجاثم أمامها أنا أعرف هذه الملامح، وكأن شيئا ما فيه يشبهني .. إنه ... لا .. لا .. أنا فقط أخرفُ
ليرمي محمد كلمات، ودموع تحرك ما ركد في نفس الأم ما عرفتنِي يا جنّتي .. أنظري أنا هنا ليزفر من حولهم في كمدٍ .. يا اللّه يا اللّه، مقبلاً رجليها، ويديها، وجبينها، وثوبها .. وهي صامتة دون حراك
أنا محمد يا أمي
هاهي الأم ترمي بالشوق على مدائن هذا المحروم المسكين
ولدي .. ولَدي أنت معي، أنت هنا ..
كانت فرحةً تمنّى الجميع عدَم زوالها، نحن هنا أفراحنا لها وقت قصير كلحظة ميلاد من فوهة السّلاح، ومخاض يقذفنا في جلباب هذه الحرب، فنصرخ صرخة قوية ،وبعدها نَستشهد
إن الحرب تضع أوزارها في شعاب هذا البلد كل يوم وكل دقيقة وكل ثانية..
يلتمّ الشمل بعد طول غياب ،وهذا حال الكثيرين في هذا الشقِّ المذبّح من الأرض
وهو في حضن أمه، يسأل عن غياب عباس، ليصدم باستشهاده ، من يعزينا يا أمّاه، والألم يعتصر قلبه العليل، الظلم هنا يباع في الأسواق بلا ثمن .. وفي الطرقات، وفي المدارس والمدائن ،والشوارع وهو يطال كل نقطة في تخوم هذا الوطن الحبيب
كان شَالُ أمي بردة تؤويني من حرمان يهز أطرافي كل ليلة
نحن محرومون من أجمل شيء في الدنيا وهي الحريّة
إنّ كبيرنا صبرٌ، وصغيرنا شهيدٌ، وكلّنا الوطن
وكان ينام وهو يمضغ الكوابيس، ليُطعن كل ليلة بذكريات أليمة
الأم وهي ترمق سحنة ولدها، المنكّلة وعينه التي غادرت ساحة أديمه قائلة: اللّه يكسر أياديهم، والدّمع يباغت تلك التجاعيد المستلقية على صِلصالها
نحن يا ولدي لاننام .. نحن ننتَظر وفقط!!
لقد داست على أطرافنا هذه السّياسة،وتركيبتها وكيانها النتّن، فهم ينسجون لنا ستائر الموت ليطمسوا الهويّة الفلسطينية
هاهو الصّباح يمدّ أطرافه ليحتضن ما تبقى من هؤلاء .. تختلط الأوقات والسّاعات في وطني ، كل السّاعات معطلة إلاّ ساعة الموت فهي تدق بقوّة، لتستيقظ الأرواح المتبقية تلعنُ دورهَا
لكن بداخلنا وعود تتوعد.. لن نبرح المكان، نحن هنا وهناك.. وقبوعُنا سيتعبهم يوما، وسترحل الرذائل منتكسة دون رجعة .. وهذا اليقين متجذّر بذواتنا منذ الأزل
ليخرج محمد وبعض الرّجال علّهم يأتون بالماء ،ويظفرُون ببعض الطّعام، ليسيحوا في الأرجاء، والدّهشة تزّمله وتشهق الركنة بداخله من هول ما يرى، وفي كل خطوة كان يردد (اللّه لا يوفقكم)
وعقب تنهيدة طويلة يردف متحسرا ،لست أدري من أين لهم بكل هذا الحقد والضغينة، وكيف يلجؤون لإغراق الأرواح في الأوحال لأجل إثبات وجودهم، ما نوع طينتهم
ليلمح شيخًا طاعنًا بالسّن .. يجلس على الركام يقلب يديه، والدَّمع يكبكب وجوده بلذعةٍ دامية
السَّلام عليكم يا شيخنا
وعليكم السَّلام والرّحمة
الصَّبر ياشيخنا .. نحن لا نملك غير الصّبر والدّعاء
الشيخ .. أضحى كل شيء في كمٍ من البشاعة، وهو يشير إلى غصّة تحتّل حلقه، وحشرجة تباغت صوته
هذا الثقب حالك السّواد في أتراعي، يضعف أجزائي، ويُتعب ذاتي ،لقد رحل كل من حولي ياولدي
ستعمُّ الفوضى .. وسنشتعلُ لننير خشبة الموت، وستملأ رائحتنا أرجاء الأرض نحن هنا كعربات الموت تحمل كل شيء قابل للفناء
لا يا شيخنا .. سيأتي اليوم الذي يرحل فيه كل هذا!
تتراكم علينا الهزائم ،ونفاق هذا العالم يؤذينا يا ولدي
ليحاول محمد التخفيف عنه، وهو يلمح بالركنة أطفالا يبكُون، ينبشون البقايا، ونساءٌ هناك يلطمن الأرض تارة ووجوههن تارة أخرى، إنه مشهد يدمي القلوب، كان كل واحدٍ في تلك اللحظة يصُبُّ ألف آهٍ بكأس محمد، ودواخله تصرخ لا تحزنوا إنّ اللّه معنا
وفجأة يسمع دويّ انفجار يكاد يَقدُّ صدر الأرض، لينتفض الجميع، ولوهلة بات كل شيء بلا حراك ،ولا صوت ، وكأنهم فراش مبثوث، تحمله الرّياح نحو المجهول
ليجد كل واحد نفسه أمام صفحة تمنى لو أنّه لم يصل إليها، نارٌ ودمارٌ، إنها غارة مباغتة استهدفت المدرسة التى كانت تؤوي العائلات
رعشة تهزّ كيان ذاك المسكين ،عضلات منقبضة، ثورة بالدّاخل .. الآن أنا أقف بعيدا جدا عن الحياة ،لتنقسم الذّكريات إلى جزئين ،جزء بالخارج يحتويني عاريًّا بلا دفء،كأنني حقيقة مجردة من أي وهم ،أمّا الثّانية فخفت أن أموت وفمي مليء بأرغفة الأمس القاسيّة
يكتسيه الخوف من هذا الواقع، فراح ينبش بيديه ويبحث عن ماتبقى منه، كسرتم ظهري،كسرتم وجودي، كسرتم أجمل ماعندي .. و الأصوات تتعالى هنا وهناك، عويل وصراخ .. عمّت الفوضى .. واشتعل النّاس لينيروا خشبة الموت
وستائر التُّراب والدّخان تتراقص غشاوة بالأعين، تهدّمت المدرسة وتهدمت معها الأجساد، هكذا نحن نموت دون ميعاد ،ليس لدينا الوقت لنودّع بعضنا، فقط نرى في الأفق أرواحًا تتعانق وتتصافح، مستبشرة وباسمة، تلوّح لنا من بعيد
يا حسرتي عليك يا أمّي لم أشبع منك .. ياويلي من كل هذا وهو يكمش على شالها تحت الأنقاض ويحفر بكلتا يديه علّ تلك الروح تحتضنه مرّة أخرى
لماذا ألحقتم بنا كل هذا الأذى.. أتخافون من نباتنا، وحصادنا، وجذورنا .. انتظرونا إن اللّقاء قريب.....
كمجنون بقدمين متورمتين ينبش هنا وهناك، أطراف مبتورة، رائحة الموت ... والموت فقط وهو يضرب على صدره
حتى وإن قمعتم هذا التُّراب ،سيُخلق تراب آخر أكثر قوة
رأسي يابس لن تفجره قذائفكم.. ونسلي بألف نطفة بصدر هذه الأرض سيخلق صنديدا من حديد
أنا الفلسطيني ..
زادت تلك الضربات الرّجال قوّة .. متوعدين برد الصّاع صاعين، وهم يزجرون نحن قادمون ولو بعد حِين
الجنُون يحوم على العقول ويكاد أن يتلبّسها، لكن هناك قوة خفيّة تدفعهم للإستمرار حتى وإن نسفوا سيبعثون خلقا جديدا.