فرج
كان سيء الخلق سيء الدين. لا يحبه أحد ممن حوله، ولا يستطيعون الانصراف عنه. ذراعه على الدوام معلق بذراع طبيب أو ممرضة أو ساع، وبين سبابته المقطوعة في كفه الآخر ووسطاه سيجارته التي لا تنطفئ، وفي أذنيه سماعة هاتفه التي تحول لونها الأبيض إلى سواد يثير النفس. ولا أدري لماذا يصر عليها بلونها المستحيل هذا ولا يغيرها إلى واحدة سوداء لا يظهر فيها الاتساخ. لكن أحدا لا يمكنه معاتبة «فرج» أو إبداء الرأي فيما يفعل.
يدير أعماله كلها من حجرته بعناية القلب بالمستشفى، فِرِِقاً لإحياء الأفراح وتعهدات لجميع الحفلات أيا كانت وفي كل مكان. ثم فتياتٍ يدفعهن إلى من يريد "تربيته" لأنه استهان به ولم ينصت إليه وهو يحكي بطولاته التي لا تنتهي.
عبثا حاولنا أن نفهم لماذا لا يخرج «فرج» أبدا من سجلات المستشفى. إنه النزيل الدائم لعناية القلب. والعناية قسم طوارئ سريع التغيير لمرضاه، فما أن تنتهي مشاكل المرضى الطارئة التي تحتاج لعناية فائقة حتى ينقلون إلى الأقسام الداخلية أو تنتهي أعمارهم فينتقلون إلى حياة أخرى. أما فرج فلم يكن يشفى أو يموت.
بل لقد كان يموت.
مات فرج قبل ذلك أحد عشر مرة، منذ تسلمت العمل إلى اليوم. مات في الحقيقة لا في المجاز. توقف قلبه المريض المثقل بغضبه علينا جميعا، وفي كل مرة كنا نقوم فيها بتنشيطه يستجيب. حتى أصبحنا مقتنعين أن الموت يزور فرج كما يزور البرد عوامّ المرضى؛ يرحل عنهم سريعا دون أثر أو علامة. وأصبحت عبارة كـ «فرج دخل في أرريست» لا تحمل من المعاني إلا ما تحمله عبارة كـ «فلان جاله برد» .. فيكون جوابنا الأول «ألف سلامة، هيبقى كويس لوحده».
حاولنا زحزحته كثيرا وكنا دائما نفشل. لا نعلم أي شيء وراءه. فحين يستغل أحد النوّاب غيابه خارج المستشفى لعمل من أعماله ويكتب على تذكرته: «خروج لعدم التواجد». تكون أول عبارة يكتبها أخصائي القسم على تذاكر المرضى: «بالمرور على القسم وجد أن المريض فرج المنزلاوي موجود........ثم: يكرر العلاج السابق».
وحين يصدر المدير أمرا شفهيا بعدم التعامل مع فرج يكون كتاب مدير الإدارة أسبق من أمره ومعلق على باب القسم وفي الاستقبال وفي كل مكان في المستشفى: بأن المريض فرج المنزلاوي حالة هامة يُلزَم الجميع بالتعامل معها وتقديم الخدمة المطلوبة منها ويحظر على الأطباء فلان وفلان الاقتراب منه أو التعامل معه لأن ذلك يعرضهم للمساءلة. وفلان وفلان هما طبيبان لا يحبهما المريض فرج ولا يأمن على نفسه معهما.
تذكرة فرج تزيد عن خمسين صفحة. فيها علاجه الذي يمليه هو على أي طبيب ولو كان طبيب عظامٍ لا علاقة له بشكاواه. وفيها أيضا كل عجز القسم وأقسام أخرى؛ فما من ممرضة يتلف لها دواء أو يُسرق إلا ويدون على تذكرة «فرج» الذي لا يُسأل عما أخذ وما ترك.
وحين يغضب فرج من أحد فإن أول ما ينسب إليه تعدٍ على فتاة بفعل لا يليق. وفتياته اللاتي لا يردندن له طلب كثير. وكم نسبت هذه الصفة لأطباء لم يرض "فرج" عنهم. وكنا نعرف الممرضة التي لم تمتثل لشيء من طلبات فرج حين تنقل من القسم وبحكايات تمس عفتها بعد ذلك. حتى أصبحنا نعرفها علامة على ذوات النفوس الصافية. لكن قول "لا" لفرج ليس سهلا وربما صح أن نقول عنه أنه ليس ممكنا دائما. فمن سلم من هذه العقوبات كان موعده في قس دم التحقيقات في الوزارة بتهم كثيرة جدا أقلها الإهمال في مهام عمله. ولدى "فرج" دائما أدلة لا تدحض.
ومهما يكن من أمر فحين يقصده أحد في قضاء حاجة ولو كانت في مكتب الوزير ذاته فإنها تنقضي ولم يتحرك. يتقاضى فرج أجورا يحددها على قدر المهمة. فأجر النقل بين المستشفيات يختلف عن أجر النقل بين المحافظات. يختلف بالطبع عن أجر إضافة اسم في كشوف الترقيات دون استحقاق.
* * * * *
«كود بلو»
مرة أخرى يتوقف قلب «فرج» ونسرع إلى العناية. نزدحم حول السرير الذي ينام عليه. تقف ممرضة بمنظار الحنجرة عند رأسه وتجهز الأخرى جهاز الصدمات الكهربائية وطبيب العناية يتصبب عرق جبينه وهو يضغط على صدر فرج كل قوته مرات كثيرة سمعنا منها صوت ضلوعه تتكسر. وأنا أتابع شاشة رسام القلب بيقين من عودته وأنا أضحك مع ممرضة تجاورني:
«دلوقتي هيقوم زي القرد، فرج مش هيموت بأرريست أبدا».
ولم تتم الجملة حتى كان الرسام قد بدأت خطوطه تترى دون انتظام. مرت لحظات قبل أن تنتظم ودقائق بعدها فتح فرج عينيه التي جالت فينا جميعا وصوته واهن وهو يقول:
«يا ولاد الكلــب»