الأحد ٢١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
نظرية مجنون الفطاحزة
بقلم أحمد محمد زغب

في العلاقة بين المدنس والمقدس

لمّا اعترض قوم كثير في إمكانية الاصطلاح بين الله والشيطان، رأيت أنه من الواجب توضيح أن الاصطلاح يصنعه الإنسان بين كل الثنائيات الضدية في الحياة بحيث يكون الإنسان مركز الكون.

نحاول أن نوضح هذه الفكرة، بأن العلاقة العدائية antagonisme بين الله والشيطان أساسها الإنسان، فلو لم يخلق الإله الإنسان ما كانت الأسطورة التي تحكيها الأديان الإبراهيمية لتحدث.

وعلى اعتبار أن الله أصل كل خير، والشيطان أصل كل شر، من الناحية النظرية، فكل ثنائية متعارضة إنما هي فرع عن الثنائية الأصلية، النور خير ، والظلام شر، الحق خير، والباطل شرّ، والجمال خير، والقبح شر وهكذا.

والإنسان هو الصلة بين هذه المتضادات، تحضرني نكتة شعبية، ربما أشارت إلى هذه الدلالة، من وجهة نظر المخيال الشعبي.

يحكى أنه مجنونا كان يقطن حي الفطاحزة (جنوب مدينة الوادي) يسمى الطربوشي، عاش إلى غاية أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وكان يتنقل بين القرى الجنوبية ووسط المدينة، كان مجنونا لكنه كان ذكيا أيضا ومرحا، اختصم قوم في بناء مسجد، ولم يكونوا يملكون إلا قطعة صغيرة من الأرض، اقترح بعضهم أن يكون المكان المخصص للوضوء في الطابق الأرضي وتكون قاعة الصلاة في الطابق الأول، لكن إمام المسجد اعترض بشدة، على أن تكون قاعة الصلاة فوق مكان النجاسة.

وكان لابد من إقناع الإمام بإمكان الصلاة في الطابق الأول، وأن النجاسة في الطابق الأرضي المراحيض وأماكن الاغتسال لا علاقة لها بقاعة الصلاة، سمع الطربوشي مجنون الفطاحزة بهذه المشكلة فطلب منهم أن يدعوا له هذا الإمام ليقنعه، فلما جاءه سأله: من أنت؟ أجاب: أنا الطالب (أي: الإمام). كيف أصبحت إماما، لماذا أنت إمام؟. أجاب: لأني احفظ القرآن. سأله أين يوجد القرآن الذي تحفظه؟ فقال: في صدري. ردّ الطربوشي على الفور وهو يشير إلى صدره: القرآن هنا. وماذا يوجد تحته؟ (وهو يشير إلى بطنه).

بهت الإمام وضحك الحاضرون وقالوا للإمام: لقد أفحمك الطربوشي. وهكذا لم يجد الناس حرجا في بناء قاعة الصلاة فوق الميضأة.

هذه الحكاية الطريفة على بساطتها، تفند ما ذهب إليه إميل دوركهايم، من علاقة العداء بين المقدس والمدنس، وبين الطاهر والنجس في كتابه (Les formes élémentaires de la vie religieuse p307).

يرى إميل دوركهايم أن الطاهر والنجس، المقدس والمدنس لا يجتمعان،إن المقدس في تصور إ.دوركهايم متماثل مع الديني، لذا وهو مميز بالتعالي عن حياة الأفراد، وهو الوجه المفارق والمتعالي لحياة الجماعة الدنيوية، وبسبب سماته وخصائصه تلك، لا يستطيع التعايش مع ما يعارضه ويهدمه أي المدنس.Durkheim.op cit p304

يرى دوركهايم أن المقدس هو كل ما تقوم النواهي الدينية بحمايته وعزله، أما الأشياء المدنسة فهي تلك التي تنطبق عليها هذه النواهي، والتي يجب ان تبقى بعيدة عن الأشياء الأولى.

والأشياء المقدسة يجب ان تنفصل تماما عن المدنسة، ليس ذلك فحسب، إنما تبعد عن كل ما يمت بصلة من بعيد او من قريب بالمدنس والحياة الدنيوية يجب ألا تتدخل بأي شكل من الأشكال في الحياة الدينية. ويطلب من المتدين (عند الشعوب البدائية) أن يتجرد تماما من ملابسه العادية، كشرط مسبق لكي يكون مقبولا للمشاركة في الطقوس التعبدية(op cit .p298)

صحيح أن وجهة نظر دوركهايم تتسق مع ما تذهب إليه الثقافة الشعبية، من أن الطاهر لا يلتقي مع النجس، والمقدس لا علاقة له بالمدنس، إذا حضرت الملائكة غابت الشياطين، وخمسة وخميس حضر محمد وغاب إبليس، والسبب كما نرى أن الإنسان حين يتصل بالمقدس لأداء الطقس، يحب أن ينقطع عن الدنيا ويتطهر والانطباع السائد أن هناك تعارض بل تناقض بين المحرمات الدينية (طقس الامتناع) وبين العبادات.

ولعل هذا السبب الذي يدعو عامة الناس إلى المباعدة بين عالم العبادة والقداسة والطهارة عن عالم البيع والشراء والمحرمات والدناسة، وهو الرأي الذي دهب إليه إمام جامع الفطاحزة المذكور آنفا.

غير أن مجنون الفطاحزة يجد له تأييدا لدى الكثير من الباحثين والمفكرين وعلماء الأديان والاجتماع، نذكر من هؤلاء علم الأديان البولندي مرسيا إليادMercia Eliade في كتابه الشهير المقدس والمدنس Le sacré et le profane. والذي يرى فيه أن الدنيوي لكي يكون ذا قيمة عند الإنسان التقليدي لا بد أن يكون له ارتباط بالعالم القدسي.

صحيح أن إليادEliade يستهل كتابه بالتعارض الشائع بين المقدس والمدنس فيقول: التعريفات الأولى التي يمكن إعطاؤها للمقدس أنه ما يعارض المدنس،(ص16).

يُظهر المقدس نفسه للإنسان، كشيء مخالف للدنيوي، وللتعبير عن ظهور المقدس وضع إلياد مصطلح التجلي hierophanie، ويعني أن بعض المقدس يظهر نفسه لنا، وكل الأديان تتشكل من تراكم مقدسات، ومن أكثر التجليات بدائية إظهار المقدس نفسه في شجر أو حجر، وإلى غاية التجلي الأعلى بالنسبة للمسيحي المؤمن تجسّد الإله في يسوع المسيح (ص17).

ويمكن أن نتحدث -نحن المسلمين– عن المعجزات والكرامات باعتبارها تجليات للمقدس، وأكبر تجل للمقدس لدى المسلمين النص القرآني الذي يقرّ المسلمون بإعجازه.

يضيف إلياد لكن الحجر – من وجهة نظر دنيوية محضة – يبقى حجرا، لا يميزه شيء عن الحجارة الأخرى، لكن بالنسبة لأولئك الذين يتكشف لهم حجر أنه مقدس، تتحول حقيقته مباشرة على العكس لحقيقة أخرى مما فوق الطبيعة. وبعبارة أخرى، بالنسبة لمن لديهم تجربة دينية تبدو الطبيعة برمتها أنها قابلة للتكشف بصفتها قداسة كونية، فالكون كليته يمكن أن يصبح تجليا قدسيا (ص17).

وبسبب من ميل الإنسان التقليدي للعيش في إطار القداسة، فالمقدس بالنسبة للإنسان التقليدي هو القوة وهو الحقيقة وغير المقدس هو الزيف. وهكذا يسعى الإنسان إلى أن يضفي على حياته القداسة أو يربط كل أفعاله بالعالم القدسي، العالم الحقيقي بالنسبة للمؤمن، مقدس؛ وكل ما عداه عدم وعماء(chaos). ولذلك فالدنيوي غير المقدس هو عند غير المدينين أو الملحدين، أما عند المتدينين فهو عالم غير معترف به.

وهكذا فكل فعل يجب أن يكرس حتى يكون تكرارا للخلق الإلهي البدئي، فتعمير مكان جديد لا بد له من طقوس، تنقله من العدم إلى الوجود الفعلي، والزواج يرفق بالطقوس حتى يصبح الرباط مقدسا وهكذا وتكرارا للفعل الإلهي....الخ

وهكذا فليس هناك تعارض، بل التعارض يوجد في حياة دينية عند الإنسان التقليدي، وحياة لا دينية عند غير المتدينين (الإنسان المعاصر).

ويذهب عالم الاجتماع المغربي نورالدين الزاهي في كتابه (المقدس الإسلامي) مذهبا قريبا من هذا، ومن دون مزاح يمكن أن نقول مذهبا مؤيدا ’’لمجنون الفطاحزة‘‘، فيرى أن العلاقة بين المقدس والدنيوي علاقة تراتبية في الثقافة الإسلامية.

بعد أن انتقد نور الدين الزاهي كلا من جوزيف شلهود ومالك شبل، في فكرة التعارض بين المقدس والمدنس، والقول بازدواجية الحرام لكونها تحيل إلى حدّين هما الممنوع المحرّم من جهة والتطهرpurification الإحرام من جهة ثانية، إن اختزال فكرة المقدس في الحلال والحرام عند شبل وشلهود لم يسمح لهما بالكشف عن تعقيد وحركية المقدس في الثقافة الإسلامية.

للمقدس دلالات متعددة، فهو يعني الاحترام، ويعني المنع، ويعني، البركة، ويشير إلى الطهارة كما يعني الانتهاك وخرق الحجب كما عند المتصوفة، ترتبط القداسة بالمؤمن في صيغة التقديس كما ترتبط بالزمان والمكان المقدسين(المقدس الإسلامي ص28).

إن هذه التعددية تبرز أن المقدس الإسلامي ليس مفارقا، بل متراتبا حاضرا في الذوات والزمان والمكان، وهذه التراتبية hiérarchie لا تجعله متعارضا او مناقضا للدنيوي، بل الدنيوي يحتل موقعا داخل الفضاء المتراتب للمقدس.

فالطبيعة في التصور الثقافي الإسلامي طاهرة أصلا، وهي مكان صالح لإقامة الصلاة، مالم يدخل عليها طارئ يدنسها، من فعل الإنسان أو الحيوان الشيطان. إنها مدنسة بالعرض لا بالجوهر. إضافة إلى ذلك فالحرام بعد من أبعاد المقدس وليس رديفا له، فللمقدس أبعاد ثلاثة: الحرام، الدنيوي، والمدنس(نفسه ص29).

أما الحرام فيقابله الحلال، اما الدنيوي فيقابله الديني، واما المدنس فيقابله الطاهر، ونلاحظ التراتب بين كل ثنائية من هذه الثنائيات.

مع الحلال والحرام يبرز التراتب فالحلال كله طيب وبعضه أطيب من بعض، بينما الحرام كله خبيث وبعضه أخبث من بعض كما قال الإمام الغزالي (إحياء علوم الدين .ج2/ص196).

فهناك الحرام المحض والحلال والمطلق، لكن الشبهات قائمة بينهما، هذه الشبهات تُخرج الحرام من دائرة بيانه ووضوحه ليتخذ شكلا متراتبا في خمس درجات:

1-الحرام المطلق 2-ما يتطرق إليه التحريم بحصول شبهة يجب التحقق منها، أو يكره، أو يستحب اجتنابه، وتركه يدخل في ورع الصالحين.3- ما يحرم للاحترام.4-مايحرم للاقتذار،5- ما يخاف منه أداؤه إلى محرّم (ينظر: الزاهي.ص30).

وتراتبية الحرام، هي ضمنيا تراتبية الحلال، وهي تبرز انعدام إمكانية وضع خط التوازي بينهما، فهما متعارضان ومتداخلان بدرجة يصعب معها فك وصالهما.

وما يقال عن ثنائية حلال /حرام، يقال عن الديني والدنيوي، فمن المعلوم، أن العمل الدنيوي، يتحول إلى عمل ديني بمجرد اقترانه بالنية، فالذي يسعى في كسب رزق أطفاله يبتغي بذلك مرضاة الله ينال أجرا، وكذلك معنى الحديث الذي يقول: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر، قال أرأيتم لو وضعها في الحرام ألا يكون عليه وزر، كذلك إن وضعها في الحلال فإنه يكون له بها أجر)(رواه مسلم).

وهكذا فالمقدس ليس خالصا إنما له علاقة بالدنيوي، كما أن الدنيوي ليس خالصا إنما له علاقة بالمقدس الديني، وهكذا فالعزل، والانفصال والتعارض بينهما ليس مسلما به، بل معرض للدحض والواقع يفرض على الإنسان المخالفة عما تقوله النظرية ولعل رأي الطربوشي مجنون الفطاحزة في الخلاف المذكور آنفا خير دليل.


مشاركة منتدى

  • عندما يجتمع المدنس بالمقدس، فهل هذا يعني ان من يتكلم باسم المقدس ،هو في باطنه مدنس حتى و ان كان ظاهره مقدس،أم يعني ان من يمارس العمل المدنس ،هو في جوهره مقدس؟ و ما هي العلاقة التي تجمعهما؟هل هي اعطاء الالوهية للمدنس،أم هي نفخ صناديق المقدس؟ و من يضمن استمرارية الاخر،المقدس أم المدنس؟ و من الاخطر جرما على الانسانية جمعاء،افعال المدنس أم افيونية خطاب المقدس؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى