الأحد ٢٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

في الفنّ وفلسفة الجَمال!

إن الجَمال، من حيث هو، إحساسٌ، لا قواعد له. هو كذلك، مهما تفلسف المتفلسفون حول «الأستطيقا»- منذ (هيجل) إلى ما شاء الله- ومهما حاول هيجل إقناعنا أن للفسلفة طابعًا عِلْميًّا، وبما أن لها ذلك الطابع، وبما أنها تُمْكِن مقاربة الجمال من منظورٍ فلسفيٍّ، فمقاربتها الجمال، إذن، مقاربة عِلْميَّة! وهذه مقدّمات خاطئة تُفضي إلى نتائج خاطئة؛ لأن الطابع العِلْمي غير العِلْم، إنْ سُلِّم للفلسفة بذلك الطابع أصلًا. بل مَن يُسلِّم أن الفلسفة تستطيع أن تقارِب الفَنَّ مقاربةً فكريَّةً محيطةً متَّسقةً ضابطةً لآفاقه، كما قد تستطيع في غيره؟ سيظل جَمال الجَمال في أن يكون مباغِتًا، بلا مقاييس سابقة، وبلا عِلْم قاعديّ. جَماله في تلك المباغَتة، وفي كسر القوالب السالفة. ولذا تأتي جَماليَّة الانزياح في النصِّ الأدبي؛ لكسره الإلْف. والجَمال ما لم يكسر ثابتًا، لا يكون جَمالًا، ولا يخلق فنًّا. غير أنه كسرٌ بلاغيٌّ، لا كسرٌ عبثيٌّ، أو تخريبيٌّ. لأجل ذلك كلِّه فإن مصطلح (عِلْم الجَمال) مصطلح عابث. لأن كلمة «عِلْم» تعني، ببساطة، إلغاء فكرتَي (جَمال، وفَنّ)، مباشرة. فلو أصبح للجَمال عِلْم، وللفَنّ مقاييس محدَّدة، إذن لانتفى جوهر الجَمال، ولفاضت روح الفنّ إلى عالَم الفناء؛ من حيث سينتفي عندئذٍ عامل الدهشة بانبثاق ذلك المباغِت الكاسر للتوقُّع.

أمَّا أسطورة (أفلاطون) الكلاسيكيَّة، حول ما أسماه (المـُثُل العُليا والمحاكاة)، أو فكرة (أرسطو) البدائيَّة الأخرى، حول (الطبيعة ومحاكاتها)، فلا تعدوان «أسطورةً أفلاطونيَّةً» و«تُحفةً تصوُّريَّةً أرسطيَّة»، لهما رفَّاهما في متحف الأفكار الفلسفيَّة. ولـمَّا كانت المحاكاة ذات منطلَقٍ بدائيٍّ، توثينيٍّ؛ أي أنها إنما تسعَى لمحاكاة صُنع الله في الطبيعة، فقد رفضها الفنُّ الحديث، كما رفضها الإسلام من قبل. ولقد ألمحَ هيجل نفسه، في كتابه «المدخل إلى عِلْم الجمال»، إلى الموقف الإسلامي من المحاكاة في التصوير، في تنويهٍ بهذا الوعي الفنِّي الإسلامي الرافض للمحاكاة والتقليد، وإنْ من منطلقات دينيَّة. ذلك لأن المحاكاة بلا هدفٍ، يكون أسمَى من المهارة في التقليد، هي انحطاطٌ بملكة الإبداع الإنسانيَّة. والفنّ الحقيقي بضِدِّ التقليد على هذا النحو البارد الرخيص، والدِّين كذلك هو بضِدّ ادِّعاء المخلوق مهارة الخالق، أو تقمُّص الإنسان تقليديَّة الحيوان.

أ تُرى- وشأن الفنِّ كما تقدَّم- ليس للفنّ رسالة، ولا على الفنَّان مسؤوليَّة ثقافيَّة وحضاريَّة؟ هاتوا فنَّانًا عربيًّا نهض برسالة الفنّ على وجهها، كما يفعل الفنّان في شعوب أخرى؟ هاتوا فنَّانًا كان له صوتٌ إنسانيٌّ كما كان لـ(مايكل هارت)، مثلًا، في أغنيته حول «هوليكوست غزَّة» منذ حين؟ إن أقصى ما يفعله أحدهم أن يُلغي حفلاته في الملمَّات حتى تهدأ العاصفة؛ لأن الجماهير غير مهيَّئين لأحاديث الهوى وشجون الغزل. ذلك لأن معظم الفنانين العرب غير مثقفين، ولا يستشعرون مسؤوليَّاتهم الأخلاقيَّة ورسائلهم التأثيريَّة والتوعويَّة. الفنّ لدينا غالبًا محض موهبةٍ فطريَّةٍ وتمرُّدٍ اجتماعيّ. ثم لأن الثقافة العربيَّة نفسها يغلب عليها أن تعزل هؤلاء قيميًّا، وتنبذهم أخلاقيًّا، وترسِّخ صورة الفنَّان البوهيمي لدى نفسه ولدى الناس، وأنه خارجٌ عن سياقه الاجتماعي والثقافي. فينشأ وهو يشعر أنه إلى عالَمٍ آخر منبوذ، لا علاقة له بقضايا الأُمَّة الحيويَّة وهمومها الجادَّة، وإنما وظيفته في التسلية، والعزف على أوتار العاطفيَّات الفرديَّة، من حُبٍّ ووصلٍ وهجران.

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان المقال: «في الفنّ وفلسفة الجَمال!»، المصدر: مجلة "اليمامة"، العدد 2264، السبت 20 شعبان 1434هـ= 29 يونية 2013م، ص33]. وعلى الرابط:
https://www.facebook.com/p.alfaify/posts/434872936611409


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى