

في حضرة الحرية
الساحة غمرتها هالة من سحر الماضي المليء بالحياة، كل زاوية فيها تنبض بحكايات حب لا تنتهي تتناثر كلحظات خالدة، تسكن الذاكرة دون أن يطالها الزمن ولا يلفها النسيان، الزهور تزين الطاولات متمايلة برقة النسيم الذي أنعم عليها بنعمة الحياة في كل نفس يمر، جاعلة من المكان عبقا للفرح، تلك اللحظة نفسها كرقصة هادئة تلتقي فيها أنفاس الماضي بأحلام الحاضر، كأن الحب قد تجسد أمام عروسي المقبلة بفستانها الأبيض المنساب على جسدها بخيوط من نور تتراقص كخيالٍ يسافر بين أطياف الأمل، شعرها الأسود الطويل يتساقط حولها كسجادة الليل التي تبث ضوء النجوم في سماءٍ لا حدود لها، عيناها اللامعتان تتسعان بترقب كأن كل شيء يدور في فلكٍ محكوم، الجميع في المكان يرقصون، يلتفون حوله معانقين الحياة نفسها، ينثرون منها كل قطرة حتى آخر ذرة من السعادة
أضواء المفرقعات تملأ الأفق، لم تكن تلك الأصوات مجرد ضجيج عابر بل كانت رسائل تحمل في طياتها شيئًا أكبر، ربما تحذر، ربما تبشر، لكنها تشبه تلك اللحظات التي تتأرجح على حافة الحلم. لكن، صوتا آخر يتسرب إلى أذنيّ، خافتًا في البداية، يزداد شيئًا فشيئًا كهمسات الليل التي تروي أسرارًا قديمة، ضعيفًا، لكنه كان يحمل إشارات موتٍ قادمة، الزمن نفسه اختصر مساره ليحمل نغمة النهاية التي تتسلل ببطء، تقترب منا بخفةٍ.
كان ذلك الصوت آخر ما استقبلته حواسي قبل أن أفتح عيناي على ضوء باهت وصوت ظل يتردد في أذنيّ كهمسات تتسلل دون استئذان بين طبقات وعيي المحطم، كل فكرة في رأسي لا أمل لها، جسدي أصبح هزيلًا، متهالكًا، وكأنني خرجت من معركة بلا أثر، شعرت بألم في أعضائي، أما عقلي فقد كان يرفض تصديق ما يراه وما يحس به، أسئلة تتراكم في رأسي بلا توقف : أين أنا ؟ أين أهلي؟ أين زوجتي؟
خلال لحظات الحيرة تلك، شعرت بطيف يقترب مني، لم ألمحه جيدًا، لكنني شعرت بحركته، كأنني في حضنٍ لم أتوقعه أعانني على النهوض، وجعلتني أقف على قدماي المتمايلتين قائلا بصوت حزين:
أيمكنك الوقوف؟
بصوت منخفض لكنه مليء بالقوة، كان سؤالًا بسيطًا، لكنه حمل في طياته معاناة لا أستطيع تفسيرها أومأت برأسي بلا وعي، وكانت تلك الإيماءة أكثر من مجرد رد فعل من جسدي، بل كانت اعترافًا داخليًا بأنني قد أحتاج إلى مساعدته أكثر مما كنت أظن، بدأنا نسير معًا بخطوات ثقيلة، حاملين معًا عبئًا لا يستطيع فرد واحد تحمله، شعرت بكل عضلة في جسدي تحارب نفسها، لكنني لم أعد وحيدًا، كانت يد الشخص الذي يساعدني لا تترك يدي.
كيف تشعر الآن؟
سألني محدقا في عينيّ، ونبرته مليئة بالقلق، لكنني لم أرد أن أرهقه بمشاعري فابتسمت ابتسامة لم تكن تخرج كما ينبغي كانت هشة، ضعيفة، كما لو أن الريح قد نثرتها، كان السؤال عميقًا، يحمل أبعادًا لا أستطيع أن أجد لها جوابًا، في الحقيقة، لم يكن الأمر متعلقًا بما حدث، بقدر ما كان متعلقًا بما سأفعله بعد ما قد حدث كنت أعرف أنني لم أكن على ما يرام، لكنني لم أستطع أن أواجه ذلك، في تلك اللحظة، كنت أحتاج إلى شيء أكثر من مجرد إجابة، فاخترت الإنكار فأجبت بصوت منخفض، في محاولة للتهرب من واقعي الذي بدأ يتسرب إليّ.
أعتقد أنني لا أستطيع تذكر كل شيء
واصلنا المسير في هذا الممر الطويل، حيث كانت كل خطوة تزيد من عمق الحزن الذي يلتهمني، كل الوجوه التي مرت أمامي تحمل في طياتها أوجاعًا قديمة وحديثة، وجراحًا غائرة في النفوس قبل الأجساد، حتى الأطفال، الذين كانوا يصرخون بحرقة، محاولين ابتكار طرق تخفف الألم، لم تكن صرخاتهم سوى جروح جديدة تضاف إلى جراح المكان.
قدماي تتعثران على الطريق المظلم،وكل خطوة أخطوها تضغط على قلبي، تجعلني أثقل بأعباء كنت أظنها بعيدة عني، وفي تلك اللحظة، جاء الصوت... خافتًا، متموجًا كهمسات في الرياح، كأنها كانت تحاول أن
تلمس أعماق قلبي، أن تستخرج مني إجابة لأسئلة لا أملك لها جوابًا:
أيمكنك التعرف على أحدهم؟
سألني وكان السؤال يشبه لغزًا قديمًا، أشبه بالذكريات التي ضاعت في الزمان ولم تعد، حاولت أن أمسك بما تبقى من يقيني، ولكن قلبي كان في مكان آخر، محاصرًا بين الحيرة والغموض، الوجوه أمامي كانت ضبابية، كأني أشاهدها في حلم لا أستطيع أن ألتقط تفاصيله، وجهًا هنا، وآخر هناك، لكن لا شيء واضح كنت أعرف، في أعماقي، أن هناك شيئًا مشتركًا بيننا، شيئًا أكبر من الذاكرة، أقوى من الخوف، لكنني كنت عاجزًا عن تحديده.
زوجتي ممددة بلا حراك، كأنها حلمٌ انتهى قبل أن يبدأ، جسدها فارغًا من كل شيء إلا من الذكريات التي تختنق في صدري، عيناها اللتان لطالما كانتا تروي لي حكايات العالم، أُغلِقَت عليهما أبواب الحياة إلى الأبد لم أعد أعرف هل كان الموت هو من أوقف نبضها، أم أن الوقت هو من ابتلعها في لحظة غفلة. كان كل شيء يهمس لي بأنها قد رحلت، وأن ما بقي أمامي هو مجرد بقاياها، لا شيء حولي سوى تلك الفراغات التي تركتها. كنت أراها كأنها جزء من هذا الألم الذي يلتهمني، كان الموت حاضرًا في كل تفصيلة، حتى في سكونها. لا صوت يعلو سوى همسات قلبي الذي يرفض تصديق ما يراه، كنت في كابوس لا نهاية له، حيث كل لحظة في وجودها كانت رحلة طويلة، والآن أصبحت تلك الرحلة شبحًا، لا طعم له ولا رائحة.
كل ما تبقى لي من رغبة في الحياة ملؤه فراغ كان أوسع من أن أملأه بالكلمات، التي اختفت تاركة إياي عاريًا، ليس فقط من موت كل من أعرفهم، كنت أبحث عن شيء ضاع، شيئًا كان يعني لي كل شيء، لكن لم يكن هناك من يجيب، أردت أن ألمس وجه زوجتي كآخر لمسة للسعادة في تفاصيل حياتي، كما لو أنني أحاول أن ألتقط ما تبقى لي من لحظات ناعمة، تائهة بين عينيّها المنطفئتين، لكن ذراعي خذلَتني كأنها لم تعد قادرة على حمل ثقل التعاسة التي غمرتني، بحثت عنها في فراغي، لكنها اختفت، التفتُّ إلى مرافقي وقلبي يصرخ بصوت متردد كمن يبحث عن الموت وسط العزاء:
أين اختفت ذراعي؟
حدق إليّ بنظرةٍ مليئة بالشفقة، كانت عينيه تحاول أن تلتقط ما تبقى من أجزائي المبعثرة في الفراغ نظراته التي كنت أظن أنها تحمل في طياتها بعض القوة، الآن تتناثر كقطرات مطرٍ حزين، تذوب في جوٍ خانق، يكاد يبلعنا جميعًا، أنفجر صوته، يحمل بين طياته حزنًا أعظم من أن يوصف، كأن الكلمات التي كان يحاول أن يُنطقها قد أصبحت عاجزة عن التعبير عن الألم الذي كان يعتصر قلبه. ثم... انفجرت عيناه عبرات تحمل ألمًا عميقًا، ألمًا كان أكبر من أن يُحمل داخل قلبٍ واحد، لكن صوتًا قويا قاطعه، صوت اخترق الصمت الجاثم على المكان، شديدًا وحاسمًا، كان الصوت يحمل في طياته قوة لا يستطيع الحزن أو الألم تحديها. تردد في أرجاء الغرفة لرجل يقطع كل ما حاولت أن أخفيه في نفسي، ويجعل من كل دمعة لا تزال في عيني عبئًا ثقيلاً، توقفنا جميعًا في تلك اللحظة كأن الزمن نفسه أوقف حركته، ولم نعد نعرف إن كان هذا الصوت سيشعل المزيد من الحزن أو سينهي ما بدأه الوجع ، صارخا بكل ما يحمله الصبر من ألم:
"متعيطش يا زلمة... كلنا شهداء، كلنا مشاريع شهداء".
انفجرت كلماته في أذنيّ حتى شعرت بشيء غير ملموس في جوف روحي، فأغمضت عيني على واقعي المبتور الذراع والفؤاد ولم أفتحهما إلا وأنا ارتدي الكوفية التي تشعرني أني أرتدي خيوطًا من تاريخٍ طويل، تغزله يد الزمن في أرضٍ لا تعرف إلا الصمود، جسرٌا يصل بين الحلم والواقع، بين الحنين والمقاومة.
ما إن اقتربت من نقطة التفتيش حتى توقفت أمامي عينان غادرتهما الرحمة منذ زمن طويل، كان الجنود ينظرون باحتقار إليّ، لكنني في أعماقي أنني لست مجرد جسد مبتور، بل روح لا يمكن كسرها، كانوا يظنون أنهم هزموني حين اخذوا جزءا من جسدي، لكنهم لا يعلمون أن الثورة ليست جسدا وإنما روحا تتنفس الحرية ولا يمكن لأي بتر أن يكسرها، نظرت إلى عيني الجندي الواقف أمامي بينما كان يمرر أصابعه على أطراف ثوبي الفضفاض، توقف للحظة، لحظة تكاد تكون أبدية، كانت عينيه تغرق في بحث عميق عن شيء في داخلي، شيء لا يراه سوى من يعترف لنفسه بمسؤولية المواقف، تغيرت ملامحه فجأة، كأن الضوء قد انكسر في عينيه ليظهر ما كان يختبئ طوال قرون في أسلافه، فقد تيقن بما أحمله وأدرك حقيقة ما كنت أحتفظ به، تلك القطعة الملتصقة بروحي قبل جسدي بإحكام.
حدق الي بتلك النظرة التي استحقت كل حياتي، تلك النظرة التي تكشف ضعف كل الأساليب التي سعت إلى محونا، نظرة خوف حقيقي، فقد اكتشف أن كل القوة التي يعتقد أنها في يده قد فقدت جدواها وأنه يواجه شيئًا لا يمكنه هزيمته .
أصابعي ثابتة في هدوءٍ كما لو أن العالم كله قد أغمض عينيه عني لحظةً واحدة، وأخذ يراقبني وأنا على حافة قرارٍ لا عودة منه، علمت في تلك اللحظة أني سأضغط على أكثر من مجرد زر، بل جزءا مني، من آمالي، من ثورتي، من حبٍ ضاع وألمٍ لا ينقض، لحظة واحدة شعرت بشيء ينبض في داخلي، شيئًا أكبر من الألم، أكبر من الفقد كان نبضًا جديدًا، نبضًا يحمل في طياته بداية لا نهاية لها... نبض الحرية، وفي تلك اللحظة، رفعت صوتي ضاغطا بكل ما تبقى مني على الزر صارخا : أنا الآن حر.